قراءة في كتاب
سُوف عبيد: قراءة في وجهي والرياح للشاعرة سونيا عبد اللطيف
أضحى اِسم سونيا عبد اللطيف اِسمًا حاضرا في مختلف المناسبات ضمن المشهد الأدبي بتونس فقد أطلّ منذ سنوات قليلة بمجموعة شعرية بعنوان ـ اِمرأة اِستثنائية ـ تضمنّت باكورة قصائدها المتوهّجة بصدق المعاناة في أشكال شعرية تنتمي إلى حركة الشعر الجديد بما فيها من بحث عن الطرافة والاِبتكار مستفيدة من منجزات السابقين ومطوّرةً في بعض قصائدها من أسلوب الومضة ومستعملةً أحيانا فنون السرد والمسرح بما فيها من حبكة وحوار وتشويق ثم عزّزت هذه المجموعة بمجموعة ثانية ـ بجناح واحد أطير ـ جاءت على غير نسق قصائدها الأولى ممّا يؤكّد أنها أخذت المسألة الشعرية مأخذ الجدّ لتمضي في دربها إلى الأبعاد وتتجاوز عتبات البداية وولَع الهواية
ــ 2 ــ
اِنتظرنا إذن ديوانها الثالث لكنها فاجأتنا بكتاب ـ ميتروهات وهدرات ـ وهو نصوص تسجيلات يومية تتحدث فيها عن وقائع الحياة في عديد مواقفها وتفاعلاتها مبدية ملاحظاتها إذ أنها تتنقل كل يوم تقريبا على متن الميترُو فجاء كتابا طريفا يعايش الواقع في تونس ولم يَخْلُ من نقد اِجتماعي واضح وبرغم بعض الشّجون من خلال ظلال من السيرة الذاتية فإنه يُعتبر كتابَ شهادة عن واقع بما فيه من معاناة وصدق.
وإضافة إلى هذا النشر المتواصل على مدى سنوات متوالية كانت تُشرف الشاعرة والأديبة سونيا عبد اللطيف على نادي الشعر وعلى نادي الأدب بعده في جمعية اِبن عرفة وقد أشرفت كذلك على بعض الأندية في اِتحاد الكتّاب التونسيين وفي دار الثقافة السليمانية وفي مدينتها قليية حيث أسّست فيها ـ مجاس همس الموج ـ واِستقبلت في رحابه عديد الأدباء والأديبات ومختلف المبدعين من تونس ومن المغرب العربي والمشرق العربي وجعلته ينتقل أحيانا من فضاء إلى آخر فاِكتسبت الأديبة والشاعرة سونيا عبد اللطيف يفضل هذا الدأب في النشاط والنشر والمشاركات العديد في الأمسيات الأدبية والمهرجانات مصداقية أدبية جعلتها تحظى بالإشعاع والتقدير والدعوات سواء داخل تونس أو خارجها في كثير من البلدان مثل الجزائر والمغرب ومصر والأردن والعراق وفرنسا وإنقلترا وغيرها فلا عجب إذن أن تُرجمت نصوصها الشعرية إلى اللغة الإنقليزية في أكثر من مناسبة وفي أكثر من كتاب خاصّ ومُشترَك أيضا.
ــ 3 ــ
ما كادت سنة 2023 تدخل في شهرها الأخير حتى أطل الديوان الثالث بعنوان ـ وجهي... والرّياح ـ ويضمّ نحو خمسين نصّا شعريّا متنوعة المعاني والمباني التي لا يمكن إجمال القول فيها إلا بعد قراءتها واحدًا واحدا فكل نص هو حالة بذاتها وقد نجد تشابها بين نص ونص آخر وتختلف كثير من النصوص في أسلوبها عن بعضها البعض لذلك لا يُجدي التعميم لأنه يفضي إلى التعتيم فلأجل إيلاء هذه المجموعة الشعرية ما هي جديرة به من الاِهتمام نقترح قراءة كل نص بتمعّن وتدبّر حتى نتجنب النظرة السطحية البانورامية لذلك سنقف في هذه المناسبة عند بعض العلامات الدّالة باِعتبارها شواهدَ وعيّنات فحسب فقد قيل قديما ـ يكفي القلادةَ ما أحاط بالعنق وقيل أيضا ـ ما لا يُدرك كلُّه يُؤخذ جُلّه.
ــ 4 ــ
تبدأ قراءة هذه المجموعة الشعرية من حامل القصائد وهو كتاب في طبعة جيّدة وفي نحو مائة وخمسين صفحة من القطاع المتوسط بعنوان ـ وجهي... والرّياح ـ
تبدأ قراءة هذه المجموعة الشعرية من أوّل ما يبدو من الكتاب أي ـ الغلاف ـ وفيه وجه اِمرأة قد حَجبت ملامحَه أو تكاد خصلاتُ شَعرها المتطاير فلم يظهر منه إلا بعض من الجبين والوجنتين والشفتين.
ونرى خلف الوجه والخصلات فضاءً مفتوحًا على أرض وسماء وفي هذا الفضاء الذي يبدو مدًى فوق مدًى نقرأ العنوان وتحته بيان النوع الأدبي بين قوسين كلمة ـ شعر ـ وهذا التنصيص على كلمة ـ شِعر ـ هو بمثابة العتبة الأولى التي يدخل القارئ منها إلى هذه النصوص لكأنه ـ عقدُ اِتفاق قراءة ـ حول نوع المقرُوء يُهيّء إلى كَوْنٍ شعري دون سواه من عوالم القراءة الأخرى.
العنوان ورد في كلمتين على سطرين متوازيين والكلمتان يفصل بينهما فراغ وثلاث نقط وكذلك واو
النّقط الثّلاثُ لها معنى ولا شكّ
وهذه الواو ماذا تُفيد ؟
وجهي…والرّياح
يمكن للواو أن تَتْبع ما سبق من معاني النّقط المخفية
يمكن أيضا أن تعود إلى وجهي فتكون واو عطف؟
ويمكن أن لا تكون بينها وبين كلمة وجهي أية صلة باِعتبار أن فصلا بينهما وأنها مكتوبة في سطر وحدها
ــ 5 ــ
للواو في العربية أسماء عديدة وتختلف بِاِختلاف معانيها وإشاراتها في سياق الكلام من بينها نذكر خاصة ـ واو العطف ـ واو الحال ـ واو المعيّة ـ واو الاِستئناف ـ واو رُبّ ـ واو الجماعة ـ واو الأسماء الخمسة ـ واو القسم ـ واو الثمانية ـ
أمّا هذه الواو في عنوان ـ وجهي...والرّياح ـ فهي غير الواوات السابقة لأننا نستشف منها غير معنى الحال ولا معنى العطف أو المعيّة ناهيك عن معنى القسم وغيره وإنّما تفيد معنى المقابلة والمواجهة كقول المتنبي ـ ذَراني والفلاةَ ـ وكذلك ـ ووجهي والهجيرَ ـ في بيته
ذَراني والفلاةَ بلا دليل * ووجهي والهجيرَ بلا لثام
هذه المقابلة والمواجهة وحتى التحدّي نجدها في غضون بعض القصائد وخاصة في القصيدة التي تحمل عنوان ـ لك أيّتها الرّيح ـ حيث تخاطبها في نبرة التحدّي وحتى اللامبالاة قائلة لك أن تمزّقي أشرعتي وأوردتي ـ وأن تفتّتي شراييني ـ وأن تسلّط عليها الأمواج فتعلو وتُزبد ـ وأن تكسّر أضلعها ـ وأن تلقي بها في اليابان والصّين ـ وحتى في أحد القطبين. رغم كل هذه التحدّيات العديدة والمهولة فإن الشاعرة ظلت ثابة متماسكة في شموخ وكبرياء وأنفة بل تقابل بالمحبة والصفاء والعطاء قائلة
أنا سنبلة المواسم في كل المراسيم
حبوبي منثورة
بآلاف الملايين
لي زهرات الآس
والقرنفل
والفل
والياسمين لك أيتها الريح
الفصل والقضاء
وأنا الصبر
والحب والعطاء ـ ص و120
ــ 6 ــ
للشاعرة سونيا عبد اللطيف مع الريح حكايات شجون وأسرار خفيّة لا يمكن كشفها لكنّها رشحت في هذا الديوان من بعض القصائد مثل قولها في ـ قصيدة الأسرار ـ.
أنا لا أثق في الرّياح
ولا أستهوي نسيج النواحي
....لكنما الرياح
منذ الخلق تصفعني...تتقاذفني
كانت عن الغواصة أسراري
وزدت في الإصرار
إذ رشقتني من كل الجوانب
حجارة الصوان
وحدي أناجيني مع أسراي
والشّمس أذرو أشعاري
أنشودة الرياح
أنشودة الرياح ـ ص60
***
سُوف عبيد ـ تونس