قراءة في كتاب
غوته في حوار مع الألوان
منذ بداية الخليقة وحتى اليوم، ما زال الانسان يتفحص طبيعة الالوان وخصوصيتها،. وكثيرا ما يسأل الواحد منا نفسه : لماذا يفضل هذه الالوان بالذات، ونجد انفسنا نقف امام المرآة لننظر ايهما افضل الالوان لحضور هذه المناسبة.. ليست الالوان مجرد تدرجات تُرى، فهي تأتي مغلفة بشبكة من الارتباطات تتعلق البعض منها بالمزاج، فهي تؤثر على موقفنا تجاه تجاربنا اليومية، وكان الشاعر والمسرحي الالماني يوهان غوته احد الاوائل الذين اهتموا بدراسة نظرية الالوان، حيث اصدر عام 1810 كتابه " نظرية الالوان " – ترجمه الى العربية حيدر عبد الواحد وصدر مؤخرا عن دار الرافدين– ويعد الكتاب واحد من افضل اعماله في مجال الفكر.
ولد جوهان فولفانج غوته في فرانكفورت في الثامن والعشرين من آب عام 1749، والده محام صارم الفكر، أصرّ أن يتعلم ابنه اللاتينية والعبرية والفرنسية والإنكليزية وهو صغير، وطلب منه أن يكتب مقالات وينظم الشعر، ويقرأ كتباً في الفلسفة والفنون، هذه الحياة التي ارتبطت بالكتاب نجده صداها في شخصية فاوست الذي دائما ما يعقد مقارنة بين مغامراته مع الكتب وحكاياته مع النساء، يدرس غوته القانون في كلية ستراسبورج لكنه لايعمل في سلك القضاء مثلما تمنى والده، فقد انصرف للكتابة، ليصبح بعد سنوات واحداً من أهم أدباء المانيا، وليحظى بالتكريم خلال سني حياته التي استمرت أربع وثمانين عاماً، حيث توفى عام 1832
يحاول غوته في كتابه " نظرية الألوان " البناء على علم الضوء الخاص بنيوتن، لكنه بعد ذلك يتابع ليقدم للقراء موسوعة لما تعنيه لنا الالوان، وتفاسير للطريقة التي تثير فيها الالوان الرئيسية مشاعرنا،
يذكر ان غوته بدأ دراساته وتجاربه في علم الالوان عام 1790 وواصل على مدى عقدين من الزمن، حتى ظهر كتاب " نظرية الالوان " وكان عملا انصبت فيه كل الاكتشافات التي تم التوصل اليها في هذا المجال سواء عند القدامى اوفي العصور الوسطى مرورا بالقرون اللاحقة
في القسم الاول من الكتاب يتناول الالوان تبعا لشروط ظروفها على انها الوان فيزيولوجية وفيزيائية وكيميائية، يلي ذلك ثلاث فصول يلخص فيها اهمية الالوان في الطبيعة والحياة الانسانية.
ورغم ان غوته يستند الى افكار نيوتن عن الضوء إلا انه يعيب على نيوتن انه عزل التجارب عن الانسان، فعين الذي يرى اللون لم تدخل في الحسبان، غوته لم يكن ليستطيع ان يتصور عالما كائنا بذاته ومنفصلا عن المشاهد، فعلى سبيل المثال يمتلك الاحمر تاثيرا مهيبا والاصفر يمتلك شخصية هادئة، والازرق يمنحنا انطباعا بالبرودة ويذكرنا بالظل،والارجواني رمز للعظمة، كما ان الاخضر يرمز الى الأمل، وهكذا تحال الالوان لتعبر عن اغراض معينة فالفيروزي والياقوتي جميعا منسوبة الى الاحجار الكريمة والوردي مرتبط بازهار معينة وحتى البرتقالي سمي نسبة الى البرتقال، واذا نظرنا الى الالوان على هذا النحو، نجد ان معظمها استعارات ومن المنطقي ربطها بامزجة مرتبطة واستخدام تاريخي.
غوته يسمي الالوان ظاهرة طبيعية اوليةلحاسة العين تتجلى مثل بقية الظواهر من خلال عملية الفصل والتضاد والمزج والربط، ويؤكد حركية الالوان وتبدلها وسرعة نشوئها واختفائها وارتباطها وانفصالها، وهو يرى ان هناك علاقة فعلية بين اللون والاحساس، فكل لون يؤثر في الوجدان تاثيرا واضحا، والانسان ينشرح صدره للون بصورة عامة، انه يحتاج الى اللون احتياجه الى الضوء، وكل لون يهيء لحالة نفسية خاصة، فالاصفر له دائما تاثير دافئ يحث على العمل، في حين يحدث اللون الازرق شيئا متناقضا يمثل في الاثارة.
كتب غوته في كل شيء في الفلسفة والشعر والرواية والنقد، وخاضت كتاباته كذلك في بعض العلوم. وكتب أيضاً في النقد وفي اللغة، وغاص حتى في روحانيات الشرق وغيبياته وفي التاريخ وأسراره. وابدع في كتابة الرواية العاطفي كما فيروايته الشهيرة "، آلام فرتر" وقدم المسرحيةة الفلسفية في " فاوست " وهذا ما جعله واحداً من أكبر الأدباءالمفكرين في تاريخ الفكر الأوروبي غير أنه، هو الذي أبدع الكتابة في نظرية الألوان وفي البصريات، كان يعشق الرسم، لكنه فشل في ان يصبح رساما، ولم يجد طوال حياته وسيلة تمكنه من أن يرسم.. ويروى في مذكراته " من حياتي،. الشعر والحقيقة " – ترجمة محمد جديد – أنه كان يعاني من جراء فشله في ان يصبح موسيقيا او رساما.
في خاتمة كتابه " نظرية الألوان " يكتب غوته :" حين ينظر الى الفن بطابعه الأعلى، قد نتمنى أن لا يُعنى به إلا المحترفون وأن يتدرب العلماء على دراسته بدأب وعناء، وأن يشعر الهواة بالسعادة في التقريب المبجل لحرماته، فمن اجل أن يكون العمل الفني انصهاراللعبقرية، يجب على الفنان أن يستحضر جوهره وشكله من كوامن النفس، وأن يستحدم التاثيرات الخارجية لتحقيق سلطاته وحده ".
في سيرته الذاتية نعرف ان اهتمام غوته بالفلسفة وعلوم الطبيعة بدأ مبكراً بتعرفه لأول مرة في مكتبة والده على كتاب الجمهورية لافلاطون الذي قال عنه إنه اول كتاب يفتح عيني على العالم، ومنذ ذلك الحين صارت الفلسفة أكثر ما يتحدّث فيه مع رفاقه في المدرسة، يتذكر يوهان جوهان فولفانغ غوته كيف أن مجموعة من الكتب قد اجتذبته أكثر من سواها وسيكتب في سيرة حياته التي أسماها " الشعر والحقيقة " متذكراً المكتبة الكبيرة التي كانت تأخذ حيزاً كبيراً في ذلك المنزل الذي يتألف من مبنيين متجاورين :" هناك عندما كبرت، لم تكن إقامتي في جو يخيم عليه الحزن، بل سادها التوق وخالجها الشوق الى المعرفة "، يتذكر أن عمه رشح له مجموعة من الكتب، كان لمعرفة غوته الطالب الصغير بعالم الفلسفة أبرز الأثر في كتاباته فيما بعد، ففي سن العشرين بدأ يبشر بفلسفة سبينوزا، وآمن إن الشعر بحاجة الى العلم، لكنه اختلف مع أفكار نيوتن فهو يعتقد ان واجب العلم البحث عن تعابير واستعارات في الطبيعة تبرهن على الوحدة المستكنة في كل جزء من أجزائها، توقع غوته من العلم كالدين سواء بسواء تأكيد لمقولته الشهيرة " كل الأشياء تتشابك وتنسجم في كلٍ كامل ".
في عام 1769 كان غوته في العشرين من عمره حين وقع في يده كتاب " مقال في إصلاح العقل " حيث وجد في هذا الكتاب، أجوبة على أسئلة كانت تدور في ذهنه عن علاقة الدين بالتفكيرالعقلي والعلمي، وسيصبح إبداع غوته الشعري تفسيراً لفلسفة سبينوزا، فقد وجد غوته في كتابي سبينوزا مفاهيم جديدة عن الحرية وموضوعة الذاتية الفردية، كتب غوته رساله الى شوبرت يخبره فيها إن الفلسفة وحدها ستبلغه سر الوجود، يكتب غوته :" "في البداية قرأت كتب الفلسفة بجد وإخلاص، لكن الفلسفة لم تنورني فقط، بل مارست عملية هدم وعزل، أتلقف تلك العمليات الذهنية التي كنت أؤديها بأقصى قدر من السهولة في شبابي، لكي أرى الاستخدام الصحيح لها"،
يكتب هاينريش هاينه "خرج تعليم سبينوزا من شرنقة الرياضيات، وأخذ يرف من حولنا في صورة غوته".
***
علي حسين – كاتب
رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية