قراءة في كتاب

عبد المجيب رحمون: انحسار الأمواج وتعاقب أخرى

كيف تشكل الوعي الفكري والسياسي في سيرة "أمواج" للناقد العراقي عبد الله إبراهيم؟

عندما نقرأ السيرة فإننا نتطلع إلى اكتشاف ذواتنا؛ إلى البحث عنها بين السطور، بل نختبئ وراء السارد ليتحدث بلساننا، كأننا نستعير مفهوم "الرؤية من خلف" المعمول بها في تقنيات السرد في معظم الأعمال السردية. لكن لا يمكن للسير أن تتشابه، ولا يمكن لها أن تتطابق مع ذات القارئ؛ إلا أن هناك تقاطعاً معينا يحقق لذاذة له، هذا التقاطع قد يجده خصوصا في مراحل الطفولة، وأثناء المرحلة الجامعية، وإعداد البحوث، والنشر والتأليف. تختلف قراءة السير الذاتية عن قراءة باقي الأجناس الأدبية الأخرى، حيث تنتقل القراءة إلى انصهار وحلول بذات الكاتب؛ ومصاحبة، ومرافقة الكاتب في مساره ومسيرته، قد يكون الأمر شبيها بجلسات القص والحكي في التراث الأدبي والشعبي؛ حيث انتعش السرد وتنامى وتطور في المجالس، وحلقات الحكي. قد نسمي هذه القراءة؛ "بالقراءة الـمُصاحِبة" التي تؤكد بدروها ذلك الميثاق الذي يربط الكاتب بالقارئ، ميثاق السيرة الذاتية الذي تحدث عنه "فيليب لوجون": المطابقة، الصدق، يقول "عبداللطيف الوراري": «إن العمل لا يكون سيرة ذاتية إلا عندما يكون هناك تطابق بين المؤلف والسارد والشخصية، وكل سيرة ذاتية حقيقية تسعى إلى تأكيد هذا التطابق»1 . ومن هذه السير الذاتية التي تحتفي بهذا التطابق، وتعلي من قيمة الصدق بين السارد والمؤلف والقارئ، وتحقق مفهوم المصاحبة؛ سيرة أمواج2  للناقد العراقي "عبدالله إبراهيم"، وقد صدرت سنة 2017 بعنوان فرعي سيرة عراقية؛ وبين لفظتي: عراقية وذاتية، تكمن تفاصيل البوح السيري، لأن العراق شكلت عنصرا مبأراً وجدانياً داخل السيرة، فإن غابت عن الوصف المباشر نجدها تحضر في ذهن الكاتب وهو في ليبيا، أو المغرب، أو الأردن، أو قطر... لذلك يجوز لنا وصف السيرة بالسياسية؛ فلولا بعض الأحداث الشخصية، والوقائع الحميمية، وتجربته في الكتابة والنشر وإعداد الأطروحة وانخراطه في نادي النقد الأدبي، وتجربة التدريس الجامعي الطويلة،  لكانت السيرة سياسية، لأن السيرة شكلت في مضمونها تاريخ العراق الحديث، حيث انخرط الكاتب في الجيش، وأصبح مجنداً ومدونا للأحداث والمعارك السياسية والعسكرية بين العراق وإيران، وشاهدا على حرب الكويت، وغزو العراق سنة 2003، قبل أن يلتحق بسلك التعليم العالي بداية التسعينيات.

يؤسس الكاتب لسيرته من خلال الأمواج: «بني كتاب أمواج بشكل سردي اصطلحت عليه بالأمواج، وهو شكل اهتديت له في الكتابة، وأنا أدمن الوقوف على شواطئ البحر المتوسط وسواحل الخليج العربي، مدة طويلة، حيث لاحظت الأمواج المتلاحقة التي زرعت في نفسي فكرة أن حقب الحياة كأمواج تتدافع ثم تتلاشى»3 ، ورغم أن الأمواج من صفاتها التلاشي والاندثار، إلا أنه يجعل منها صرحاً متيناً للحكاية، فكان عرشها على الماء؛ من خلال إحدى عشر موجة في تناص مع أحد عشر كوكبا التي رآها نبي الله يوسف عليه السلام في رؤياه، وبين حركة الكواكب ودورانها يتغير مسار البحر، فتتغير أمواجه. هذه الصورة التي حكمت سيرة أمواج؛ «كانت حياتي منذ الطفولة، مزيجا من أحداث، وأفكار، وأهواء. لم يجهز أحد لي مسارها: لا أسرة، ولا قبيلة، ولا مجتمع، ولا دولة؛ فوجدتني أصنع مساراً لها يقوم على التواطؤ بين رغباتي الشخصية، وتطلعاتي الثقافية»4 . لقد طبعت حياة الكاتب مراحل شبيهة بالأمواج في تلاطمها وزمجرتها وارتفاعها: ﴿ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ ﴾ [هود: 42]. وفي وحشتها وظلمتها؛ كما وصف "امرؤ القيس" ليله الكالح الظالم الشديد السواد.

ولَيْلٍ كَمَوْجِ البَحْرِ أَرْخَى سُدُوْلَهُ

عَلَيَ بِأَنْواعِ الهُمُوْمِ لِيَبْتلِي

لقد مثلت هذه الأمواج في حركتها، وصخبها، وهدوءها حياة "عبدالله إبراهيم"، لذلك عنون فصول السيرة بالموجة، «وبذلك تلاشت أولى أمواج حياتي كبيضة الريح» (ص:86)، «وبانتهاء دراستي الجامعية، تلاشت موجة أخرى» (ص: 133) «واتجهت صباحا الى الأردن على ظهر موجة أخرى». (ص:459).  تنقسم السيرة إلى مرحلة الطفولة، والمراهقة، والدراسة الثانوية والجامعية، ثم الالتحاق بالجيش والعمل ضمن فريقه، ثم الاستقالة، والالتحاق بسلك التدريس الجامعي، ومخاض هذه التجربة على مستوى النشر والتأليف، وصعوبة تحرير أطروحته لنيل الدكتوراه، ومناقشتها، إلى جانب تبني مواقف فكرية نقدية ناصبت له العداء داخل الوسط الجامعي، والثقافي.

لقد اتخذ السارد من الأمواج معبراً وهروباً إلى ذاته، ووطنه، ففي كل موجة تقف ذكرياتٍ وأحداثاً، ومواقف «فتتلاشى وتنحسر [الموجة] لتظهر أخرى »(ص:407)، وإذا كانت خاصية الماء الاختلاط، والتجانس، والتمدد، والترابط والتماسك، فإن أمواج/ فصول السيرة احتكمت إلى هذه الخصائص، وفرضت على القارئ الثبات، والتركيز والانسياب انطلاقا من الخصائص نفسها للماء، لأن الكاتب اشتغل على الاستطراد واستحضار الوقائع بشكل مكثف وغزير.

***

د. عبد المجيب رحمون

في المثقف اليوم