قراءة في كتاب

سمير البكفاني: قراءة في العقل المُحاصر

أنماط التفكير المعيقة لنهضة المجتمع العربي لـ مروان دويري

كتاب جديد في سياقه، ومضمونه، وجرأته. عمل كاتبه البروفيسور مروان دويري؛ على إشادة بنائه بطريقة جديدة من نوعها؛ مستخدماً مبادئ علم النفس، واضعاً خبرته، وتجربته في ممارسة علم النفس العلاجي والطبي والتربوي، من أجل الوصول، لجذر المسألة، المراد إلقاء الضوء عليها، وتحليلها؛ ووضع الحلول التي تمكننا من التغلب عليها، والارتقاء بثقافتنا العربية، وتخليصها من البديهيات الموروثة التي علقت بها، عبر قرون، وأعاقت تطورها.

كل أنماط التفكير المعيقة للنهضة والتطور في مجتمعنا؛ تشكل جزءاً من ثقافة عربية، تطورت تحت سيطرة خمس سلطات تفرض السيطرة والخضوع، "والعقل المحاصر" هو عقل خاضع على مرّ القرون، لسيطرة لهذه السلطات الخمس، وهي: الطبيعة الصحراويّة، والقبيلة والنظام السياسي والاستعماري، واللغة والنصوص (الفقه)، والميراث الثقافي، والدين والقدر. تفرض هذه السلطات الصواب الواحد على الجميع، ولم تدع مكاناً للحوار، والرأي الآخر، وتجعله عقلاً قبليّاً وخاضعاً للسلطة، يتحاشى التفكير الحرّ والتجدّد خشية الإقصاء أو التخوين أو التكفير. وهكذا يبقى هذا العقل عالقاً بأنماط تفكير معيقة لنهضة المجتمع العربي وتطوره.

يركز د. دويري بحثه، على أنماط التفكير والمواجهة السائدة في المجتمع العربي، ما يقتضي تحليل "الشخصية القومية العربية" أو "الثقافة العربية" ولفهم كيفية تكوّن هذه الأنماط وتحليلها، اعتماداً على نظريات التحليل النفسي التي رغم تعددها، فإن جميعها تؤكد على دور الطفولة في تكوين الشخصية، وعلى السيرورة النفسية غير الواعية. والتي تتفق جميعها على أن شخصية الإنسان تتشكل نتيجة تفاعل الجاهزية الوراثية للطفل (الجينات) مع بيئته الاجتماعية (الأهل)، وتتفق جميع هذه النظريات أيضاً، على أن ملامح الشخصية الأساسية تتكون خلال السنوات الخمس أو الست الأولى لحياة الطفل. هنا، وكون الدين هو أحد السلطات الخمس التي تطورت ثقافتنا العربية في ظلها، وحيث أن منطقتنا، هي مهد الديانات السماوية الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلام، فعملت هذه الديانات في النقش على صفحات بيضاء (الأطفال)، حيث يكون هذا النقش، مقبولاً في أذهان أهل الابتداء؛ وهي لا تزال في بياضها الناصع، لتضع (هذه الديانات) عليها بصمةٌ، لن تكون إزالتها بالأمر الهيَّن عبر الزمن. على اعتبار أن بواطن المبتدئين كالشمع، تقبل كلّ نقش من دون أيّ نقاش.  والتي تبقى شبه ثابتة عبر مراحل تطوره، حتى سن الرشد.  إلا أن هذه النظريات غير متفقة على مدى ثبات ملامح الشخصية عبر مراحل تطورها. وأن تغيّر ملامح الشخصية منوط بحدوث تجارب صادمة، تقوّض البديهيات التي تأسست عليها، أو بتلقي الشخص علاجاً نفسياً معمقاً يعيد تشكيل نفسيته من جديد.. كما يقول الكاتب.

الثقافة العربية السائدة بين العرب المسلمين والمسيحيين، ومختلف المذاهب، والأقليات القومية، والإثنية، تتقاطع جميعها مع الثقافة الإسلامية، كما أن التاريخ العربي يتقاطع مع التاريخ الإسلامي للشعوب العربية وغير العربية. عند وصف الثقافة العربية-الإسلامية، نجد شخصيات تعكس صفات التنوير والازدهار والعقلانية، والانفتاح والتسامح والتعددية، أمثال (أبن رشد، فخر الدين الرازي، محيي الدين ابن عربي، جلال الدين الرومي، محمد عبده، جمال الدين الأفغاني، عبد الرحمن الكواكبي)، مستشهدين بآيات قرآنية وأحاديث نبوية، ووقائع تاريخية تؤكد هذا التقييم. وكذلك نجد من يشدد على صفات القبيلة والتعصب والعنف والانغلاق، أمثال (ابن تيمية، ومحمد عبد الوهاب، وسيد قطب، وأسامة بن لادن)، كذلك، يستشهد هؤلاء بدلائل تؤكد وجهة نظرهم، وما يذهبون إليه من أفكار.

وعن مفهوم النقلة في الشخصية القومية والثقافة، وهو من أهم مصطلحات التحليل النفسي، الذي يعبّر عن نقل ملامح الشخصية التي تكونت في الطفولة في ظروف أسرية وبيئية معينة، إلى سنوات الرشد بشكل غير واعٍ. يتابع د. دويري: الحقيقة أن فكرة النقلة لم تبدأ مع سيغموند فرويد، وإن كان هو من صاغها وحللها بوضوح وعمق. فكرة النقلة موجودة في تحذير عليّ ابن أبي طالب للآباء حين دعاهم ألا يربّوا أبناءهم كما رباهم آباؤهم، لأن الأبناء خُلقوا لزمان غير زمان آبائهم. إلا أن مجتمعنا العربي لم يَسِر بحسب ما دعا إليه عليّ، بل واصل الآباء والأسلاف نقل ما تربوا عليه إلى أولادهم جيلاً بعد جيل.

إن تسمية العصر الذي سبق ظهور الإسلام، بالعصر الجاهلي، يوحي خطأً بأن الأعراب قبل الإسلام كانوا بدون فكر وثقافة، من أجل تأكيد الجديد الذي جاء به الإسلام من عقيدة دينية وشريعة وأخلاق إسلامية. والحقيقة هي أنه لم يكن جاهلياً، بل كان مجتمعاً قبلياً تسوده العصبية القبلية، وعادات عنف كالثأر، ووأد البنات من جهة، إلا أنه، كان لهذا المجتمع وجه آخر تميز بنشاط تجاري نشط، وبالفروسية، والمروءة، والشهامة (عنترة ابن شداد) والكرم (حاتم الطائي)، وبحياة فكرية وأسواق ثقافية (سوق عكاظ) وشعر وأدب (أمرؤ القيس والمعلقات) من جهة أخرى. هناك إجماع بين الباحثين على أن القرآن لم يكن لينزل على صورته البيانية وبمعانيه البليغة والدالّة؛ لو لم يكن العرب في ذلك الحين يفهمون هذا الكتاب.

يقول الجابري في كتابه "العقل السياسي العربي" إن التجربة السياسية الوحدوية الأولى التي تجاوزت القبيلة بعد ظهور الإسلام، جاءت بعد هجرة الرسول إلى المدينة وإقامة تحالف بين المهاجرين والأنصار واليهود، يحكمه اتفاق "الصحيفة" أو المعاهدة، لمواجهة قريش، فكان هذا أول نظام سياسي فوق-قبلي يمارسه العرب، ويوضح أسس التعامل الجديد بين القبائل والفئات الاجتماعية المختلفة. إلا أن النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي "الاجتصاسي" الأموي والعباسي عاد ليكون قبلياً يتميز بثلاث ميزات على حد تعبير الجابري: القبيلة كنظام اجتماعي – الغنيمة كنظام اقتصادي – العقيدة كمرجعية دينية مُلزِمة.

هذه الميزات الثلاث غيّبت العقل المنطقيّ عن المنظومة السياسية. ولكي يتم الخروج من هذه الدائرة، دعا الجابري إلى استبدال القبيلة بالأحزاب والتنظيمات المدنية، واستبدال الغنيمة بإقامة اقتصاد إنتاجي، واعتبار العقيدة مجرد رأي قابل للنقاش والجدل، وتأسيس نظام ديمقراطي وعقلاني.

على الرغم من أن الإسلام كان يطمح إلى تفكيك القبلية وتأسيس دولة، فإنه يظهر مما جاء في مقدمة ابن خلدون ودراسات الجابري والحوراني، أن تأسيس الدولة الإسلامية لم ينجح في إلغاء نظام القبلية، بل إن الدولة بُنيت منذ العصر الأموي على أساس قبلي معتمدة اقتصاد الغنيمة الذي عمّق الطبقيّة بين المقرّبين والمشاركين في الحكم من جهة وعامّة الناس من جهة أخرى. أثناء حملات نشر الإسلام لم يُطلب من الأمراء وشيوخ القبائل التنازل عن مناصبهم وتفكيك النظام القبلي، بل طُلب منهم انضواء القبيلة برمتها تحت راية الإسلام، وهكذا كانت الدولة العربية الإسلامية، على حد تعبير الجابري، أشبه ما تكون باتحاد فيدرالي بين القبائل، حسب مفاهيم عصرنا.

يقول المفكر السوري أدونيس في كتابه، الخطاب والحجاب: "إن العرب لم يستطيعوا على مدى تاريخهم أن يبنوا دولةً، وإنما بنوا أنظمة سياسية مرتبطة بالقبيلة والطائفة وأهوائها، وهو ما يتناقض مع بناء الدولة وإقامة مؤسسات. 

وهنا يحيلنا د. دويري إلى تطور منظومتي الثقافة الجماعية – والفردانية؛ حسب النظام الاجتصاسي السائد الذي تتكون في كنفه كلٍ منهما. فمثلاً، التطور الاجتماعي-والاقتصادي- والسياسي "الاجتصاسي" الذي حصل في أوروبا وشمال أميركا، والذي جاء بالفردانية، التي ترافقت مع بناء مؤسسات الدولة التي تخدم المواطن، وتأثير ذلك في دفع مركب التغيير في النظام النفسي للفرد نحو الاستقلالية، ورافق ذلك تغييرات ثقافية في القيم والمثل العليا وأنماط التفكير والعادات؛ كل هذا، يفسر انتقال المجتمع الغربي من الإقطاع والقبيلة والخضوع للكنيسة والدين، إلى الليبرالية والفردانية وإعمال العقل والخضوع إلى الدولة وقوانينها. وهذا ما لم يتم في معظم مناطق العالم الأخرى، بما فيها العالم العربي الذي لم يتم فيه فصل الدين عن الدولة، ولم تقُم فيه دول ديمقراطية ترعى شؤون مواطنيها وحاجاتهم، وعليه، بقي الفرد العربي متعلقاً بمجموعة انتمائه (القبيلة، العشيرة، الحمولة، العائلة) وهذا ما كان عليه الحال في الدول العربية التي تخدم أنظمتها مصالح الفئة الحاكمة وأصحاب رؤوس الأموال فيها. 

وهنا لابد من الإشارة إلى أن المجتمع الفردي ليس أرقى وليس أفضل من الجماعي؛ إنما هما نمطان متعلقان بالنظام السياسي: دولة المواطنين التي تتيح الفردانية. أو غيابها، الذي يجعل التعلق بمجموعة الانتماء ضرورة وجودية. كما أن الطريق إلى الحداثة والتطور العلمي والاقتصادي، لا يمر حتماً عبر الفردانية؛ بل يمكن أن يتم، أيضاً، في البلدان ذات الثقافة الجماعية، دون التخلي عن المبنى الجماعي لتلك المجتمعات، وهذا ما نراه في دول مثل الصين وماليزيا واليابان وكوريا الجنوبية، والتي تتمتع جميعها بدرجات عالية من الحداثة والتطور ضمن منظومة ثقافية جماعية.

بعد الاستئذان من البروفيسور دويري، الذي ربما يشاركني الرأي: ليس من باب التشكيك بـ "نظريات التحليل النفسي"؛ ولكن، إذا أردنا أن نعتمد العلاج النفسي كأحد الحلول للنهوض مما تعانيه مجتمعاتنا، من حالة، التخلف أو التأخر. لما اتسعت الأرض العربية، للعيادات، أو ومراكز العلاج النفسي، رغم أهميتها، من كثرة ما تعاني منه ثقافتنا العربية، وشخصيتنا، وعقلنا العربيين، من مرض عضال مزمن؛ لا يخرجنا منه سوى الإصلاح الديني، الذي بنتيجته، يحرر العقل من القيود التي تكبله، ويضع حداً فاصل بين الدين والدولة، بعلاقة تقوم على حرية الرأي الاعتقاد، واحترام جميع العقائد، بما يكفله دستور عصري يساوي بين جميع الأديان؛ وبين المؤمنين، وغير المؤمنين. واللحاق بركب الأمم المتقدمة.

وفي الختام، لا يسعني إلا أن أشكر البروفيسور دويري لإتاحته لي الفرصة، التي مكنتني    من قراءة هذا الكتاب القيِّم، الذي يحدد كل ما يسهم بتخلفنا، ويعيق تقدمنا، من خلال شرحه بالتفصيل لأنماط التفكير المعيقة لنهضتنا، وتحليلها واقتراح الحلول لتجاوزها، من خلال التركيز على الأجيال الناشئة، في مراحل الطفولة المبكرة.

أخيراً، من المتعذر تغطية مختلف مواضيع هذا الكتاب في مقالٍ واحد. وأني أرى أن كل فصل من فصوله الخمس؛ وما يتضمنه من عناوين فرعية، يحتاج كل منها، إلى مقالٍ أو أكثر.. لذا سأقول إلى اللقاء في جولات أخرى.

***

سمير البكفاني – كاتب سوري

في المثقف اليوم