قراءة في كتاب

جمال محمد تقي: محاولة إختراقية في حريق الزمن

رأي في "كتاب العراق" لعبد الامير الركابي

مدخل: تعدد مواهب وإجتهادات عبد الامير الركابي في حقول الكتابة ليس لها حدود او قيود، عرفناه كاتبا للرواية في " كما نحب ونشتهي " و " قصر الضابط الانكليزي" وتعمقت المعرفة به في كتابه " ارضوتوبيا العراق وإنقلاب التاريخ – من الابراهيمية الى ظهور المهدي" وطبعا كتابه " إنتفاضة الاهوار المسلحة في جنوب العراق 45 عاما ومايزال القتال مستمرا " وتوج هذا العطاء المتراكم بكتابه الاخير الذي احاول ان ابدي به رأيا، " كتاب العراق – الكتاب اللاارضوي المنتظر منذ سبعة آلاف سنة "

لم ينقطع قلمه عن ترجمة ما تهندس في خلجات وعيه الفعال من وعن مخاضات وتمرسات نشئته وبيئته الاجتماعية والسياسية والفكرية، فثمة خيط متين وعصي على الانقطاع يربط وبشكل يكاد يكون إنسيابيا ليستغرق كل ماذكرناه من كتابات، حتى حاك منه وبمراكبة معقدة نسقا يفسر به، ما حصل وما هو حاصل وما سيحصل في بلاد النهرين والعالم، للبشر، وانتقالاتهم من الوحشية حيث البهيمية الى البربرية ومقدمات الحضارة التي مازال فيها البشر انسايوان، بشر بمرحلة الانتقال نحو الأنسنة، بل وذهب ابعد من ذلك عندما تلبس حد التوحد هذا النسق واعتبره حقيقة مطلقة لا تقبل المساجلة !

هو ابن سومر الذي امتشق السلاح مبكرا في طريق التحول المجتمعي المنشود، هو ابن الديرة التي شبت بكريا على ان تكون حرة وغير خاضعة لإستبداد الدولة اي دولة كانت برانية او جوانية !

هو ابن اليسار المؤمن بذاته والرافض لكل اشكال المركزيات، إنشق لذاته لا ذات القيادة المركزية، وإختار الكفاح المسلح لإستحضار التحول المؤجل نحو إنبعاث جديد يعيد المجد التليد الذي عرفته سومر قبل ماركس وقبل مدينة افلاطون الفاضلة، فهد او فؤاد الركابي الامر سيان، المهم الطريق التي تعجل فرج المنتظرالغائب وتطلق العنان للعقول لتشق السماء في رحلة الكشف عن الوجود !

هو العقل الذي ذاق ذرعا بجسد يربطه من عنقه بأرض الفناء، هو المؤمن بأن كلكامش عقل لا يموت بموت الجسد، ان نجحت محاولات فرانكنشتاين او لم تنجح، هو يصلي للذكاء الاصطناعي عسى ان يجد حلا للمعضلة !

هو الوطني المسلح بجمرة مسقط الرأس منذ ايام اوروك حتى الغزو الامريكي وما تبعه، معتبرا حراك تشرين امتدادا مزدوجا لتاريخ المكان والبشر، مبشرا بالتحولية التي سيكون سواد العراق شرارتها، كيف لا والعراق جمجمة العالم، او كما يقول ابن حوقل: هو اعظم اقاليم الارض منزلة، وأجلها ضفة، واغزرها جباية، واكثرها دخلا.. واهله اوفرهم عقولا، واوسعهم علوما، وافسحهم فطنة منذ سالف الزمان والامم الخالية. او كما قال ياقوت الحموي: ان اهل العراق هم اهل العقول الصحيحة، والاراء الراجحة، والبراعة في كل صناعة.386 alrikaby

إحاطات عامة:

اولا: لكل نظرية منطوق وفرضية ودالة تبرهنها، حتى لو اعتبرنا التجريب والملاحظة والاستقراء هو خصلة لنظريات علوم الطبيعة لا البشر، وبالتالي فإن البرهنة في علوم الانسانيات لها منطق آخر يعتمد، المنطق الواقعي الموثق في دراسة الظواهر والاحداث، او الشكلي كما في منطق، ارسطو، حيث المقدمات والنتائج، او الخلدوني في عصبيات العمران البشري، او المنطق الجدلي الهيغلي، اما الاكتفاء بالتأمل المأخوذ ببعض المعطيات الاركولوجية والتاريخية غير النهائية، واعتبارها مسلمات يمكن بتركيب عدد من نتائجها لبناء تفسيرات مطلقة لمذهب كوني تمركز فيه حركة اهل الارض ومساعيهم الكونية، وخاصة في مجال فلسفة التاريخ فقد يحيلنا هذا المنحى الى الماورائية اوالانتقائية وبالتالي الرغبوية، وهنا نقع في خطل إعادة إنتاج ماهو منتج !

في نظرية الركابي هناك منطوق وهو متماسك شكلا وله اعمدة فقرية لكنها لا تحتمل ما عليها من جسد، وهي إنتقائية في براهينها، ومتناقضة في بعض مقولاتها، وفيها إطلاقيات تمركز الحركة المجتمعية الارضية مع إنها ذاتها مدفوعة بعصبية نفي المركزيات المهيمنة الاخرى، والتحول الرافديني الذي يعتبره الركابي جوهر التغيير المجتمعي الكوني لا دليل عليه، فلا السومريون هم بداية الخليقة ولا هم نهايتها، ولا حافة الفناء التي عايشوها تشكل دافعا كافيا للتعميم المركزي لإزدواجهم الارضوي واللاارضوي، فليست هناك حركة بالتوازي بين البعدين، انما حركة دوران ينقطع بطوفانات طبيعية او بشرية تنتج النزوح وهكذا، والحالة عاشتها اقوام عديدة مثلها مع فارق الريادة السومرية وعمق واصالة حضارتها ثم تواصل فعل بيئتها الطاردة للتسلط البراني وهي حالة ليست إطلاقية في تفردها، ففي الصين القديمة والارض البعيدة " الامريكيتين قبل الغزو الاوروبي" وحتى في افريقيا بل عاشتها الجزيرة العربية قبل طغيان تصحرها وكل هذا سابق على النزوح الكبير، وصحيح تنسب لها الماثيولوجيا الابراهيمية التي غدت فيما بعد سردية عممتها اقوام شمال الجزيرة العربية تحديدا بعد السبي البابلي، على نفسها كل بحسب حاجته لتفسير وجوده وهي ليست اكثر من تلفيق سردي لا تعززه الحفريات المعرفية والاركولوجية، لذلك لا يمكن اعتبارالكتاب المقدس مصدرا موثوقا لدراسة التاريخ، إنما هو موروث مؤول عن اساطير الوعي الطفولي للبشرية وهو لا يخلو من الخرافة التفسيرية، ويصبح مجرد تعبير كاريكاتيري لفهم التاريخ، وكما ان شجرة الانساب التي سطرها النسابين والتي اخذ بها اغلب مؤرخي الدولة الاسلامية لا تؤخذ على محمل الجد، كنسب عدنان وقحطان، لأن حكاية العرب في شبه الجزيرة العربية اقدم تاريخيا من اسماعيل ابن ابراهيم، فإن المجمل من الحتوتة ليس مصدرا لمعرفة التاريخ الحقيقي، انظر فقط لأعمار شخصيات الكتاب المقدس الممطوطة لمئات السنين، اليست إعجاز حسابي لسد فجوات الزمن الذي يفترض انهاعاشته !

أديان الشرق الاوسط تحديدا بما فيها الاديان الابراهيمية هي خليط يعج بالمتقابلات والمترادفات والاستعارات والتلفيقات، كمعاشر الالهة وملائكة الخير والشر المتصارعة فيها، وارتبط إنتعاش مجالسها، ووظائفها بالمجتمعات الزراعية والرعوية وتتعدد وتتكاثر تكاثر الاكتشافات والحواضر، تشير المصادر الى قائمة تحتوي على اكثر من 3000 إله رئيسي وفرعي رافديني مختلط، كتموز وانانا ومردوخ وعشتار، وتكاد تكون هناك ثقافة دينية متقاربة بمشتركات لكل المجتمعات الزراعية في عموم مستوطنات الهلال الخصيب وغرب ايران، خاصة العيلاميين والجوتيين ثم الفينيقيين والكنعانيين الذين تفاعلوا مع السومريين بالاتصال المباشر او بواسطة البابليين والاشوريين، وخصوصية المجتمع السومري ان بيئته متحولة في فناء دائري طارد للاستقرار مع سكان متأبطين للاضطراب البيئي الذي فرض عليهم تذبذب احوال الارض وانهارها واهوارها تذبذبا في شكل إستثمارها، فمن حيازة تقاسمية، الى ملكية عامة يديرها المعبد وفيها تراتبية تحتوي الجميع ثم تغير الحال مع حكم الاكاديين بحيث كان للقصر والمعبد حصة الاسد في منتوج الارض، ولا اعتقد اننا نختلف على ان جل مجتمعات الصيد والجمع هي مجتمعات مشاعية في كل الارجاء، ومع انتعاش الزراعة ظهرت اشكال التملك الفردي، ومرة اخرى استطاعت المجتمعات السومرية الموائمة بين التشاركية في الاستثمار الذي لا يعني بالضرورة الملكية المتعارف عليها، فالارض ملك للمعبود والمعبد والمستثمر هو مجرد متعاقد معهما بمجهوده وللمعبد حصة في المحصول، وبقت تلك البيئة تفرض شروطها على من يستوطنها مرورا بنوع زئبقي من المشاعية القبلية حتى الحالة التي يصفها الركابي في صفحة 175 – فبركة العراق حيث يقول: " والمهم في مجمل التحورات التتابعية المنوه بها، إنها ستأخذ مع تبلور عناصرها، وجهة احتدامية قصوى غير مسبوقة، من نفس نوعها الفريد والاستتثنائي، بحيث يمكن لا بل من البديهي القول، بأن لحظة صعود النظام الريعي العقيدي هي لحظة الانقلابية العظمى عراقيا ورافيدينيا، باتجاه طور فك الازدواج ونهاية الكيانوية، والدولة المنتظرة تاريخيا..." !

ثانيا: في الخيال التاريخي للبشر، يقول يوفال نوح هراري صاحب كتاب - العاقل - تاريخ مختصر للنوع البشري، في باب الثورة الذهنية " يترسخ اي تعاون بشري واسع النطاق، سواء أكان دولة حديثة، او كنيسة من القرون الوسطى، او مدينة قديمة، او قبيلة غابرة، في خرافات مشتركة يوجد فيها الخيال المشترك للناس فقط.. فلا وجود لأي من هذه الاشياء خارج القصص التي يخترعها الناس ويخبر بها احدهم الآخر، فلا آلية في الكون، ولا قوميات ولا اموال ولا حقوق انسان ولاقوانين ولا عدالة خارج خيال البشر المشترك ".

ويقول الركابي في كتابه ص 314 تحت عنوان الكتاب والقصص: "نحن نقص عليك أحسن القصص" لم يكن للقرآن او التوراة ان تكون بلا قصص، القصص الحكمة، قصص السير اللاأرضوية وسط هيمنة الارضوية وطردها لها إقصاء ونكرانا، بينما هي تتوارث شاقة ومكرسة طريق العالم الآخر، تراكم حضورها وصولا لمشارفة حوافه: قصة إبراهيم، ويوسف، وأيوب، والنبي موسى، والسيد المسيح، إلا النبي الاخير محمد، فقد انتقلت قصته الى عالم السير، لأن القراءات والقرآنات انقطعت من بعده، هل يجوز او يتوقع ان يكون "كتاب العراق" ولا تكون القصص حاضرة بين جنباته، وهو الذي جاء ليدل على مالا يعرف، وما كان خافيا ومطموسا، وليشير مميطا اللثام عما ظل محجوبا وغائبا، وعلى ما هو آت مما يفترض ان يكون، بمعنى الانتقال مما قد مضى كما كان عليه الحال إبان الزمن التوراتي، فليس القص اليوم على ما مر به الانبياء، بل ماسيكون بعد اليوم، وما يذهب للإضاءة على ماهو غير معاش، وغير مجرب ولا متخيل.. " !

من النص اعلاه نستشف ان الركابي يتخيل لكتاب العراق مقام الكتب المقدسة او يريد له ان يكون، لعظمة ما يسوقه وما ينسبه لتنظيره من إعجاز افتراضي غير متحقق في الفكرة او في لغة إيصالها، على الرغم من سند فصاحتها الظاهرة، لما شابها، من تطنيب مغال بالاشتقاقات الاصطلاحية والتعبيرية والمفهومية التي سبغت اغلب فصول الكتاب دون تأصيل، وكأنه يتعمد لي عنق الكلمات والجمل، لمجرد تمييز النص عن نصوص اللغة المؤصلة، بخطاب قدري مترفع، وهذا نوع من التعالي الذي يضعف قوة وارضية المحاججة، ان توجب الاقناع الطبيعي بصحة ما يقدمه من محتوى، فالتشبه بالمقدس لا يقدس بالضرورة !

ثالثا: الآلة إله الحداثة:

في ص 11 من استهلال ضرورة، وتحت عنوان - نوع ضرورة مختلف – يقول الركابي "فالظاهرة مدار البحث تنطوي فعلا على جانب حاسم، وانقلابي كلي، يخص حركة التاريخ، ومآلات الظاهرة المجتمعية، لا كافتراضية من اي نوع بل بالارتكاز على قانون نافذ، هو القابع وراء حركة تاريخ المجتمعات البشرية.. " وهذا يعني ان المسار الذي يرسمه الكتاب بحسب الركابي هو قانون موضوعي سيسود بمعزل عن إرادة البشر، اذن هو يحمل صفة التبشير بما سيكون، وما يؤكد ذلك قوله في الصفحة الاخيرة التي تلخص مراده من الكتاب ص 363 - 364 - وسـأتنقل بين سطور الصفحتين لإختصار التطويل في النقل: بعدما قاربت الآلة الوصول الى شكلها الاعلى، متحورة الى التكنلوجيا العليا، بعد المصنعية و" التكنلوجيا الإنتاجية " الحالية، حين تتغير وظيفة وممكنات عمل وإشتغال وسيلة الانتاج، منتقلة من الجسدية، الى العقل، الامر الذي ينتقل معه عالم الكائنات البشرية، نحو طور اخر مختلف، هو المآل المقرر للوجود وللحياة البشرية العاقلة... وبناء على الانفصال بين وسيلة الانتاج وموضوعها... تتوالى الكوارث، واشكالا من فقدان القدرة على الامساك بإجمالي ما يعرف بالواقع الدولي والمجتمعي.. من هنا تأتي ضرورة الكتاب الماثل نطقية.. لا ككتاب من بين الكتب او رأي من جملة الاراء، بل كدالة ضرورة قصوى.. وبدء طريق هو الضامن لاستمرار بقاء الكائن البشري.. كهدف وغاية مقررة من الغاية الكونية العليا كما ارسيت ابتداء في ارض ما بين النهرين.. " وعندما نترجم هذه الخلاصات ونعاشقها مع ما سيق فيما سبق من صفحات، نجد بأننا لا نعيد اكتشاف العجلة اذا قلنا:

1 - ان الالة ليست عامل براني دخيل على الانتاج بمختلف مراحله بل هي وسائل ابتكرها الذهن واخذ الارتقاء بها، فالحاجة الدائمة هي ام الاختراع الدائم وهي ليست حكر على الذهن الغربي بمعزل عن محاولته لتأبيد تفوقه بتصميماتها المتحولة وفائقة الذكاء والقادرة على إعادة انتاج الانسان نفسه، والانفصال عنه، والمعضلة هنا تحمل وجهين احدهما قادر على نفي الاخر، الاول ان الانسان اخذ يلعب دور الالهة في قدرته على اعادة انتاج ذاته وبشكل نوعي، والاخر انه صمم ظل له ليس من جنسه قادر على التمرد عليه، وفي خضم هذا الواقع الذي ينقسم فيه البشر الى انظمة واقاليم وامبراطوريات ودول ومجتمعات متفاوتة ومتغالبة ما يجعل مخاطر الإبادة الجزئية او الكلية محتملة، وان العولمة الجزئية والكلية غير مؤهلة برغم ثورتها الدائمة بين المراكز والاطراف وبين صراع الدول والاسواق والافراد زبائن الانتاج الوفيرالمنمذجين للاستهلاك الوفير، على حسم الوجهة التي ستحتم الحسم !.

2 – التحذير من مآلات تشييء الانسان وتصنيعه والتلاعب بمصائر كل الكائنات الحية على الارض والاندفاع نحو التصادم مع الطبيعة فيها، بمحاولة الاستثمار بخلق طبيعة مصطنعة ومحاولة التمدد بتصدير ثقافة الهيمنة بالسعي الامبراطوري الامبريالي الى الاجرام الكونية، اصبحت متلازمة للكثير والكثير من مفكري وفلاسفة ومثقفي العالم في الغرب والشرق والشمال والجنوب، داعين للفصل بين العلم والتوق للمعرفة ومنظومة الاستثمار الراسمالية المتوحشة، ونقاد الحداثة الغربية وما بعدها وبشكل موضوعي ودامغ يتكاثرون في كل ارجاء المعمورة برغم تسيد ثقافة غسل الادمغة التي تبتز العقول بسطوتها الاستهلاكية والابهارية، يقول الفيلسوف الالماني الامريكي، إريك فروم في كتابه "الانسان المستلب": في القرن التاسع عشر كان بإمكان الانسان ان يقول مات الله، وفي القرن العشرين يجب ان نقول مات الانسان.. لقد مات الانسان لتحيا الاشياء، لقد مات الانسان ليحيا منتوجه.

ويقال ان نيتشة كان قد اعلن موت الإله وان فوكو هو من دفن الانسان، اما الفيلسوف الكندي " ألان دونو " فيقول في كتابه - نظام التفاهة – لنتخيل عالم يقوده الحقراء نحو الخسة والابتذال والبهرجة. مثله نعوم تشومسكي وإيلان بابيه، وهذا نوح هراري يقول: " قبل سبعين الف سنة، كان الانسان العاقل ما يزال حيوانا لا اهمية له يدير شؤونه الخاصة في زاوية من افريقيا ثم حول نفسه في الالفيات التالية الى سيد للكوكب بأكمله، وارعب النظام البيئي، وها هو يقف اليوم على حافة ان يصبح إلها، لا يستعد للاستحواذ على الشباب الخالد فحسب، بل وكذلك على القدرات الالهية للخلق والتدمير... هل هناك شيء اخطر من آلهة غير راضية وغير مسؤولة لا تعرف ماذا تريد ؟ ".

3 - يسيطر على روح النصوص نفس مثالي يخضع الوجود لفكرة غائية قدرية، وجدت في المثايولوجيا الابراهيمية ضالتها، حتى انه احيانا يستعير من معتقدي علامات قيام الساعة بعض من جنس نبوءاتهم كمثل احتلال امريكا للعراق، او عراق ما بعد النهرين، انتشار الاوبئة، ناهيك عن الغيبة والحضور المؤجل، والمخلص، ثم وجهي المعادلة المتقابلة دار الدنيا ودار الاخرة ويوم إنطباق السماء على الارض، السماء دار الالهة والارض دار البشر، الارض ممر لا مستقر، ولا يعني ذلك البتة انها دخيلة على مكونات الفكرة الاساس، وليست مثلبة بحد ذاتها فهي معتقدات افرزتها استجابات روحية لتحديات تاريخية تميزت بالتعاقب كما في مذهب "ارنولد توينبي"، وهي في كل الاحوال من التراث الاصيل للتعايش مع النكبات، كما يقول "بندلي صليبا الجوزي": حنين فطري لمكنونات العقل الباطن في ميول الشعوب قاطبة وقت الانكسارات والمتاهات ! وهنا يحضرني بيت من الشعر للحصري القيرواني لترطيب معارضتي: يا ليل الصب متى غده أقيام الساعة موعده ؟.. فبكاه النجم ورق له مما يرعاه ويرصده.

رابعا: العقل النقدي ذروة التحول الادراكي عند البشر!

بين الخصوصية والتعميم

يستطرد الركابي في معرض تقديمه للكتاب تحت بند استهلال ضرورة، فيقول: هكذا بدا لماركس ان من واجبه الذهاب مجملا فيقول " ان تاريخ المجتمعات ما هو الا تاريخ صراع طبقات " وهي مقولة تبدو مضحكة على سبيل المثال في بلد مثل ارض ما بين النهرين، تقول آليات تشكله بأن تاريخ المجتمعات "ماهو إلا تاريخ الاصطراع الازدواجي اللاارضوي الارضوي، ذهابا الى مابعد مجتمعية، وما بعد إنسايوان" علما بان الموضع الذي نتحدث عنه هو البؤرة التحولية المجتمعية الكونية.. !

من قال ان مقولة الصراع الطبقي لدى كارل ماركس مسطرة لقياس واقع المجتمعات في كل زمان ومكان، فهناك المشاعية البدائية، واسلوب الانتاج الاسيوي، التطور اللا راسمالي، والمشاعية الواعية – العقلية، حيث التسيير الذاتي، وضمور الدولة، وتصفية التناقضات بين الجهد الذهني والعضلي، والريف والمدينة، والمرأة والرجل، ونهاية للاغتراب بكل اشكاله، لقد اساء من يتشدق بالماركسية لماركس اكثر من الذين لا يطيقون ذكره، اللينينية والاستالينية، وذيولها حول العالم، اما شيوعيو بلداننا فقد نزعوا عنهم ثوبه حالما انقطع التمويل السوفيتي، واقصى ما يسعون اليه اليوم هو قبول انتسابهم للاشتراكية الدولية، واما الغرب، فيعيد اكتشافه مع كل نوبة صرع تنتاب الراسمالية المتغولة، ومازالت مراكز البحوث والرصد الليبرالية تتوجس من تداول افكاره لما لها من تاثير وخطورة، وما زال جدله التاريخي شاخصا بكل مقولاته حول وحدة وصراع الاضداد والكم والكيف ونفي النفي والحرية والضرورة وراس المال وفائض القيمة، فمن يدعي موته يناقض الواقع، والماركسية الجديدة تحفر طريقها مذ لوكاش وغرامشي والمبدعون الجدد، في طريقهم للجم دعاة نهاية التاريخ وصراع الحضارات من امثال فوكوياما وصامويل هنتجتون !

لا احد يستطيع إنكار خصوصية سومر التي لا مسوغ لتعميمها على الكون سوى الغيب !

ابحث عن الملكية الفردية وشكل ملكية الارض في سومر ستجد سر خصوصيتها المتدحرجة حتى تدرج بيئتها "الحافز" نحو الاندثار الذي يستبقي آثاره في العقل الباطن كانتماء وحنين، لكنه غير مؤهل للعودة بحكم الفناء الموضوعي، اما الاسقاطات العقائدية فهي تنفيس عن محنتها بنوع من الرمزية التي تتجسد بواقعة الطف وكيف انتصر الدم الذي تلقفته السماء كقربان لانتصاره الرمزي على السيف، وهكذا تحول الاثر الى طقس ربما يناقض في جلده المستغرق للذات حتى نداء نريد وطن الذي ردده فتية التحرير الداعين الى التغيير الكامن بين المرتجى والمؤجل !

خامسا: البيان والتبيين

كما في ازدواج المادة والطاقة وقابلية تحول كلا منهما للاخر، عند كل البشر شكل من إلازدواج يطغي احيانا ويخفت، ولدى كل المجتمعات نسبية منه تعادل الطاقة الناتجة عن تناقضاته الخاصة والعامة والبرانية والجوانية، وقوة دفع معتقداتها وثقافتها على جدار ما يناقضها من علاقات ونظم سائدة، العقل والجسد، الواقع والخيال، الحرية والضرورة، في شكل العلاقة، بالارض والسماء، الذكور والاناث، الفكرة والممارسة، الصفوة والعامة، الموت والحياة، قوى الانتاج وعلاقاتها.

اجد في كتاب الركابي بيانا ينطلق من المحلية للكونية ومن سحيق التاريخ لمنتهاه الآخر، وهنا هو يقابل من حيث عالمية الرسالة وحلمها الانساني البيان الشيوعي الذخيرة الحية للحراك الثوري العالمي الذي يجعل من الفكرة سلاحا للتفسيروالتغيير، ورغم تصادمه الواضح مع مرتكزات البيان الشيوعي، لكنه اجتهاد ينشد التفسير الذي يراه حتميا، اما واذا كان شعار البيان ياعمال العالم اتحدوا، فحتما سيكون شعار الكتاب: الاجابة ننتظرها من الركابي نفسه !

مخرج

اولا: اكاد اجزم وبمعزل عن اختلافي مع كليات الكتاب واتفاقي المتطابق مع العديد العديد من محتوياته خاصة تفاصيل سراديب العروة الوثقى، والاقاصيص، نظرية الركابي هي اول محاولة عراقية تاريخية ونظرية تطرق بابا مقفولا تحاول فتحه على مصراعيه لتكون سومر مركزا ليس للماضي فحسب وانما للحاضر والمستقبل وهي تحلق برياديتها نحو السماء السابعة !

ثانيا: اسئلة ازدواجية الدلالة:

ماذا لو لم تكن سايكس بيكو، وقامت دولة المنتفك، وهذا احتمال يمكن ان يتحقق بعد اعادة تقسيم العراق الحالي، ما هو شكل الدولة المنتجبة ؟

كيف سيكون تموضع اسرائيل ضمن الماثيولوجيا الابراهيمية ؟

لماذا هناك اهمال للاحاطة بالحضارات النهرية في الصين القديمة، وتجربتها الغنية ذات النسغ الصاعد في تكوين الصين الحديثة ودورها الكوني ؟

لماذا الماركسية فقط دون غيرها من مناهج تفسير التاريخ التي انتقدتها في الكتاب ؟

هل تعتبر البهائية والمندائية ضمن الديانات الابراهيمية ؟

انتهى

***

جمال محمد تقي

في المثقف اليوم