قراءات نقدية
قراءة سيميائية في رواية حَدِثُ القُبَرَة سعدي الصباح
سرد بصوت الكاتب، وهو ينطلق من عمق مرابع البادية في ترحال بين الشمال والهضاب العليا، ترافقهم الخيمة ومواشيهم.
كنت أجلس مع المؤلف واتنقل وأسيح في البادية، واعشق وأكره، وأفرح بنجاحاته التي تولد من رحم المعاناة والتحدي وأحزن لضياع فرص جميلة يشاء القدر أن لا تكون لحكمة كونية تظهر نتائجها من خلال النص المسرود.
الكتاب بعنوان حَدِثُ القُبَرَة، هذا العنوان الإيحائي يخلق مطابقة بين النص وشخصية السارد وبيئته فالقبرة ذلك الطائر المعروف بأنغامه العذبة، والذي ظهر في العديد من الأعمال الأدبية فرُمِز به إلى الفجر، فوجدناه كثيرا في كتب التراث والأساطير المختلفة لكن في مسرود سعدي صباح كان مرافقه رفيقا لأنه يكثر في بيئته الشبه صحراوية، فهو يسمع زقزقته في ذهابه وإيابه، أثناء لعبه وصيده، وكثيرا ما يجد أعشاشه في الارض، كان المؤلف يريد أن يرفرف مثله في السماء يصطاد أحلامه التي تزاحمت كنجوم السماء، يعتبر هذا الكتاب وصف لأعماق النفس البشرية وما يكتنفها من انفعالات وعواطف كتحدي الفقر، التخلف، الجهل والسعي للخروج من هذه البوتقة بإمكانيات جد بسيطة من عالم الاشياء تنتهي به إلى التألق والنجاح،كما أنه كان يغوص في الأرواح الطيبة من أهل البادية رجالا ونساء فيبين أجمل ما فيها من الخير والإحسان، تعلق الشاعر بالمرأة منذ مراهقته الأولى، كانت تعلمه وتدفعه ليتعلم أكثر، ويلبس أفضل، ومن العجائب كان يمر بإخفاقات فهو شاعر عاشق للفن بالفطرة، كان يجري خلف الجمال الذي يهبه الله حتى لا أقول تهبه الطبيعة لمخلوقاتها من فتيات أو صحراء، أو تلال، أو مروج. المؤلف يحب الجمال إلى حد بعيد، ينقله في روحه،ودمه ثم ينثره حروفا تغني وترقص،كان رومنسيا وسرياليا إلى حد بعيد، يصف نفسية الشخصيات التي مرت معه كما يفعل الاديب الروسي فيودور دوستويفسكي في رواياته المقامر، في قبوي، كان يصف الكريم حتى تحب أن تراه والابله حتى تمقته والحسناء حتى تحلم بها، يحكي عن نفسيات كثيرة متجردا من كل العقد بلا تهور أو قلة حياء عن امه. ما أجملك أيها الكاتب الرائع سعدي صباح نسمي هذا النسق بالجانب السيكولوجي.
أما النسق الثاني بلون آخر فيحمل كما هائلا من لوازم بيئته البدوية وأشيائها وأعمالها، من حيواناتها، نشاطات الموالين والفلاحين والمرتحلين الباحثين عن الماء والكلأ، عن المدن المعزولة من قبل الاستقلال إلى بعد الاستقلال ثم الزمن الثالث بعد زلزال الشلف وظهور التدين منه ما أفاد ومنه ما أستعمل في غير مكانه فكانت المنطقة ممرا لجحافل الإرهاب في الاخير زمن الرئيس بوتفليقة وما وقع فيه من وصول المفسدين لمراكز حساسة.
لو سألت اليوم واحد من الشباب كيف كنا نعيش ثقافيا واجتماعيا قبل الاستقلال أو في السبعينات فلا يعرفها لنسمي هذا السياق بالبعد الاجتماعي وهو بهذا البعد يكون قد ساهم في نقل التراث نقلة عجيبة ليس بمجسمات طينية من قلال وترس (شواري)، ومنجل، وأسماء الأشخاص، والخيمة الحمراء التي تميز ولاد نايل، أما السوداء تمثل عروش بني هلال وكل هذا يسهل الدراسة الأنثروبولوجي لحركية هذا الانسان في هذه السهوب والتلال هنا التراث يتحرك، يتكلم، يجري، يجلس، يغني ويرقص.
النسق الثالث يحمل بعدا تربويا وثقافيا، أما التربوي فالمؤلف نقل لنا صورة رائعة لمراحل تطور المدرسة الجزائرية عامة في مناهجها، وبناياتها، وتلامذتها ومعلميها، أيضا يحكي عن حالة التدريس قبل وبعد الاستقلال في تلك المنطقة مصورا فيها.
كل شيء المدرسة كفضاء يتطور من خيمة إلى تراب إلى بناء، التلميذ، تعلم المرأة في الريف، المعلم وتنقله، المديرين، المفتشين، الكل بمحاسنهم ومساوئهم ....
أما الشيء الرائع في حديث القبرة يحكي تطور الأدب خاصة وفنون أخرى من شعر بأنواعه وقصة ورواية بطريقة فنية أتمنى أن يدرس هذا الكتاب في مختلف الكليات الأدبية، الاجتماعية، النفسية. فهو مرجع رائع جدا. كأنه دليل سياحي لهذا الجزء الجغرافي السهبي الخلاب.
نتفاءل بأن مستقبل الجزائر الجديدة في جنوبها، أكثر من شمالها وليس هذا في المورد النفطي، بل كل الموارد من الطاقة البديلة، إلى الذكاء لدى هذا الإنسان، إلى كل ما في هذه البيئة من كائنات حية..
***
كتبه الشاعر رابح بلحمدي
البليدة الجزائر