قراءة في كتاب
جمال العتابي: الدولة العميقة.. تاريخ المخططات السرية والحكومات الخفية

تعرّف "الدولة العميقة" أنها شبكة سرية خاصة تضم مسؤولين حكوميين، وتشمل أحياناً كيانات كبرى تنشط في الغالب في المجالات المالية وفي الصناعات العسكرية، وهي تعمل خارج القانون بهدف التأثير على سياسات الحكومات وتوجهها وفق مصالحها. بعض الخبراء يعتقدون أن "الدولة العميقة" عالم سفلي غامض تعمل فيه عناصر مؤثرة في الدولة، وخاصة في الأجهزة الأمنية والعسكرية، تستعين فيه هذه العناصر المتنفذة بإمكانات خفية، وميزانيات سرية كبيرة، ويكون نشاطها بعيداً عن أجهزة الدولة الرقابية الرسمية.
هذه المفاهيم والتصورات تناولها كتاب "الدولة العميقة" للكاتب إيان فيتزجيرالد، ترجمة أحمد الهاشم، الصادر عن دار الكتب العلمية في بغداد 2022، المصطلح يُستخدم للإشارة إلى البُنى الخفية وغير المرئية التي تمارس نفوذًا فعليًا على قرارات الدول، بعيدًا عن الأطر الديمقراطية الرسمية. يسلّط المؤلف الضوء على الكيانات التي تعمل خلف الكواليس ـ من أجهزة استخبارات، وشبكات مصالح اقتصادية، وعصابات دولية، ومؤسسات مالية وإعلامية ضخمة ـ يُعتقد أنها توجّه السياسات العالمية بشكل غير مباشر.
يعود فيتزجيرالد إلى التاريخ في تفسير مفهوم “الدولة العميقة”، إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، مع نمو نفوذ الاستخبارات والأمن القومي في الغرب، خصوصًا في الولايات المتحدة، كما يناقش كيف أن المؤسسات التي من المفترض أن تحمي النظام الديمقراطي، أصبحت في بعض الأحيان تحكمه من وراء الستار، يقف الإعلام في مقدمة تلك المؤسسات كسلاح لصناعة وعي زائف في توجيه الرأي العام.
يتساءل المؤلف عن الغرض من وجود الحكومات؟ إنه سؤال كبير، بينما يتفق معظم الناس على أن الحكومات موجودة لحماية مواطنيها من الأذى، ولضمان إطار عمل يعيشون فيه حياتهم بأمان وإنصاف، لكن ليس الجميع يرى الأمر بهذه الطريقة، إما من وجهة نظر الدول العميقة، فإن الحكومات ليست سوى الوسائل التي تعزز بها مصالحها، وعلى النقيض من ذلك، ليس عامة الناس سوى مشاة ومارّة يجب دهسهم إذا اعترضوا الطريق.
ما دامت هناك دول قومية، فثمة دول عميقة تتلاعب بها أو تقوضها، منذ عهد اليونان القديمة وروما، وحتى وقت قريب من انتخاب "ترامب " رئيساً للولايات المتحدة، هناك دولة عميقة، إنها منتشرة في كل مكان، وفي جميع الظروف، حتى يبدو من المغري إعادة التفكير في الحضارة كسلسلة كبيرة غير منقطعة عن المصالح الخاصة التي تسيطر على الأحداث. في حين يُعد الملوك والأباطرة والأمراء والسياسيون والرؤساء واجهات لسماسرة السلطة الحقيقيين في التاريخ، قد يكون ذلك في نهاية المطاف شيئاً من المبالغة، لكنها مجرد مبالغة ليس إلا.
الدولة العميقة موجودة بلا شك، تتجلى بأشكال متنوعة، تمتد في عمق التاريخ إلى الجنرالات الذين يحكمون الديكتاتوريات في مناطق مختلفة من العالم، من هناك يأتي الممثلون السيئون بسرعة ووفرة، ومع تطور مؤسسات الحكم في العالم الحديث، تطورت أيضاً الدولة العميقة المؤسسية أو البيروقراطية، لتهتم بالحفاظ على نفسها أكثر من اهتمامها بمصالح الدولة التي تخدمها اسمياً. وعلى نحو مماثل، مع صعود التجارة والأعمال والمال والتجارة، ظهرت الدولة العميقة للشركات للاستفادة من الثروات الهائلة والسلطة المتاحة.
ثم النظام المالي العالمي، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، لتشكيل سياسات الدول الفقيرة والضغط على الحكومات.
والاستخبارات كأداة تنفيذية للدولة العميقة، كذلك تتدخل في تغييرات الأنظمة، وتدير عمليات سرية في الخارج.
يقدم المؤلف أمثلة واقعية وتحقيقات لبعض التدخلات السياسية من قبل مؤسسات الظل، كما جرى في إسقاط حكومات عبر انقلابات ناعمة أو صلبة في دول (مثل تشيلي 1973، إيران 1953، مصر 2013 كمثال معاصر) واستخدام المنظمات غير الحكومية كواجهة للتأثير، والتلاعب بنتائج الانتخابات والتحكم في وسائل التواصل.
في الشرق الأوسط هناك فائض من العناصر الكفيلة وحدها في التسبب بصراع إقليمي، متمثلة بالصراع الديني والنفط والمياه والحدود المتنازع عليها، وبالتالي فهي المنطقة الأكثر تقلباً على وجه الأرض، وحيثما يكون هناك عدم استقرار، تكون هناك دولة عميقة تتشكل لدى بعض الدول، ومكشوفة في دول أخرى، " إسرائيل" إحدى كيانات المنطقة المتصدرة للدول العميقة، تركيا ومشاكلها مع الدولة الدينية العميقة، في مصر تبدو ملامحها في فضاضة السلطة العسكرية، والفرصة متاحة كي تنمو هذه الدولة في إيران والعراق.
أما في أسيا فهناك أدلّة مثيرة على وجود دولة عميقة في تايلاند وكوريا الشمالية، كذلك توجد البيئة المناسبة لها في دول أفريقية عديدة. بينما تعد أمريكا الوسطى والجنوبية الساحة المثالية التي تزدهر فيها الدولة العميقة. وفي روسيا شرع "بوتين" في إنشاء دولة عميقة خاصة به، تتمحور حول زملائه القدامى في الاستخبارات، ما يقرب من ثلث المسؤولين الحكوميين من 2000 إلى 2008 كانوا من جهاز " الكي جي بي" المخابراتي، ويعدّ سيرجي إيفانوف أحد قادته، كان وما يزال يشغل المناصب السياسية العليا، مما أتاح له جمع السلطة والثروة لنفسه وعائلته. وتستحوذ الدولة العميقة الروسية التابعة إلى جهاز المخابرات وعلى رأسها بوتين على مصادر الثروة في روسيا. أو حصص منها.
إن شكلاً جديداً من أشكال الدولة العميقة يدخل المعترك متمثلاً بصعود الحوسبة وتكنولوجيا الهاتف النقّال المحمول والنمو السريع للأنترنيت كوسيلة للتواصل وتبادل المعلومات، أدى إلى ولادة دول عميقة رقمية يمكن أن يتجاوز حجمها ومداها أي شكل من أشكال التأثير غير المسوّغ سابقاً. وفي الوقت نفسه، يقدم العالم السيبراني لكل دولة عميقة قائمة ـ سواء كانت على غرار شركة أو دولة عميقة سياسياً وبيروقراطياً وجنائياً وعسكرياً ـ فرصاً جديدة لتوسيع مصالحها ونفوذها أكثر من أي وقت مضى.
إن جهداً يحقق تفاعلاً معرفياً وحضارياً جدير بالتقدير، لقد قدّم المؤلف والمترجم معطىً ثقافياً نحن بحاجة إليه لفتح حوار مع أفكاره بصورة جادّة ومتجددة، ومناقشة التناقض بين ما يُعرض من "شفافية" ديمقراطية وبين حقيقة القرارات الجوهرية التي تُتخذ في غرف مغلقة، وكيف تؤدي هذه الظاهرة إلى تراجع ثقة الشعوب بالمؤسسات، مما يشجع على ظهور الحركات الشعبوية والمتطرفة.
الكتاب مدعّم بالأمثلة، ما يعطيه مصداقية، وقيمة تحليلية عالية اقترنت بسلاسة الأسلوب وسهولة اللغة. وعلى الرغم من غزارة الأمثلة، فإنه يُفسّر بعض الأحداث السياسية على أنها ناتجة بالضرورة عن "الدولة العميقة"، من دون ترك مساحة كافية لعوامل أخرى (داخلية ـ اجتماعيةـ اقتصادية)، كما أن بعض التحليلات تفتقر إلى الأدلة الوثائقية القاطعة، وتقوم على استنتاجات وربط أحداث غير مثبتة تماما.
يُذكر أن (إيان فيتزجيرالد)، صحفي وكاتب بريطاني معروف بكتاباته في مجال التحقيقات السياسية، والقضايا الأمنية، والظواهر الخفية في العلاقات الدولية، والمنظمات السرية، والجماعات المتنفذة التي تؤثر على مسار السياسات العالمية.
وغالباً ما يتصدّى للحروب غير المعلنة، والتدخلات السرية التي تشنّها الدول الكبرى، ولا سيما في الشرق الأوسط وآسيا. يجمع بين السرد الصحفي والتحليل السياسي، ما يجعل قراءته مثيرة ولكن تتطلب وعيًا نقديًا.
" الدولة العميقة " عمل مهم لفهم الكواليس السياسية والاقتصادية التي تدير العالم بعيدًا عن الأضواء. إنه دعوة للتفكير النقدي، يكشف عن القوى غير المرئية التي تُملي سياسات الدول تحت غطاء “الديمقراطية”. ورغم ميوله أحيانًا نحو التفسيرات التآمرية، فإن قيمته تكمن في إثارة الأسئلة أكثر من تقديم الإجابات النهائية.
***
جمال العتّابي