قراءات نقدية
دراسة سيميائية لرواية المدينة بدم كاذب
أحمد ختاوية يطارد أفعى الغثيان، على منوال جان بول سارتر، بوجودية تقود نحو الإيمان:
عنوان رواية الكاتب أحمد ختاوي المدينة بدم كاذب لما هذا العنوان المكون من المدينة.. بدم.. كاذب
هل يعكس هذا العنوان محتوى النص، هل يجذب إهتمام القارئ؟ أليس هناك خشية من تضليل القاريء إذا كان غير مناسب؟
قبل أن نبحث عن إجابة لهذه التساؤلات ينبغي أن نشير إلى وجود تناص بين هذه العبارة وهي العنوان وما جاء في سورة يوسف وجاءوا على قميصه بدم كذب) أي: بدم هو كذِب، لأنه لم يكن دم يوسف)
إذا كانت المدينة هي القميص فالمدينة التي جاءت في الرواية هي بوسمغون تقع في الجنوب الغربي من الجزائر حيث عانت من ويلات الاستعمار قبل الاستقلال والتهميش وقلة التنمية بعد الإستقلال، أم هي باريس العاصمة الفرنسية مدينة الجن والملائكة كما قال عنها الأديب المصري طه حسين وهي أيضا كانت مسرحا لعمليات إرهابية عنيفة وهذا لم يمنعها أن تبقى أكبر عامل مؤثر في شخصيات ثقافية وفكرية وإبداعية عربية ومغاربية،بدم كاذب هل هي دماء زَكِيةٍ كدماء ثورة التحرير نوفمبر 1954 لأجل قضية حق،عادلة وهي المطالبة بالاستقلال وخروج الإستعمار فسالت دماء الجزائريين في بوسمغون وغيرها من مدن الجزائر،وسالت في باريس دماء المهاجرين،إنها صفحة من أحلك الصفحات في تاريخ فرنسا. في 17 أكتوبر/تشرين الأول عام 1961 ومع اقتراب الحرب الجزائرية من نهايتها، قمعت قوات الأمن الفرنسية بعنف مظاهرة نظمتها جمعية "مسلمو الجزائر الفرنسيون" (FMA في العاصمة الفرنسية باريس. فما كانت جريمتهم؟ الاحتجاج والتظاهر السلميان تلبية لدعوة أطلقتها جمعية "جبهة التحرير الوطني" (FLN) في فرنسا للخروج في مسيرات ضد حظر التجول الذي فرضه عليهم موريس بابون مدير أمن العاصمة.
في تلك الليلة وفي الأيام التي تلتها، قامت الشرطة الفرنسية باستخدام القوة في قمع المتظاهرين وضربهم وإعدام بعضهم وإلقاء جثثهم في نهر السين...
لكن وللأسف الدماء التي سالت في التسعينات من القرن الماضي، بما سمي بالعشرية السوداء وهي مرحلة الإرهاب الذي زرعته أيدي الخفاء بإسم الدين وراح ضحيته مئات الألاف من الرجال والنساء والاطفال، من الأجانب السياح والرهبان هنا في أرض الوطن وفي باريس كان دمًا أُهْدِر بغير حق كان دما كاذب بكل معاني الكلمة فمن هذه الحيثية يكون المؤلف قد عبَّر بهذا العنوان عن محتوى النص، وجذب القاريء بصدق إلى قضية إظهار الحقيقة وكشف الزيف والتلفيق ويكون بذلك لم يضلل قاريء الرواية.
يحكي الروائي أحمد ختاوي عن وضعيات تثير الحزن والقلق حتى اليأس والسخرية عن المجتمع البوسمغوني قبل الإستقلال:
كان يسرق المفتاح كلما سنحت له الفرصة من صدر أمه العجوز التي تصلي كل صلواتها بالفاتحة وسورة الإخلاص،ليفتح صندوقا صغيرا تختزن به رغيفا من الشعير
كم كان مملوءا بالنرجسية وباليتم والعوز أيضا.
قالت يعني الطفلة هذا فيتامين لا تمسوه بسوء .....
ولا توزعوه إلا بمقدار كيل كل ثلاثة أيام....
وبينهما كل الناس صيام فهمتم......
ثم يسرد لنا قصة الهجرة والهروب إلى باريس وفرنسا عموما
حيث يبتز المهاجر من طرف أرباب العمل من اليهود وغيرهم
ناوله سيدي كرتول قلنسوة يهودية وثمرا من عرجون متيم بخيام الصالحين وخواء اللحظات......
ثم بعد هذا ينقلنا عبر الزمن كيف يصير حالهم كجيل أول بدأ يتخلى عن ثقافته
كما توضحه الرواية عن شخصيات مثل العربي المدمن على الخمر والحشيش والقمار، محمود صاحب الحانة التي هي مرتع القمار والمخدرات وشوي شرائح لحم الخنزير....
زونة امرأة مغربية مهاجرة تشبه سميرة برودي تعمل في الحانة عشيقة العربي البوسمغوني ....
ثم ينقلنا المؤلف إلى جيل ثاني ولد في هذا الصراع والتفسخ
والضياع وهم أبناء المهاجرين الذي أستدرجوا بمكر في خلايا الارهاب ليجدوا أنفسهم في أفغنستان وجبال الجزائر وفي داعش يقودهم أمثال الزرقاوي.....
لماذا هذا الإنتقاء؟ لأنهم جيل يشده الحنين إلى اوطانهم إلى دينهم وعاداتهم فاستغل هذا الحماس ليخربوا به ما يحبونه من دين واوطان وأهل ووووووو
ينقل السارد هذا الحدث الأليم الذي يضرب الجزائر في أعماقها، وهي الدولة الفتية السائرة في طريق النمو بطريقة جميلة سلسة بين جيل هاجر قبل الاستقلال وابنائهم مع المهاجريين الجدد بعد الإستقلال:
اقترب العربي من شطيرة الخنزير، بصق عليها وهو يتأهب لمغادرة الحانة....
محمود يسأله وشطيرتك؟
العربي أعطيها للقطط يرد بنبرة حادة...
يستوقفه خبر عاجل محطة تي آف 1 الفرنسية مجموعة مسلحة تغتال رهبانا بضواحي البليدة واشتباك في منطقة الاربعاء
تمشيط أدغال الأخضرية بحثا عن معاقل الجماعات الإسلامية......
يرشق التلفاز والمذيع بنظرة ثاقبة..
يتنهد دون أن يعلق، وينصرف.....
يتخلل هذا السرد وصف رائع لحالة من الغثيان يعيشها العالم العربي بمشرقه ومغربه، نجده في أدبيات أمثال
غسان كنفاني، السياب ب والبياتي والجواهري ومعروف الرصافي.....
غناء يردد بكل أنواع الموسيقا الراي، الشعبي، المغربي، الراب
نفس الألم الذي خلق هذا الطوفان من الغثيان
أغاني الشيخة الريميتي، دحمان الحراشي، حسني، خالد، مريم عابد......
ثم يعرج بنا إلى أخطر معانات عانت منها الأمة الفتاوى على بياض من طرف مشايخ في التكفير والتفسيق والتبديع
إن رواية الاستاذ أحمد ختاوي إكتست نمط الرواية الوجودية........
والتي كان رائدها جانبول سارتر وسيمون ديبوفوار وبركامي
وغيرهم لأن لديهم نظرة أخرى للأدب حيث تقدم صور واحداث الرواية كما هي في المجتمع ليسمح للقاريء أن يشكل ماهيته من واقع حقيقي هو يتبناه ويلتزم به دون تدخل المؤلف ذاته وهذا ما لا نجده عند الشكلانيين والبنياويين والذين لم تصل افكارهم إلى تمييز الخطاب الأدبي عما سواه.
يعاني الإنسان أثناء تحقيق وجوده الذاتي من حتمية الاصطدام مع الذّاوات الأخرى ومع العالم الخارجي المليء بالمآسي والعبث واللامعقول، الأمر الذي يخلق عنده حالة من التمزق والقلق والضياع، تفضي به إلى العيش في دوامة من التناقضات والاضطرابات. انعكست هذه الحالات بصدق وعمق مكثّف في أعمال الوجوديين الأدبية، الذين حاولوا من خلالها خلق صور حية وحقيقة لهذا الصراع،فالكاتب أحمد ختاوي بهذا الاسلوب وإختياره لعبارات كعلامات إجتماعية الخاضعة للزمنكان ذات دلالة مشفرة تشير إلى أعمال إجرامية تهدم الدول وتدخلها في حروب أهلية كما نراه اليوم في افغنستان والعراق واليمن،ولا يقوى على مثل هذا إلا أجهزة إستخبارية ودول متمكنة ماديا تمد هؤلاء المجرمين بالمال والسلاح والمعلومات الدقيقة وأيضا يكون المؤلف المتبصر قد منح قرائه "لذة فنية"، يسميها سارتر "طرب فني". وهذا الشعور حين يظهر، يكون العمل قد اكتمل، ويرجع هذا الشعور- في أصله- إلى الانسجام التام، بين "الذاتية" و"الموضوعية"، وهنا، يبدو العالم بمثابة الأفق وراء موقفنا، أو بمثابة المسافة اللانهائية التي تفصلنا عن أنفسنا، فالعالم هو المجموع التركيبي للفكرة، أو جملة العوائق والأدوات على السواء.
ثم تسرتسل رواية المؤلفة كما يفعل الفيلسوف سارتر في روايته الغثيان عن وجود كله ضياع وإن كانت هذه الحالة
اوصلت سارتر ورفاقه إلى الالحاد لأنهم وجدوا تناقض صارخ في ديانتهم الكنيسية، فإنها ستقود غيرهم إلى وجودية إيمانية واستجابة إلى القوة العظمى والتي أقر بها سارتر لما لم يجد تفسيرا مقنعا في السير خلف هذه الماهية التي تسبق الوجود،فنحن نقول ان الإيمان الصادق والاحكام الشرعية الدينية من منقولها الصحيح وبعقل صريح دون تدخل اصحاب الهوى والطمع وفكر الاستعمار عند الآخر، ستوصلنا إلى بر الأمان،إلى السلام والوئام والعدل بين الروح والمادة وبين الفرد والمجتمع، وبين المجتمعات الإنسانية مهما باعد بينها الاختلاف المذهبي أو الديني لأنها ترجع في الأخير إلى القناعة والإقتناع بلا تشدد أو تعصب......
***
تأليف الأستاذ الشاعر رابح بلحمدي الجزائر
البليدة الجزائر