قراءة في كتاب
علاء اللامي: فقرات من مقدمة معجم اللهجة العراقية
الجذور العربية والرواسب الرافدانية
إن محاولة إخراج المعجم اللهجوي العراقي من حاضنته العربية وهي اللغة السائدة في عصرنا وإرجاعها الى لغة منغلقة ومنعزلة على طائفة صغيرة من المتكلمين بها ولا تتأثر باللغات الأخرى باعتراف المؤلف نفسه ص 144، عمل لا مغزى فيه ولا يمت بصلة للمنهجية العلمية ولا يخلو من النزعات الأيديولوجية السياسية التي لا علاقة لها بعلوم اللغة.
ينطلق السيد قيس مغشغش السعدي في محاولته وضع معجم خاص للمفردات المندائية في العامية العراقية من أن اللغة المندائية كانت - كما يقول - لغة العراقيين القدماء قبل الإسلام. وهذا خلط فاضح وخاطئ علميا، فالكاتب يخلط وبشكل تعسفي بين النبطية والمندائية؛ فالأولى هي إحدى اللهجات الآرامية التي كانت سائدة في بعض جهات العراق والشام قبل الإسلام والمندائية وهي لهجة أخرى من الآرامية وكانت حكرا على طائفة منعزلة ومنغلقة لها ديانتها الخاصة هي الصابئية المندائية.
لم يكن المجتمع العراقي قبل الإسلام مجتمعا أحادي اللغة بل كان تعدديا لغويا وعرقيا قد مرت على سكان وادي الرافدين دول عديدة وكان مسرحا لهجرات وغزوات عديدة استقرت فيه شعوب وأقامت دولتها واندمجت في الغالبية السكانية من الأكاديين البابليين والآشوريين ومن هؤلاء شعوب جزيرية كالبدو الأموريين والآراميين وشعوب أخرى غير جزيرية كالحيثيين والميتانيين الحوريين، وليس معقولا أن تختفي هذه الشعوب كلها دون أن تخلف وراءها رواسب لغوية وتراثا ثقافيا واجتماعيا في المجتمعات الرافدانية.
وعلى أية حال فموقف المؤلف السعدي من موضوع العلاقة بين اللغات الثلاث (الآرامية الشرقية والمندائية والنبطية) يشوبه الغموض فهو يرى أن المندائية هي "الفرع الأنقى للآرامية الشرقية". ويضيف أنَّ العرب المسلمين حين دخلوا العراق وانتشرت وسادت لغتهم بقيت "ترسبات" من اللغة الأولى في اللغة الجديدة ونشأت لغة مشتركة بين العراقيين هي العامية العراقية التي أساسها اللغة المندائية!
ولكي لا نتهم بتقويل الرجل ما لم يقله، لنقرأ ما كتبه حرفياً بهذا الصدد: "نرى أن منشأ اللغة العامية هو وجود لغة أولى لشعب ما، ثم دخلت عليه لغات أخرى فاعتمدها وبقيت ترسبات اللغة الأولى في لسانه. ص2". للوهلة الأولى يظهر أن ما يقوله السعدي صحيح لا جدال فيه ضمن سياق الجذورية المشتركة للغات الجزيرية السامية، ولكن لندقق في ما قاله قليلا؛ فهل كان العراق قبل الإسلام خاليا من العرب والأقوام الأخرى غير الناطقة باللغة الآرامية - والمندائية لهجة منها-؟ وهل كانت اللغة الآرامية ممثلة باللهجة النبطية لغة أجنبية وبعيدة عن اللغة العربية أم إنهما لغتان شقيقتان متداخلتان ومتفاعلتان من عائلة لغوية واحدة هي التي يسمونها "اللغات السامية"؟ وهل وجدت العامية العراقية بعد دخول وانتشار اللغة العربية أم أن اللهجات ظاهرة تاريخية نشأت مع نشوء وتطور اللغات واختلاطها؟ وهل يمكن للسعدي أو لغيره مصادرة المفردات غير العربية واعتبرها مندائية فقط حتى إذا كانت موجودة في لغات أقدم انتشارا من المندائية كاللغة الأكدية بلهجتيها البابلية الجنوبية والآشورية الشمالية؟
إن القول بأن "اللغة" العامية العراقية هي لغة مشتركة ولدت كمنتوج لدخول العربية بعد العصر الإسلامي مع "اللغة الأساس" أي اللغة الأم الآرامية هو هراء لا علمي خطر، ولا يخلو من النزعة الأيديولوجية الانعزالية المناهضة لهوية العراق وشعبه العربية. ومعلوم أن هذه النزعة تفاقمت بعد الاحتلال الأميركي للعراق وإقامة حكم المحاصصة الطائفية وفق دستور المكونات الاحتلالي لسنة 2005. وإذا كانت السياسة قد فعلت فعلها في ميدان الشطب على الهوية الحضارية العربية للعراق حين توافق الساسة الإسلاميون الشيعة الذين تنكروا لعروبتهم وأصبح همهم إعلاء شأن هويتهم الطائفية الانعزالية مقابل أن يساعدهم الساسة الكرد في ذلك ويحصلون مقابل ذلك على ترسيخ هويتهم القومية الكردية وإعلاء شأنها مع الشطب على الهوية العربية للعراق وتحويل هذا البلد العربي إلى دولة عديمة الهوية، فإن جهدنا في هذا المعجم يطمح ليكون جزءا من الجهد الدفاعي عن هوية اللهجة العراقية وعلاقتها العضوية باللغة العربية جذورا واشتقاقات وقواعد وتصريفات!
لست هنا في معرض اتهام أحد اتهاما مباشرا وصريحا بأنه جزء من هذا المشروع المناهض لعروبة العراق في ميدان اللهجة العامية لشعبه، فليس لدي ما يؤكد ذلك وانطلق في معالجتي البحثية للموضوع من ركائز البحث العلمي الموضوعي ومن منطلق حسن النية حتى ثبوت ما يؤكد العكس، ولكني أضع حدثاً معيناً في سياقه التاريخي والاجتماسي العام بحثيا.
إنَّ اللغة العربية لم تولد في العراق مع دخول الفاتحين العرب المسلمين بعد معركة القادسية (19 تشرين الثاني 636 م)، فالعرب كانوا موجودين في وادي الرافدين وبلاد الشام القديمة "بلاد آرام" منذ القرن التاسع قبل الميلاد كما كشفت عن ذلك الأدلة الأركيولوجية المعتمدة والموثقة ومن أهمها نصب شلمانصر الثالث وتفاصيل معركة قرقرة (853 ق.م)، صعودا حتى نشوء وتوسع ممالك عربية، وعربية آرامية مختلطة، في الحضر والرُّها وتدمر وسلع "بترا" والمناذرة والغساسنة وغيرها.
فنحن لا ننفي وجود رواسب من اللغات الرافدانية المنقرضة كالسومرية والأكدية بلهجتيها والآرامية بلهجتها المندائية وحتى العبرية من خلال وجود المسبيين اليهوذاويين في بابل الكلدانية، ومع ذلك، أعتقد شخصيا، أنه لا توجد لهجة عربية أكثر غنىً وتنوعاً وتفرداً من اللهجة العراقية وريثة اللغات الرافدانية المنقرضة أو تلك التي في سبيلها إلى الانقراض، وأضيف إلى ذلك أنها اللهجة العربية الوحيدة تقريبا التي ما تزال تحتفظ بعشرات، وربما مئات المفردات العربية المنقرضة والتي لا وجود لها إلا في معاجم اللغة. وقد ضمَّنت في ذلك الكتاب "قويمسا" يحتوي شبكة واسعة أخرى من المفردات لنتعرف من خلالها على الحضور الكثيف لمفردات العربية القديمة في اللهجة العراقية المعاصرة. ومن هذا القبيل أوردنا المفردات التالية التي لا ترد في أي من اللهجات العربية المعاصرة بل ولا تستعمل في اللغة العربية الفصيحة "الوسيطة" بما في ذلك في العراق ولكنها موجودة في العامية العراقية؛ برطيل، مدردحة، أريحي، نازك، دحس، برطم، ملخ، دفر، أثرم، أجلح، ثخين، ثول، ثرب، خبن، أهدل وختل...إلخ. وقد اكتشفت امثلة أخرى خلال تأليفي لهذا المعجم.
وفي كتابي السابق، جئت بمثال على مقطوعة من الشعر الشعبي العراقي المعاصر في هذا السياق وأكرر الإتيان بها هنا لأثبت بمثال أن اللهجة العراقية من الغنى والثراء بحيث إنها تنطوي على مخزون هائل من الكلمات العربية المنقرضة "عربية ما قبل الإسلام" والتي لم يعد لها وجود إلا في المعاجم القديمة. لنقرأ هذه الأبيات للشاعرة "دَنَّة الساعدية " من جنوب العراق - عاشت في بدايات القرن العشرين الميلادي-هذه الأبيات التي تحمس بها قومها على الحرب وتشيد بقائدهم "أبو مهودر "، قالت:
قوم وشد لبو مهودر على حصانه
يا الحر الكبير الـ خزل العانة
من كثر الطَبـُر يمناه خدرانه
وسيوفه بالجماجم أبد مثنية.
والقاف تلفظ حميرية / جيما غير معطشة /قاهرية. والشاعرة الساعدية هنا حذفت الهمزة من (أبو). واختزلت اسم الموصول إلى " أل ". وحركت باء طبر بالضم رغم إنها ساكنة، وسكنت مفردتي حصان، سيوف. وفي هذه الأبيات ذات البنية والمذاق "الجاهليين" مفردات من العربية القديمة غير المتداولة في لغة الكتابة الحديثة ولكنها حية في لهجة عرب جنوب العراق كما مرَّ معنا في أمثلة سابقة، ومن هذه المفردات الواردة في الأبيات والتي تذكرنا بمفردات المعلقات السبع: خَـزَّل = عوَّق. العانة = قطعان الظباء وحمير الوحش.
***
علاء اللامي