قراءة في كتاب

جمال العتّابي: في ضوء كتاب ابراهيم كبة (هذا هو طريق14 تموز)

المراجعة النقدية مسؤولية تاريخية واخلاقية

منذ صدور كتاب (هذا هو طريق 14 تموز) في أواسط ستينات القرن الماضي للمفكر الاقتصادي ابراهيم كبّه، ولغاية اليوم ما تزال قضية 14 تموز 1958 من أكثر الأحداث المثيرة للجدل في تاريخ العراق حيث الاطاحة بالملكية واعلان النظام الجمهوري، الأستاذ كبّه يقدم خلاصة تجربته كوزير للاقتصاد خلال العام الأول لثورة تموز، وكوزير للاصلاح الزراعي خلال النصف الأول من عامها الثاني، وحتى استقالته في شباط عام 1960، كما يقدّم قراءته للوضع السياسي العام لغاية سقوط الجمهورية الأولى في انقلاب شباط 1963، وتضمن الكتاب كذلك دفاعه أمام (محكمة الثورة) بعد اعتقاله من قبل افراد الحرس القومي الذين صادروا بيته واتخذوا منه مقراً لهم.

من المؤسف ان هذا الكتاب لم ينل اهتمام الباحثين في التاريخ العراقي المعاصر، وتحديداً أولئك المعنيين بنهاية النظام الملكي في 14 تموز 1958 وما تلاها من أحداث دراماتيكية، ولم يأخذ نصيبه في البحث العلمي والأكاديمي كمرجع مهم اتسم بالحيادية والموضوعية، وهو الى جانب ذلك يعد خلاصة لتجربة ابراهيم كبة المشرقة في الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية، فضلاً عن شخصيته ومواقفه الوطنية والإنسانية النبيلة.

لم تكن استقالته في شباط 1960 أول استقالة له من الوزارة، اذ سبقتها عدة استقالات وسببها ظهور أول بوادر للتدخل في شؤون تتعلق في صميم اختصاصه، وقبل أن يترك الوزارة أهدى ابراهيم كبة السيارة الى وزارة الاصلاح الزراعي، تلك التي استلمها هدية رمزية من السوفييت بعد توقيعه على اتفاقية التعاون الاقتصادي معهم في آذار 1959،كانت الاستقالة مصدر ارتياح لشركات النفط الاحتكارية (حسب المصادر الانگليزية)، لموقفه المتشدد من تلك الشركات أثناء المفاوضات معها.

بينما يوضح كبه اسباب استقالته في كتابه اعلاه، هي في تحول حكم عبد الكريم قاسم الى حكم تسوده الفوضى وعدم المسؤولية، وفقدان الشروط العامة الضرورية لمواصلة سياسة النفط والاصلاح الزراعي*.

كان دفاعه مطالعة تاريخية اتسمت بالجرأة والوضوح والصراحة التي عُرف بها، وعدّت لائحة الدفاع مأثرة خالدة في مواجهة جلاديه ما زال الحديث عنها قائماً إلى يومنا هذا. على إثرها حكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات بعد سلسلة من أساليب التعذيب الجسدي والنفسي، في عام 1965 صدر قرار باعفائه مما تبقى من محكوميته فاطلق سراحه، بعد حملة عالمية من المناشدات والضغط على حكومة عارف لاطلاق سراح السجناء.

حين نستعيد ذكرى هذا اليوم بعد ست وستين عاماً من الحدث، فانما نستحضر طبيعة النظام الملكي ودينامياته الداخلية. زمنياً، كان البدايات في تأسيس مؤسسات الحكم وأدواته المدنية (دستور، برلمان، حكومة ونظام انتخابي)، وعلى مدى السنوات التالية، فشل النظام في تحقيق الاصلاح على مختلف المستويات، كانت الديمقراطية شكلية تحمي مصالح أقلية حاكمة سياسياً واقتصادياً، وتشكّل اجماع شعبي وسياسي بضرورة رحيله، والاطاحة فيه.

كما تتجسد في ذاكرتنا صبيحة ذلك اليوم والايام التي تلته بكل عنفوانها ومعانيها الوطنية، بأن مرحلة جديدة قد بدأت، إذ شهد يوم 14 تموز انقلاباً عسكرياً تحول الى ثورة شعبية عمّت البلاد جميعها على مدى أيام، كان حدثاً تاريخياً فاصلاً ونقطة تحول في مسيرة الحركة الوطنية العراقية، بعد أن قدّم الشعب وقواه الوطنية بنكران ذات، التضحيات الجسام في مواجهة الهيمنة الاستعمارية والاحتكارية، والاقطاع، وسياسة الاحلاف العسكرية.

ليس هناك أدنى شك في أن الثورة كانت حصيلة شروط موضوعية وذاتية داخل المجتمع العراقي، أي انها نتاج تناقضات النظام الاقتصادي الاجتماعي في العراق، إذ شهد عقد الخمسينات انبثاق جبهة الاتحاد الوطني التي أسهمت في تعبئة الشعب وسائر فئاته المدنية والعسكرية لحدث التغيير في 14 تموز، واستطاعت الثورة في فترة قصيرة تحقيق العديد من المهام: السياسية والاقتصادية والمعاشية، كما حققت مكاسب عديدة للفئات الفقيرة والمتوسطة على مستوى الخدمات الصحية والتعليمية والسكن. وازدهرت الصحافة، وتشكلت المنظمات والنقابات والجمعيات، ونشطت في مجال الدفاع عن حقوق اعضائها.4254 ابراهيم كبة

وبالرغم من الطابع الشعبي الواسع لعملية التغيير، فان الانتفاض المسلح الذي قام بالفعل، اتخذ بالضرورة أنذاك طابع انقلاب عسكري قامت به قطعات الجيش بقيادة بعض الضباط الكبار من تنظيم (الضباط الأحرار)، وقد أعطى هذا الواقع زمام المبادرة السياسية، وبالتالي السلطة السياسية بيد هؤلاء الضباط الذين انحازوا بحكم عقليتهم العسكرية ونشأتهم البيروقراطية، وانتماء الغالبية منهم الى الطبقة الوسطى في أخطر قضايا الدولة ومهامها الأساسية، وبحكم هذا الواقع الذي تجاهل دور الشعب

واحزابه الوطنية في عملية البناء والتغيير فان هذه العقلية استطاعت أن تحبس الثورة ضمن افقها الاناني الضيق. وأن تطبع سلطة الدولة الجديدة بطابعها الخاص.

ومما له دلالة خاصة بالنسبة لمسارها اللاحق، انها تشكلت من مختلف اطراف جبهة الاتحاد الوطني، فيما استبعد الحزب الشيوعي من المساهمة في تشكيل الحكومة الجديدة على الرغم من دوره في الاعداد والتحضير للثورة، وفي تشكيل جبهة الاتحاد الوطني نفسها. لقد كانت هذه علامة مبكرة لنكسة فيما بعد في سلسلة من المواقف الخاطئة سواء من جانب السلطة أو من جانب الاطراف التي تحالفت في الجبهة، وترتب على ذلك انفراط عقد الحلف الوطني الذي كان استمراره شرطاً اساسياً لتقدم الثورة، وقطع الطريق أمام الحكم الديكتاتوري الفردي. بينما دخلت هذه القوى نفسها في صراع سياسي انتقل الى الشارع العراقي بصيغ مؤسفة.

لم يكن بامكان الثورة أن تسير الى نهاياتها في انجاز مهامها الوطنية، هذا ما توصل اليه ابراهيم كبّه في كتابه (هذا هو طريق 14 تموز)، إذ أشار الى جوانب سلبية عديدة في نظام الحكم الجمهوري الاول، نجملها في النقاط التالية :

*الانفصال التام بين المدنيين والعسكريين في الوزارة، واقتصار عمل الوزراء المدنيين على القضايا المدنية وحدها.

* عدم تشكيل مجلس وطني للثورة، لمنع سيطرة الديكتاتورية العسكرية الفردية، وتحقيق القيادة الجماعية.

* عدم توفر الظروف لاقامة مؤسسات ديمقراطية. وظلت الدعوات في اقامة نظام برلماني، واجراء انتخابات عامة، واقرار الدستور الدائم مجرد وعود لم تتحقق.

* والى جانب تلك الاسباب كانت شخصية الزعيم عبد الكريم قاسم ومجموع خصائصه النفسية والذهنية والسلوكية، قد اسهمت في التفرد بالسلطة، وهي احدى الاسباب في التراجع، وتهيئة الظروف للاجهاز على الثورة ومكتسباتها.

كانت الاصلاحات الاجتماعية والاقتصادية مهمة في جوهرها، إلا أن القيادة كانت أسيرة الاحساس المبالغ فيه بأهمية(الزعامات) الاستثنائية، لتتحول الى دكتاتورية منفصلة عن بوصلة البلد السياسية، وانفراد استبدادي بالسلطة. كان خطأ العسكر الفادح هو ارتيابهم من النظام البرلماني، وايمانهم بقدراتهم (الخارقة)، هذا الذي فتح الباب الى انقلابات عسكرية اخرى، وقاد البلاد الى المصير الذي نحن في فيه.

ينطلق عدد من المراقبين في هذا الشأن من عدم جدوى الكتابة فيه، إذ وجد هؤلاء سبيلهم للتعبير عن حالة الاحباط والخيبة جرّاء الترهل والتكرار في الآراء، حتى صار سمة بارزة لأغلب وجهات النظر التي تناولت هذا الحدث، في حين ان تعدد الرؤى دليل غنى وثراء للوصول الى الأعمق والأدل في التاريخ. كي يتحول إلى قيمة حيّة جديرة بالاحترام ومسوغاً لمواصلة البحث. فما زال فضاء الدراسة فيه مفتوحاً، من دون ادعاء لأحد انه مكتشف الحقيقة وحده، أو يصادر حق الآخر في الحوار وتبادل الرأي.

أشرنا إلى البدايات الأولى لسلوك الاستبداد، هذه البذور بدأت تنمو بشكل خطير مع تردي الاوضاع العامة، حتى آل الوضع فيما بعد إلى طغيان الديكتاتورية، وكانت السجون والمعتقلات تكتظ بمئات من الشيوعيين واصدقائهم، فضلاً عن معتقلين بانتماءات سياسية وحزبية أخرى، كان هؤلاء يدفعون الى السجون بدعاوى كيدية بتدبير وتشجيع من دوائر الامن والشرطة التي تلقى التأييد من القوى المناهضة للثورة والمتضررة من اجراءاتها التقدمية.

يعدّ الدكتور سليم الوردي قضية النفط حجر الزاوية للاستبداد في العراق حسب ما ورد في كتابه (الاستبداد النفطي في العراق 2013)، انه الوجه الآخر لاستفراد الحاكم المستبد بالمجتمع واخضاعه لإملاءاته، وهو ما أطلق عليه مصطلح (الاستبداد النفطي) الذي يعبّر عن استبداد الحاكم فيخضع الاقتصاد والمجتمع لارادة منفردة. حسب خصوصيات التجربة الريعية العراقية :

كلما زادت عوائد النفط، كلما استشرى الاستبداد السياسي.

وبالرغم من أن اعلان الاحكام العرفية لم يكن سوى تدبير استثنائي تلجأ اليه السلطة عند الضرورة القصوى، وفي الظروف الاستثنائية لحمايتها، الا أنها استمرت طوال حكم الزعيم عبد الكريم قاسم، لذا أصبح موضوع انهاء مدة الانتقال ووضع دستور دائم للبلاد من اهم القضايا الساخنة والمؤجلة التي لم تحسم في ظل تصاعد دور الحاكم العسكري المطلق، خلاف القانون والسلطات المدنية، وغياب القضاء.

مما لا شك فيه، ان صراعاً أكيداً كان سينشب، بين القوى السياسية، والذي كان يمكن ان يعالج بصورة سلمية وفي اطار التحالفات الوطنية، لكن ما حصل هو تجاوز هذه الضرورة والانغمار في صراعات مدمّرة، فجّرتها القوى التي كانت تدعو الى الوحدة الفورية، و تدخلات القوى الاقليمية، فضلاً عن الدور التآمري للمخابرات الغربية، وشركات النفط الاحتكارية التي أججت التوتر، واصبح الشارع مكان حسم الخلافات السياسية بدلاً عن المؤسسات البرلمانية، وبَؤَرَت الخصومة إلى أقصى حد لتمزيق الصف الوطني. وهكذا لم يمض إلا أقل من عام واحد، حتى خيّمت على البلاد انتكاسة شاملة كانت تزداد عمقاً وحدّة على مرّ الأيام، وكانت النتيجة الاخفاق والفشل في تحقيق المهام الوطنية والاقتصادية.

ومن جراء ذلك أصيبت مختلف الأوساط والقوى السياسية والاجتماعية بما في ذلك الاطراف العسكرية والمدنية بدرجات متفاوتة بخيبات أمل كبيرة بعد أن عجز النظام الجمهوري عن تحقيق أهدافه الأساسية، ففي خضم الصراع من أجل السلطة والانفراد بها ضاع الاستقرار والإطمئنان. لقد ذهبت الآمال امام الوعود التي تراجعت، ولم يعد الغضب واليأس والاحتجاج تثير السلطة، بل تجددت الاعمال العسكرية ضد الكرد في مناطق عديدة من كردستان

وكان أمراً طبيعياً ان تتأثر الحياة الاقتصادية بسبب تردي الاوضاع السياسية، وعلى اثر انكماش النشاطين الزراعي والصناعي، في الوقت الذي كانت فيه شركات النفط الاحتكارية تواصل دورها التآمري ضد العراق، محاولة لفرض شروطها الجائرة في استمرار نهبها لثرواته.

هذه التداعيات، توّجت بالانقلاب الدموي الذي أطاح بالنظام في 8 شباط 1963 فكان نهاية كارثية على مختلف الصعد والمستويات.

اكثر من ستين عاماً مضت.... يبدو من خلالها أن درس (الملكية) الأهم، فشل في اصلاح نفسه، لم تكن ديمقراطيته إلا طبقية زائفة، منعزلاً عن حاجات المجتمع وهمومه. تعود الاحاسيس ذاتها لدى الشعب العراقي ما بعد 2003، النظام المحاصصي مصمم من اجل رعاية مصالح الطوائف وساستها، والعبث بثروات البلاد في ظل فساد مالي واداري عارم قاد البلد الى المزيد من الخراب، ليتطاول اخيراً على مشاعر الناس ورموزهم التاريخية والوطنية، حتى تلك التي تمثل لديهم النزاهة والعفّة ونظافة اليد، كما جرى مؤخرأ في الغاء العيد الوطني يوم 14 تموز.

ومن الانصاف القول: ان عبد الكريم قاسم شيّد عشرات الآلاف من الدور لاسكان الفقراء من دون أن يجبرهم على صبغ أصابعهم بحبر الانتخابات، فبقي في ذاكرتهم إلى الآن، أما الصبغة فزائلة لا محال.

والاحداث الخطيرة تلك غدت تاريخاً ينبغي معرفته وكشف اسراره بموضوعية كاملة، وحيادية، فما تزال الكثير من الاسرار لم تكشف بعد، أو لم تترجم الى اللغة العربية، ولابد من المراجعة النقدية والاعتراف بالخطأ، وتلك مسؤولية تاريخية واخلاقية ينبغي أن تتبناها القوى السياسية من دون استثناء، وتمارسها فعلاً القوى التي شاركت في صنع احداث العراق في القرن العشرين.

***

جمال العتّابي

في المثقف اليوم