قراءة في كتاب
محمود محمد علي: سعيد الغانمي وقراءته لألف ليلة وليلة (1)
ليس هناك لحد علمنا أية دراسة عربية علمية عن كتاب "ألف ليلة وليلة" جاءت بعد الدراسة الرائدة، التي وضعها الباحث العراقي الدكتور محسن مهدي عن ألف ليلة وليلة سوي دراسة الأستاذ "سعيد الغانمي" في كتابه "خيال لا ينقطع: قراءة في ألف ليلة وليلة"، وهو كتاب يتضمّن مجموعة من القصص التي وردت في غرب وجنوب آسيا، بالإضافة إلى الحكايات الشعبية التي جُمِعت، وتُرجمت إلى العربية خلال العصر الذهبي للإسلام.
وقبل أن ننتقل للحديث عن سعيد الغانمي وقراءته لألف ليلة وليلة، نود أن نقدم موجزًا لسيرة الأستاذ "سعيد الغانمي"، فهو كاتب، وباحث عراقي، يقيم الآن في أستراليا، وساهم في عدد كبير من المنتديات والملتقيات الأدبية، كما قد ساهم في إلقاء محاضرات أدبية في عدد من الجامعات العالمية مثل جامعة (كيرتن) بغرب أستراليا وجامعة (جورج تاون) في واشنطن وغيرها، وحصل على جائزة الشيخ زايد في حقل الفنون والدراسات النقدية عام 2017م.
وللأستاذ سعيد الغانمي أعمال كثيرة ما بين أعمال مترجمة مثل : (كتاب الرمل) لخورخي لويس بورخيس وهلم جرا (تصل إلى أكثر من ثلاثين كتابًا)؛ وأعمال تحقيقية في التراث، وهذه أعمال حقق فيها الأصيل من عيون الكتب بدءًا من شعر ابن العلاف، والجواب على الأسئلة النصيرية للشيرازي، وتنقيح الأبحاث بالملل الثلاث، والأعمال الصوفية للنفري.. وهلم جرا. وأما الأعمال المؤلفة، فهي كثيرة وأذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: اللغة علمًا، والمعنى والكلمات، وأقنعة النص وهلم جرا.
وفيما يخص كتاب "خيال لا ينقطع: قراءة في ألف ليلة وليلة"، وهو كتاب يحمل في اسمه الأجنبي عنوان "الليالي العربية"، ولكنه في حقيقة الأمر هو كتاب يدخل في الذاكرة الثقافية لجميع المجتمعات، حتى في أوروبا؛ فقد دخل بعد ترجمة "أنطوان غالان" Antoine Galland إلى صلب المعتمد الأدبي والذاكرة الثقافية في الغرب، وفى أمريكا اللاتينية تطور بحيث استفادت منه كل أمريكا اللاتينية، وتم تحويله إلى مادة رئيسة في صياغة مشروعها السردي الذي تكوَّن في إطار الواقعية السحرية كما تعرفون، في المعتمد السردي في أمريكا اللاتينية، كما طورها "جبريل ماركيز"، و"بورخيس"، والأسماء اللاحقة عليهم.
وكتاب "ألف ليلة وليلة" كما يرى الأستاذ سعيد الغانمي يبدأ بحكاية إطارية، وهنا لا أتحدث عن تشكيل الكتاب ولا عن تاريخيته، إذ هناك موضوعات كثيرة يحملها هذا الكتاب، ولكن الأستاذ سعيد الغانمي يتحدث عن كيفية تصنيف الكتاب في تاريخه وتشكله، وكيف نشأ من حكايات صغيرة، إلى أن تحول إلى مدوَّنة كتب، وليس كتابًا واحدًا. وهو يعز على التصنيف، وقد أسميته مدونة كتب، إذ لا يوجد كتاب بهذه الخاصية، كما لا تستطيع أن تضعه ضمن خانة معينة، لكنه عمومًا ينتمي إلى الصنف السردي.
وقد كرّس الأستاذ سعيد الغانمي كتابًا كاملًا لتحليل الأصناف السردية العربية بدءًا من الحكاية البطولية، وانتهاءً بالسرد الخرافي المترجم، تحدثتُ فيه عن حكاية الحيوان، والسرد التاريخي، وحكاية الرؤية، وحكايات الجنيات، ويجري فيها رؤية العالم الآخر كالملائكة الجن والآخرة، والالتقاء بالأموات، والمنامات، ورسالة الغفران، والتوابع والزوابع وما أشبه، وبقية الأصناف الأدبية الأخرى.
وتوجد في "ألف ليلة وليلة" للأستاذ سعيد الغانمي أجواء ملحمية كثيرة، تجسدت في عدد كبير من الحكايات، مثل حكاية "بلوقيا" في سلسلة حكايات "ملكة الحياة مع "حاسب كريم الدين"، حيث نجد المادة الأساسية مأخوذة من ملحمة جلجامش، ولكن لا نستطيع أن نصنف الكتاب كله باعتباره "ملحمة"، إذ هو ليس بملحمة.
ولهذا يقول الأستاذ سعيد الغانمي في كتابي (خيال لا ينقطع: قراءة في ألف ليلة وليلة)، إن الكتاب لا يمكن تصنيفه، وذلك لكونه يمثل مدونة كتب (أي هو نص تأسيسي يصعب تصنيفه)، وهذه المدونة ليست كتابًا مقدسًا بقدر ما تمثل كتابًا مدنسًا، ولكن يمكن أن نقول بأنه نص كبير – نص تأسيسي، يمتلك خاصية عدم القدرة على التصنيف، ولهذا يمتاز بالانفتاح النصي، فهو كتاب غير مغلق، بل كتاب مفتوح على الإطلاق، أي كتاب بلا مؤلف، حيث يسند وظيفة المؤلف إلى الرواة المتعددين الذين يأتون أو يتطوعون لقراءته وروايته.
ومعنى ذلك أن هذا الكتاب كما يقول الأستاذ سعيد الغانمي يتجدد مع كل راوٍ، ومع كل قراءة جديدة يجد الكتاب نفسه وقد أضيف له عنصر جديد، لأن كل راوٍ من الرواة يسعى إلى أن ينوب عن المؤلف، ومن ثم يسعى إلى أن يفرض تفوقه، أو أن يقدم النسخة الفضلى، أي نسخة أفضل من النسخة السابقة التي قدمها السابقون من رواة الكتاب، وهذا الشيء يجعل الكتاب يتجدد باستمرار، وذلك لكونه كتاباً منفتحًا يعز على التصنيف، ولا يأخذ شكلًا نهائيًا على الإطلاق، فدائمًا لا يمتلك الشكل النهائي للكتاب نسخة معيارية، وحين نراجع مخطوطات الكتاب سوف نجد أن كل نسخة تختلف عن النسخة الأخرى، حيث توجد اختلافات في طريقة السرد، واختلافات في ترتيب الحكايات من كل أنواع الاختلافات.
أعتقد أن ما ذكره الآن الأستاذ سعيد الغانمي يعد مجرد فرشة للحديث عن الكتاب، ولكن الموضوعات التي تحدث عنها في الكتاب، هي موضوعات تركز على "العقد الضمني بين الراوي وبين المرويِّ له"، والراوي كما نعلم هي "شهرزاد"، والمرويُّ له هو الملك "شهريار". وكثيرًا ما يفرض الخطاب كما يقول الأستاذ سعيد الغانمي نوعًا من التصرف الفني على كتاب ألف ليلة وليلة، حيث هناك علاقة خفية موجوده بين الراوي والمروي له، أو بين شهرزاد وشهريار.
وكلنا يعرف أن كتاب "ألف ليلة وليلة" ينطوي على حكاية إطارية. ومصطلح الحكاية الإطارية كما يقول الأستاذ سعيد الغانمي معروف منذ القرن التاسع عشر. ولكن لم أجد تعريفًا للحكاية الإطارية. وعادة ما يتصور أغلب الباحثين أن الحكاية الإطارية هي التي تقع في أول الكتاب، أو في أول العمل. لكني قدمت تعريفًا جديدًا للحكاية الإطارية حين حققت كتاب "مخاطبة الوزراء السبعة".
وهذا الكتاب كما يقول الأستاذ سعيد الغانمي من الكتب القديمة، إذ لا يقل عمره عن عمر كتاب "ألف ليلة وليلة" نفسه، وقد عُرف في الثقافة العربية القديمة باسم (سندباد نامه)، وربما يكون قد تُرجم في منتصف القرن الثاني الهجري، أو قبل ذلك بقليل.
وعندما راجع الأستاذ سعيد الغانمي الكتاب، وحققه عثر على عدة نسخ منه مخطوطة، وتختلف فيما بينها إلى حد كبير؛ وابن النديم يشير إلى أنه موجود في نسختين: نسخة صغرى ونسخة كبرى، وقد توصل الأستاذ سعيد الغانمي إلى النسخة المعيارية الصغرى، وأما الكبرى فلم يجد الأستاذ سعيد الغانمي إلا نسختين متوافقتين لها. صحيح أنه عثر على ثلاث نسخ منها، ولكن كل نسخة كانت برواية مختلفة، وقد نشرت نص النسخة الكبرى، وأضفت عددًا من حكايات النسخة الكبرى كملاحق للكتاب.
يمتاز كتاب "مخاطبات الوزراء السبعة" كما يقول الأستاذ سعيد الغانمي بحكاية إطارية، مثل "ألف ليلة وليلة"، أي حكاية تقع في مدخل الكتاب، وتتعلق بملك حُرم من الإنجاب، ثم أُتيح له أن ينجب ولدًا في أواخر حياته، ولكن الولد كان يفتقر إلى الذكاء، فأسند تربيته إلى حكيم اسمه "السندباد"، وطلب منه أن يربيه، وأتقن الحكيم تربيته، وكبر الصبي، ووصل إلى درجة عالية من التعليم الراقي، وعاد إلى عرش أبيه الملك في البلاط، ولكن أستاذه قبل أن يعيده بساعات، قرأ طالعه، فوجد أن الصبي يجب أن يسكت عن الكلام لمدة أسبوع وإلا أصيب بكارثة.
الآن كما يقول الأستاذ سعيد الغانمي تم إخراس الغلام ابن الملك، وهكذا في البلاط لم يتحدث الغلام مع أبيه الملك، وتصور الملك الأب أن ابنه خجول، فأرسله إلى جناح الحريم لكي يخفف عنه الصدمة، أو يتسلى في الجناح. وفي جناح الحريم توجد جارية من جواري أبيه. اقترحت هذه الجارية عليه أن تمكِّنه من قتل أبيه وتعينه ملكًا بدلًا منه، بشرط أن يتزوج بها، وتساعده في التآمر على أبيه، ولكن الغلام يرفض رفضًا باتًا، ويبقى ساكتًا أيضًا لا يتكلم، ولكي تتحاشى هذه المعضلة تدّعي أنه راودها عن نفسها، وتذهب إلى الملك، وتقول له إن ابنك اعتدى عليَّ وينبغي أن تقتله.
من جهة أخرى نجد أن الصبي كما يقول الأستاذ سعيد الغانمي لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، لأنه سوف تحل به الكارثة حسب النبوءة التي قرأها الحكيم "السندباد"، فلا يستطيع أن يتكلم ليدافع عن نفسه. وهكذا يتعرض للتهمة، فيأمر الملك بقتل الصبي. ولكن كان عند الملك سبعة وزراء يمتازون بالذكاء، ويعرفون أن الملك يمكن أن يتراجع عن هذه النزوة، ولكي يثنوه عن قراره في قتله، ويجعلوه يتريث في إصدار الحكم، أرادوا أن يتطوع كل واحد منهم بأن يروي للملك حكاية لكي يثنيه عن قراره.
والآن صار السياق يفرض كما يقول الأستاذ سعيد الغانمي أن تدخل الجارية التي ادعت عليه لدى الملك، وتحرضه على قتل ابنه برواية الحكايات عن مكر الرجال، فيأمر الملك بقتله، ثم يدخل أحد الوزراء، فيأمر بالعفو عن ابنه وتأجيل قتله، لأن الوزير يروي له حكاية عن مكر النساء، وتكشف الحكاية التي يرويها الوزير عن مكر النساء. وهكذا يظهر نوع من التنافس بين حكايات ترويها الجارية عن مكر الرجال، وحكايات يرويها الوزراء عن مكر النساء.
هذا هو السباق هو الذى يعكس الحكاية الإطارية نفسها، حيث كل واحد يروي حكاياته، ومحتويات الكتاب ومجموعة من الحكايات التي ترويها الجارية، والتي يرويها الوزراء السبعة عن مكر النساء، وصمت الغلام لابد أن ينتهي بعد سبعة أيام حسب النبوءة.
بعد اليوم السابع يستطيع الغلام أو الصبي أن يسترد القدرة على الكلام، ما دام الوزراء السبعة قد نجحوا في تأجيل قتل الغلام لمدة سبعة أيام، هي الأيام التي قررتها النبوءة، حيث بعدها يستطيع الغلام أن يسترد الكلام ويدافع عن نفسه، ويتضح كذب دعوى الجارية وتقتل.
الآن هذه حكاية إطارية، وفي داخلها حكايات الوزراء والجارية، التي يسميها الأستاذ سعيد الغانمي "حكايات ضمنية"، وهي الحكايات التي تدخل ضمن حكاية سابقة تحتوي عليها، والحكاية الإطارية في تعريفها هي ليست فقط الحكاية التي تتصدر العمل، ولكنها هي الحكاية التي لا تكتمل إلا بعد اكتمال جميع الحكايات الضمنية في آخر الكتاب. وبعدها تنتهي الحكاية الإطارية في آخر الكتاب تمامًا، حيث تتضح براءة الغلام من التهمة التي ألصقتها به هذه الجارية، وتقتل الجارية نفسها. وهذه الخاصية الأولى تبين أن الحكاية الإطارية لا تكتمل إلا بعد اكتمال جميع الحكايات الضمنية في داخل الكتاب.
الخاصية الثانية: أن موضوع الحكاية الإطارية كما يقول الأستاذ سعيد الغانمي ينتقل إلى جميع الحكايات الضمنية، وهو ما يتعلق بجرم الحارية التي ادعت على الغلام أنه راودها عن نفسها، فيبدأ نوع من السباق بين حكايات مكر الرجال كما ترويها الجارية، وحكايات مكر النساء كما يرويها الوزراء السبعة. إذن فالعنصر الأساسي الثاني في الحكاية الإطارية هي أنها تنقل الموضوع الأساسي إلى جميع حكايات الكتاب.
هذا التعريف أيضًا كما يقول الأستاذ سعيد الغانمي يصح على "ألف ليلة وليلة"، والحكاية الإطارية في "ألف ليلة وليلة" لا تقع ضمن التسلسل والتقسيم إلى ليالٍ، وإنما تبدأ الليالي بعدها تمامًا، وخلاصة الحكاية كما يقول الأستاذ سعيد الغانمي أن الملك "شهريار" كان يعيش في بحبوحة في بلاطه، وفي يوم من الأيام، قرر أن يخرج إلى الصيد، فخرج إلى الصيد، وفى الطريق تذكر شيئًا، وعاد خلسه إلى بيته، وفوجيء أن زوجته تخونه مع عبدٍ من عبيده، فقتل الاثنين، وخرج متشردًا، وقد أصيب بجرح نرجسي نازف.
ذهب إلى بلاط أخيه الملك، وهناك قرر أخوه أن يسافر للصيد، وبقي هو في بلاط أخيه، وحدثت المأساة نفسها، حيث رأى زوجة أخيه تخونه من عبدٍ من العبيد أيضًا، فنسيَ مصيبته وبدأ يفكر ماذا لو عاد أخوه، أيروي له ما حدث أم ماذا؟، وعندما عاد أخوه لاحظ تغيراً في نفسيته، فقال له أخوه أرى تغيراً في نفسيتك، فحدثه بصراحة بما حدث له في بلاطه وفي بلاط أخيه، وهنا قرر الاثنان قتل الجارية والعبد، وخرج الاثنان معًا.
وفي النهاية تحدث في حياة الاثنين خيانة زوجية، ويعود كل منهما إلى بلاطه، لكنّ الكتاب ينسى أخا شهريار نسيانًا مطلقًا، وتبقى الحكايات محصورة بين ما حدث لشهريار وشهرزاد. لكن شهريار ظل يعاني كما يقول الأستاذ سعيد الغانمي من أزمة نفسية قاتلة أو جرح نرجسي كبير، وقرر أن يتزوج في كل يوم امرأة ويقتلها في الصباح التالي، حتى تزوج خمسمائة امرأة، ولم يعد في المدينة التي يحكمها نساء يمكن أن يتزوج بهن. وحينئذ تطوعت ابنة الوزير واسمها شهرزاد، وقالت لأبيها زوجني من هذا الملك، وإما أن أعالج هذا الملك، أو أذهب فداءً لبنات المسلمين. وهنا حاول أبوها الوزير أن يثنيها عن رأيها، ولكنه فشل، وفي اليوم التالي حملها إلى عرش الملك وزوجها منه.. وللحديث بقية.
***
الأستاذ الدكتور محمود محمد علي
رئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب - جامعة أسيوط
......................
المراجع
1- سعيد الغانمي: خيال لا ينقطع؛ قراءة في "ألف ليلة وليلة"، دار الرافدين للطباعة والنشر والتوزيع.
2- الباحث سعيد الغانمي - الف ليلة وليلة - 01/16/2022 - الصالون العراق بلوي أنجلس، يوتيوب.