قراءة في كتاب
مجدي إبراهيم: قراءات نقدية في خطابات فلسفيّة
نوعيّة الكتب المُصنّفة بخبرة عالية هى في الغالب تفرض نفسها على أنظار القرّاء والنّقدة والمُحلّليين، وتعطي من الوهلة الأولى أقدار كُتّابها: من حيث المنهجيّة، ومن حيث الأصالة المعرفيّة، ومن حيث الإسهام في النهضة العامة، تُحسن به النوايا وتصلح التوجُّهات.
فأمّا الحيثية الأولى؛ فتظهر في ذلك الترابط المنهجي وفي الاتساق النظري إن في القضايا وإن في الشخصيات، ولا يظهر الترابط وهو في منأى عن القضايا المطروحة، ولا الاتساق النظري معزولاً عن الغايات الهادفة.
وأمّا الحيثية الثانية؛ فإنّ الأصالة المعرفيّة فيها تتأسس عليها الرؤى والأفكار التي يطرحها الكاتب في ظل ما يحكمه ويعتمد عليه ممّا يدور بخلده ويتأمل فيه، من حيث ما يتعامل مع المستويات الكامنة والعميقة في الخطاب الإنساني وتوظيفها توظيفاً يتناسب مع الطرح المُعاصر.
وأمّا الحيثية الثالثة؛ فلا تبدو واضحة جليّة إلاّ كمقصد أسمى يحمله قلم المؤلف حيث أهدى كتابه قيمةً باقيةً ودلالةً ثابتةً بمثل هذه العبارات قائلاً :”إلى الأذهان الواعية، والسّرائر النقيّة، والأذواق الراقية. إلى السواعد القويّة الفاعلة، والعقول المستنيرة الناقدة، والأقلام الحرّة الثائرة. إلى كل من عشق الوطن وأخلص في محبّته ودافع عن أمته، وإلى كل من أدرك الحق وجعله قبلته أُهدى هذا الكتاب”.
ولا ريب عندي في أن هذا الإهداء نفسه ليعكس حرفياً في ذاته شخصية الكاتب، ويُجمل تلك الحيثية الثالثة التي تقرّرت لدينا سلفاً بالإسهام في النهضة العامة : إصلاحها، وتقويم ما أعوج منها، ونقد ما لم يكن صالحاً للبناء فيها، مع توافر حُسن النيّة وتوجُّه العمل بوحدة قصد.
كتابُ الدكتور “عصمت نصّار” (خطابات فلسفيّة في ثياب أدبيّة) دراسات تجمع قراءات تحليلية في الثقافة العربية المعاصرة .. فيها الرأي والرؤية والأصالة والتأصيل خلال شخصيات بارزة. “قامات” أفرزت بالتكأةٍ على نقد العقل العملي “مقامات” انفردت بها، وتفرّدت. ثم دلّت من قريب على امتياز الثقافة العربية المعاصرة في حُقب زمنية أصيلة ليس من السّهل الاستغناء عنها بحال.
تظهر فيه جليّاً نوعيّة الكتابة التي ينهجها الأستاذ الدكتور عصمت نصار، أستاذ الفلسفة والمفكر العربي المعروف، كونها “إبداعيّة تأصيليّة”، فهي عندي ليست كتابة إبداعيّة فقط تجئ كسائر الكتابات التي تتراءى لنا صباح مساء بغير مرجعية ولا تأسيس، ولكنها إبداعيّة تأصيليّة في آن. ويغلب على الثانية فيها الوقوف على الآراء النقديّة ذات المسحة الفلسفية، والرجوع بها إلى أصولها الأولى وعيونها التليدة، تماماً كما يغلب على الأولى خلق الفكرة بالموازنة والمقارنة في إطار التأصيل ثم توظيفها توظيفاً فلسفياً على اختلاف عطايا الأبعاد الفلسفية؛ غير أنه توظيف يتعدّى الإنشاء النظري إلى حيث الوقوف على الأصول المعرفية العمليّة في الخطابات المُراد تحليلها لأشخاص مؤثرة يقوم المؤلف بدراستها.
الدلالةُ لا شك فاعلة جداً في ضوء المناقشة لآراء المفكرين المعاصرين في ثقافتنا العربية، وفي ظل منجزات الفلاسفة الذين ألبسهم المؤلف الثياب الأدبية وكشف توجُّهاتهم، واستنطق من نصوصهم الملامح الفلسفية والأبعاد الإصلاحيّة والدلالات العلميّة والتطبيقية. غير أنهم لم يكونوا فلاسفة بالمعنى الدقيق للكلمة، ولكنهم كانوا أدباء ذوي نزعات إصلاحيّة وخطابات فلسفية. ولأجل هذا سأبدأ بفرضين في عرض الكتاب – وأنا واحدٌ من بين كثيرين ممّن تابعتُ أكثر موضوعاته وناقشتها وعلقتُ عليها وكتبتُ عنها في حينها – وأنتهي بخاتمة.
فإنّ حوار المثاقفة مع شيوخ الأدب العربي ليظهرنا (أولاً) على توظيف الأنساق الفلسفيّة على أفكار قادة الرأي في الفكر العربي وإسقاط مراحل تقسيم الفكر الغربي المعاصر على نظيره العربي وهو ما تعنيه بالتوظيف الفلسفي، الأمر الذي تميّزت به كتابات عصمت نصار وخطاباته الفلسفية.
ويظهرنا (ثانياً) على نقد الأبنية الأدبيّة في الخطابات الفلسفية نقداً يقوم على التقدير والتقويم، واستطلاع آثارها التطبيقية في الواقع العملي مع القطع بفشل هذه الجزئية الأخيرة في الخطابات الحداثية الغربية.
أمّا الخاتمة؛ فنرجئها لحين الانتهاء من إعطاء صحّة اختبار هذين الفرضين في ضوء موضوعات الكتاب. وليس من فصل في النهاية بين هذين الفرضين سواء من جهة التوظيف الفلسفي أو من جهة النقد الذي يأتي خادماً بالتقييم والتقدير لمثل هذا التوظيف، لأنه لو كان ثمّة فصل فلا ريب سيكون فصلاً تعسفياً غير مقبول عقلاً ولا منهجاً، وسيؤدي إلى خلل غير مرجوّ النفع أو مرجوّ الفائدة، فضلاً عن الربكة والشتات.
يندرج الرأي الذي يراه “عصمت نصار” في مقدّمة كتابه تحت ضرب المراجعات النقديّة، ولعلّه هو نفسه – في حدود علمي – أوّل من نزع إلى تأصيل مصطلح المراجعات النقديّة تأصيلاً فلسفياً بالرجوع إلى المفاهيم الفلسفية سواء لدى النهضويين المجددين بداية من “هرقليطس” إلى “جاك دريدا” ومروراً بالتجريبين بدايةً من جابر بن حيان وابن الهيثم وإخوان الصفا، ثم فرنسيس بيكون وديكارت، وحيث تكون المراجعة تعني الشرح؛ فشروح ابن النفيس لكتب ابن سينا وشروح ابن رشد لكتب أرسطو وإسهامات الرازي وابن الهيثم تؤكد ذلك. وإذا كانت تعني التأويل فبالنظر في كتابات فيلون السّكندري تلتمس مراجعاته لنصوص التوراة ومحاولاته حلّ العديد من المشكلات اللاهوتية عن طريق التأويل الرمزي، وكتابات “هيدجر” عن التأويل للوصول إلى معنى الفهم ووضع المعايير للفهم الصحيح للألفاظ والمعاني والدلالات في ضوء الواقع الفعلي.
أقول إن “عصمت نصار” هو من أوائل الذين أصّلوا للمراجعة تأصيلاً فلسفياً بما صدقاته الاصطلاحية ودلالاتها الواقعية – وإن كنّا لا نعدم في ثقافتنا العربية وجود عناوين تحمل اسم “المراجعات”، ولكنها وإن تكن فلا تنحو هذا المنحى الفلسفي من جهة التأصيل – وذلك في كتابه الموسوم (مُراجعات فلسفيّة في الفكر العربي الحديث)، إيماناً منه بأن العقلية الناقدة المُبدعة هى وحدها القادرة على المراجعة، وأن القيمة الحقيقية للعقل تكمن في قدرته المحيطة على المراجعة الحرّة بمعزلٍ عن السلطات السابقة التي حدّدت معاني الكلمات وفسّرت العبارات وأوّلت النصوص ووجّهت القراءات. ولم تكن قاعدة المُراجعة فيما أشار إليه “ديكارت” في كتاباته، كمقال في المنهج والتأملات، سوى هاته الملكة الناقدة القادرة على الاستقصاء والتحليل والوصول إلى حقائق متّسقة الأجزاء تكشف في الوقت نفسه عن علة الأخطاء التي يمكن للذهن أن يقنع فيها بفعل السلطات السائدة أو بأنشطة المعارف الزائفة.
وعليه؛ تصبح المراجعة مصطلحاً يمسُّ صميم المنهجيّة، إذ إنها بمثابة الركن الرئيس لإثبات صحّة الحكم والاستنتاج والاستنباط وإزالة اللّبس من الذهن والغموض من المفهوم، إذا ما توافر فيها ثلاث خصائص : الأناة والرّويّة، الشمول والإحاطة، النظام والترتيب (ص 13 وما بعدها).
من هنا، تجئ رؤية الكاتب مستندة دائماً إلى مراجعاته النقديّة. وقد كان لا بدّ لهذه المراجعات أن تتحدّد بمقياس الصبغة التي تصطبغ بها الثقافة العربية، والفترة التي يسودها الطابع المُميّز لها. وبما أن الفكر العربي يُقاس بنظيره الغربي على أقلّ الفروض في معرض المقارنة، فقد جاز له أن يقول: ” إنّ من يُراجع البنية الفلسفيّة للفكر العربي الحديث بكل قضاياه واتجاهاته ونجاحاته وإخفاقاته وخطاباته ومشروعاته، سوف يدرك أنه كان أكثر واقعيّة وأقرب إلى المسحة العمليّة من تفلسف الغربيين والشرقيين المعاصرين للحقبة التي شهدت فجر نهضته الحديثة، أي منذ أخريات القرن الثامن عشر حتى نهاية القرن التاسع عشر، وهى تلك الفترة التي يمكن أن نطلق عليها عصر الحداثة العربية التي انتصر فيها قادة الرأي للعلم والتجربة العمليّة والعقل المنهجي الذي اتخذ من النقد سبيلاً للإبداع وقراءة الحاضر والتخطيط للمستقبل”.
ولم يكن بُعد التفكير العربي في تلك الفترة عن الإنشاء النظري المُجرد إلا لعلّة تخدم الغرض الإصلاحي ترجوه الأمة ويرتقبه المجموع وتتوافر عليه جهود المُصلحين. ولم يكن زعماء الإصلاح يُوالون النقد الدائم إلا ليكون سبيلاً للتخطيط المستقبلي والتقدّم المأمول.
وإذا كانت هذه الفترة الزمنية السابقة يُطلق عليها عصر الحداثة العربية من منظور عصمت نصار، فإن الفترة التالية عليها والممتدة من العقد الأول حتى العقد السادس من القرن العشرين فهى أيضاً من منظوره أقربُ إلى بنية ما بعد الحداثة من حيث ثراء الأفكار وتباينها ونقد كل أشكال التبعيّة والانفتاح على الآخر ومقاومة السلطات لتغليب روح الثورة على الاستسلام أو المهادنة كما قال، وهذا لا يصدق على مصر فحسب ولكنه يصدق كذلك على معظم المدارس المنتجة للخطاب الفلسفي أو الخطاب الثقافي العربي الحديث بوجه عام (مصر، والشام، والعراق وتونس، والجزائر، واليمن)، ولا يصدق هذا التحليل على كل منابر الفكر العربي إلا بنسب متفاوتة تبعاً لقوة الخطابات وأصالة المشروعات.
لم يشأ المؤلف أن يعمّم أحكامه جزافاً على مراحل الفكر العربي المعاصر بغير تحديد ولا تقويم، ولم يكن ليخلط بين فتراته الزمنية أو ليتغافل عن تمييز خصائصها، ولكنه في هذا التقسيم شاء أن يصبغه بالصيغة المنهجية الناقدة، وهى في نفس الوقت صبغة ذات نظرة داعمة للتوظيف الفلسفي أو إن شئت قلت مؤسسة عليه، وهو الذي سبقت إليه الإشارة فيما كنا افترضناه؛ فلئن صحّ مثل هذا الفرض وتحقق الغرضُ منه، فلا أقلّ من أن يكون في تقسيم المراحل على هذا النحو قناعة النظر المُنصف المُجرّد عن الأهواء العقليّة.
ولكي يُبقي الغاية سليمة من وراء تلك النظرة الهادفة يتضمّنها كتابه وفق قراءاته النقدية، راح يسدّ كل ذريعة تتطرّق إليها الدعوى أو ينالها التعطيل، وقد حدّد الغاية وأصاب الهدف وأخضع الخطاب الأدبي المتفلسف، لمن كان قد أختارهم من قادة الرأي، تحت مشارط التحليل؛ فقال: “وحسبي أن أشير إلى أن الخطابات الفلسفية في مرحلة الحداثة أو في مرحلة ما بعد الحداثة (في الفكر العربي وفق هذا التقسيم) لم تتخذ من الخطاب المُرسل المُفعم بالتنظير أو النُصح أو الوعظ سبيلاً لها، بل انتهجت نهوجاً غير تقليديّة لإعادة بناء شبيبة الطبقة الوسطى والتواصل معهم، ولعلّ أشهر تلك النُّهوج هو الخطاب الأدبي المتفلسف، وأعني به قالب المقامة والقصّة الذي سكب فيه المُصلحون جلّ آراءهم وانتقاداتهم ومشروعاتهم في التجديد والتحديث والتنوير، أضف إلى ذلك الحوارات الخيالية المختلفة التي كان يُجريها المُجدّدون المحدثون مع الفلاسفة القدماء والمعاصرين لهم؛ بأسلوب نقدي ساخر من أجل تقريب الأفكار والتصورات إلى الأذهان”.
ولم ينس بالإضافة إلى الخطاب الأدبي المتفلسف، دور الشعر والرواية والقصص القصيرة والملاحم الشعبية وفن الموال والفولكلور والمسرح والغناء والتصوير الفني، فجميعُ هذه القوالب الفنيّة من وجهة نظر المؤلف قد حوت بين طياتها خطابات فلسفية توجيهيّة، لأنها فيما يظهر اعتمدت دعائم التفكير الناقد بغية الإصلاح، وآثرت خطاب الرأي العام التابع وخطاب الرأي العام القائد سواء بالنقد المباشر أو غير المباشر فيما لو كانت السلطة غاشمة، ولا بدّ أن تكون، ثم نهضت بالمجموع كيما ينهض فيستقيم.
وبما أن مظاهر التصوير الفني قاطبة على اختلاف أنواعها إن هى الا خطابات فلسفيّة توجيهيّة إصلاحية تجديديّة، فقد علق المؤلف أمله الكبير على شباب الباحثين المجتهدين أن يطلعوا بالكشف عن تلك الخطابات الرائدة التي أصطنعها قادة الرأي وأبتدعها المجدّدون فيهم؛ لتثقيف الرأي العام وتقويم وإصلاح ما في أخلاقه وعوائده عن طريق هاتيك الخطابات غير التقليديّة. ولم يكن الأمل الكبير بمعزلٍ عن تلك الحيثية الثالثة التي تقرّرت لدينا سلفاً في مطلع المقال؛ كونها إسهاماً فاعلاً في النهضة العامة : إصلاحها، وتقويم ما أعوج منها، ونقد ما لم يكن صالحاً للبناء فيها، مع توافر حُسن النيّة وتوجُّه العمل بوحدة قصد؛ وذلك في سياق هادف بنّاء يخضع لمنظومة قيم لا يملُّ المؤلف من التأكيد عليها وهى أن خلاصنا ممّا نعانيه من مشكلات وأزمات وأوضاع في واقعنا المعيش إن هى إلا أصداء وانعكاسات لغياب الوعي في ثقافتنا العربية؛ فنحن فيها غُرباء لا نعدو كوننا موجودات هامشيّة، لم تستطع البرهنة على وجودها في أعين السادة المهيمنين المبتكرين الفاعلين.
أنا شخصياًّ اتفق تماماً مع ما يقوله المؤلف ويؤكد عليه، من أن الحق الذي لا مرية فيه هو أنه لم يعد أمام شبيبتنا سوى خيار واحد، ألا وهو إعادة بناء الذات قبل التطلع لتحقيق الرغبات وبلوغ الأماني، من أجل ذلك جاء تقديره لتلك الخطابات الفلسفية في ثيابها الأدبية فتحاً جديداً مقروناً بتأصيل القيم وتفعيل الثوابت الوجودية؛ ليقظة الوعي في ثقافتنا العربية المعاصرة، وهو ما كان قرّره في معظم مؤلفاته.
***
وتأسيساً على اختبار صحّة الفروض التي افترضناها من قبل سواء من جهة المنهجية النقديّة، أو من ناحية التأصيل الفلسفي، ليس يمكن غض الطرف عن أقسام الكتاب الثلاثة، إذ يبرز القسم الأول (قامات ومقامات) ليتناول فن المقامة والحوار الجدلي الفلسفي؛ فإذا أمامنا في الصدر الأول ابن المقفع في كتابه “كليلة ودمنة” والخطاب المسكوت عنه، غير أن اختياره لابن المقفع لم يكن آتياً كيفما أتفق؛ بل باعتباره المصدر الذي استوحي منه المجدّدون طرائقهم في النقد والتعميّة والتورية والترميز. وبما أن ابن المقفع كان المصدر المُلهم لخطابات المستنيرين الأُوّل، فلقد جاءت أقرب إلى فلسفة المقاومة منها إلى النقد الثوري.
ولأجل هذه النقطة وحدها يصبح قصد المؤلف ذا دلالة في اختياره لشخصيةٍ رائدةٍ تمثل معطيات الحوار الجدلي الفلسفي، ولم يكن قصداً مجرّداً عن الدلالة أو عن النظر والتحقيق.
وفي ذات القسم يعرض لخطاب الاستنارة الذي صاغه رفاعة الطهطاوي في كتاب أدّعى أنه قصّة مترجمة عن الفرنسية كيما يتخذ منها ستاراً للبوح بأفكاره ونقداته السياسية والاجتماعية، فإذا خطاب الاستنارة يكمن خلف ستائر الحكايات. أمّا الفصل الثالث؛ فيخصصه المؤلف لمسامرات على مبارك التي انتحلت القالب القصصي الروائي ووضع اللبنات الأولى لمشروعه الإصلاحي ومناقشة قضايا عصره؛ لتكون فصلاً بعنوان “نهوج الإصلاح وقصة الباشا الفلاح”.
وفي الفصل الرابع من القسم الأول، يتناول المؤلف المقامة الفكرية لعبد الله باشا فكري تحت عنوان “إبداعات معلّم وحكايات الفيلسوف الناقد”، ليجلي جوانب موهبته في تصور الأحداث والمواقف في عالم خيالي أكثر إثارة ممّا يشاهد الآن في الأعمال المُحاكية، بالإضافة إلى إبراز قدراته في التخفي والرمزيّة. ثم ينتقل في الفصل الخامس إلى خطاب صحفي ناضج مستنير لمصلح ذي قلم رصين، ثائر وغيور على مصلحة بلاده، برزت في نقداته الرؤى الفلسفية هو محمد المويلحي في مقامات “حديث عيسى بن هشام” وهى التي تعدُّ في رأي “عصمت نصار” أرفع درجات التفكير الناقد في القرن التاسع عشر غير مُنازع.
ثم يأتي القسم الثاني من الكتاب، تحت عنوان رئيس “محاورات ومساجلات”؛ ليشمل مصاولات ومناظرات متوهّمة، بين شبيبة هذا العصر وأكابر الفلاسفة والمصلحين الذين وجهوا خطاباتهم إلى الشباب في فترات زمنية متباينة. قصد المؤلف في هذا القسم من عقد تلك المحاورات إثبات قيمة، وتفعيل فضيلة، وترقية خصال، وتربية طباع، بتعلق علوي قلّ أن نلمسه اليوم بين الكاتبين وهو : أن القيم العاقلة والمبادئ الراقية لا تختلف من جيل إلى جيل ما دام عنصر الأصالة فيها متوافراً غير مجهول ولا منكور. يثبت هذا مع مراعاة أذواق العصور واختلاف الأجيال وتطورات الأزمنة؛ إذ كان عمق المبادئ المستنبطة من دُربة الفلاسفة ومعرفتهم ودرايتهم بأحوال الشباب وطبيعة أذهانهم وطرائق تفكيرهم وخصالهم النفسية والذهنية والذوقية ممّا يؤيد ذلك كله.
ومن أجل هذا؛ ناقش علاقة الشباب بالشيّاب، وتمرُّد الفريق الأوُّل على نصائح الآباء والأجداد بحجّة أن حكمتهم الموروثة كانت تناسب الثقافة التي كانوا يعيشونها، وأنّ من حق الشباب التمرُّد عليها واتخاذهم من ثمّ نهجاً جديداً يعكس نجاحاتهم وإخفاقاتهم ورغباتهم وانتقاداتهم. جاءت تلك الحوارات المتخيلة رهينة في البدء بحكماء مصر ومحاولاتهم الرائدة لمخاطبة الشباب والتحاور معهم. ومن حكماء مصر إلى البحث في الثقافة الهنديّة حيث محاورات بوذا مع تلاميذه، ثم إلى الفلسفة الصينية ومثاقفات كونفوشيوس مع رفقائه، ثم لقمان الحكيم ونصائحه، وحجة الإسلام الغزالي وحواره مع ولده.
يستوثق من هذا كله في إطار منظومةٍ من القيم الثوابت أرادها المؤلف بمثل ما يريدها كل أصيل بحّاثة ولا يقدر على تحقيقها في الواقع الفعلي، يكفيه أن يتمنّاها، لكن أن يحقّقها دراسة وبحثاً كما فعل عصمت نصار ثم ولاءً للقيم العلويّة؛ فقلّ وندر.
ولا جَرَمَ في أن الثوابت من القيم – هكذا تكلّم المؤلف – والأصيل من الأخلاق هى في تقديره لا ينالها التبديل والتغيير. ومن أجل ذلك، وقف على كتابات جان جاك رسو الفيلسوف الفرنسي إلى ولده، واختتم سلسلة المحاورات بثلاثة أعلام من الفكر العربي أولهما أقرب إلى الاتجاه المحافظ المستنير وهو توفيق الحكيم. والثاني أقربُ إلى الاتجاه العلماني المستغرب وهو سلامة موسى. والثالث أدنى إلى اتجاه المحافظين المجدّدين وهو ذكريا إبراهيم.
حقيقةً يُحسب للدكتور عصمت نصار هذه اللفتة الإبداعية الأصيلة الواعية، وهو المعلم بالطبع والعادة، يصرف جهده الذهني نحو الشباب، إذ كانوا الأمل؛ لتوعيتهم وتثقيفهم وترقية غاياتهم وتعلقهم الدائم بالأسمى والأرقى في كل حال، يُحسب له تخريجها من ركام هائل من تراث الفلاسفة عبر العصور، والكشف عن أصولها ومباحثها ووضعها أمام عقول الطالبين؛ لتكون قيمة باقيّة لا مناص من تمثلها للقادرين عليها في كل جيل. وهو مع ذلك ينبّه القارئ إلى أنه لم يكن ليفتعل الأحداث، أو لينتحل المتون، أو ليطوع النصوص كيما تتفق مع الأسلوب الحواري تجاه الشباب. لا لم يكن ليفعل هذا في جميع ما جاء به من كتابات الفلاسفة والمتفلسفين، ولكنه يشدّد على أن ما أورده في سياقاته المعنيّة، كان الفلاسفة ولا شك قد كتبوه بأسلوب حواري جامع بين النصح والإلزام والتوجيه الرامي إلى خلق الالتزام بداخلهم.
هذا، وبالانتقال إلى القسم الثالث من الكتاب، لوحظ أنه مجموع من مقالات متباينة في وجهتها وموضوعها، عنونها بـ “نظرات وتأملات”، غير أنها تحمل في ذاتها أطياف الحسّ الأدبي وأنداء الخيال الرمزي من جهة والرؤية الواعية من جهة أخرى.
تحدّث المؤلف عن تجربة ابن طفيل القصصيّة في فصل بعنوان ابن طفيل بين الفلسفة والأدب؛ لتجيء قصة “حي بن يقظان” التي وضع فيها كل فلسفته تثبت ألا فصام بين المعقول والمنقول، ولا صدام بين الفلسفة والدين إلا من حيث النهج والمنهج.
أمّا الفصل الثاني من القسم الثالث؛ فكان عن الروحيّة الحديثة، وهو فصلٌ مجعول خصيصاً لإثبات أن الفكر الشرقي القديم لم ينتج الخرافة كما يتوهم البعض ولم يصطنعها من عندياته؛ بل إن التصورات الميتافيزيقية والقصص المفعمة بالغيبيات قد شغلت المفكرين في الغرب والشرق على السواء، وربما بالغ الغربيون بالولع بهذا اللون من ألوان الخيال والحديث عن العالم الآخر، وكان حظهم منه أكثر من غيرهم. ثم جاء الفصل الثالث ليشمل التفكير الناقد وحاجتنا الماسة إليه؛ وليعطي صورة وافية عن مستقبل ثقافتنا العربية.
***
يبقى في خاتمة كتاب “خطابات فلسفيّة في ثياب أدبيّة” لمؤلفه الدكتور عصمت نصار، والصادر عن دار نيوبوك للنشر والتوزيع بالقاهرة، والذي ينتظم هو وأخيه “مراجعات فلسفيّة في الفكر العربي الحديث” في عقد واحد وتوجُّه واحد ومنظومة فكريّة واحدة، يبقى أن نقول إن عنصر الأصالة في ثقافتنا العربية يميزه عن غيره شديد التميز مثل هذه الدراسات، ويحيى فيها من جديد يقظة الوعي بالاطلاع على المصنّفات التنويريّة، وإن كنا نرى – وأعتقد أن ما نراه لم يغب عن اعتبار الدكتور عصمت نصار بوجه من الوجوه – إعادة النظر في استخدام مصطلح الاستنارة والتنوير، فيما لو قصد به الإشارة إلى كتابات بعض الكتّاب العقلانيين أمثال : سلامة موسى، وشبل شميل، وأحمد لطفى السيد، ويعقوب صرّوف وفرح أفندي أنطون، وغيرهم من طلائع النهضة العامة في الفكر العربي ممّن نقلوا عن الغرب دون إبداع كبير، يحفظ الهُويّة العربية ويحتفظ بالخصائص الحضاريّة والسمات الأصيلة؛ الأمر الذي يقدح تماماً في الخلط بين التنوير في التفكير العربي ونفس المصطلح في الثقافة الغربية؛ فالتنوير في ثقافتنا العربية ليس هو التنوير في التفكير الغربي لا لشيء إلا لاختلاف الخصائص والسّمات التي تعكس منظور الثقافة التي ينتمي إليها من يأخذ هذا المصطلح أو ذاك ليطبقه عنوة على الثقافة العربية.
وما يقالُ عن التنوير يُقال بنفس التقدير عن الحداثة وما بعد الحداثة؛ فما بعد الحداثة، فكرٌ تقويضيٌ معادٍ للعقلانية والشمولية والثبات، مصادم للكليات سواء كانت دينية أم كانت مادية. وبما أنه فكر يحاول الهرب من الميتافيزيقا، ومن الحقيقة والمركزيّة والثبات؛ فلا شك في كونه يظل غارقاً حتى الثمالة في الصيرورة التي تنقض القيم العلويّة وتقوض الدعائم الخلقية ومرتكزات الهُويّة الحضارية تتأسس عليها ثقافتنا العربية. ومن هنا كانت الخاتمة التي قصدنا فنقول بادي الرأي :
أصول ثقافتنا العربية عربية عربية؛ الأمر الذي يدعم فكرة تأصيل الهويّة العربية والبقاء عليها نقيّة مُعافة من لوثة الأغيار الخارجية. غير أنه عندي هو أملُ المفكرين لا واقع القائمين، ومع كونه هو الأمل المرجوٍّ إلا أن نسبة التحقيق فيه تبدو ضعيفة في ظل كدورات الحياة اليوميّة، وفي إطار وصمة العار التي تلاحق أوطاننا من جرّاء التفرقة والانقسام ثم التشرذم والانقراض ما لم يقم فينا رابطُ من التوحيد وطيد.
***
د. مجدي إبراهيم