قضايا

رافد القاضي: الحسد.. قراءة أكاديمية

في الجذور النفسية والاجتماعية والدينية لأقدم الانفعالات الإنسانية

يُعدّ الحسد واحداً من أكثر الانفعالات الإنسانية حضوراً في التاريخ الفكري والاجتماعي والثقافي. ورغم قدمه، فإنّ الدراسات الحديثة ـ في علم النفس والاجتماع والدين والأنثروبولوجيا ـ تكشف أنّ الحسد ليس ظاهرة بسيطة أو سطحية، بل حالة مركّبة تتشابك فيها البنية النفسية للفرد بالمحيط الاجتماعي والثقافي والقيمي الذي يعيش فيه ويشكّل الحسد نقطة تماس بين السلوك الانفعالي والوعي الأخلاقي وبين الدافع الغريزي والبناء الحضاري ومن هنا تأتي أهمية دراسته كظاهرة إنسانية تتجاوز حدود الأخلاق الشعبية لتصبح موضوعاً للبحث العلمي وسيتم نثر ذلك عبر الاتي:

أولاً: الجذور النفسية للحسد

1.الحسد في علم النفس المعاصر.

يعرّف علماء النفس الحسد بأنه حالة انفعالية مؤلمة تنشأ عندما يشعر الفرد بنقص أو تهديد ذاتي نتيجة امتلاك الآخرين لميزة أو إنجاز أو مكانة لا يمتلكها هو ويختلف هذا التعريف عن الحقد والغيرة، فالحسد يقوم على المقارنة السلبية، بينما تقوم الغيرة على الخوف من فقدان ما يملكه الفرد أصلاً.

2. الحسد بوصفه صراعاً داخلياً.

يرى علم النفس التحليلي أن الحسد ينشأ من صراع بين رغبة الفرد في التميز وبين شعوره بعدم الكفاية. ومع تراكم التجارب، يتحول هذا الانفعال إلى "عدسة" ينظر من خلالها الفرد إلى نفسه والعالم، فيرى الآخرين على أنهم تهديد دائم، ويُفسّر نجاحاتهم على أنها اعتداء ضمني على قيمته الذاتية.

3. الحسد وعلاقته بالهوية.

تشير الأبحاث الحديثة إلى أنّ الحسد يرتبط بضعف البنية الهوية؛ فالأشخاص ذوو الهوية المستقرة والأهداف الواضحة أقل عرضة للحسد من غيرهم ويبرّر علم النفس هذا الارتباط بأنّ الهوية القوية تمنح الفرد مساحة كافية لفهم معاني الإنجاز وتقبل الفروق الطبيعية بين البشر.

ثانياً: المحركات الاجتماعية للحسد

1. الحسد كنتاج للبيئة الاجتماعية.

تتسع ظاهرة الحسد في البيئات التي تكثر فيها المقارنات: داخل العائلة المؤسسات، المجتمعات الصغيرة، أو المحيط المهني فالتنافس الحاد وضعف الفرص وشعور الأفراد بغياب العدالة الاجتماعية كلها عوامل تغذّي نشوء الحسد.

2. ثقافة الاستعراض وتأثير الإعلام الاجتماعي.

مع تطور وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح الأفراد يعرضون لحظاتهم المنتقاة بعناية: السفر، الطعام الفاخر، الإنجازات، الكتابة والصور المثالية وهذا الاستعراض المستمر يخلق بيئة خصبة للحسد لأنّه يضع الأفراد تحت ضغط المقارنة الدائمة ويعزّز فكرة أن الآخرين يعيشون حياة أكثر جمالاً وكمالاً.

3. الحسد بوصفه أداة للضبط الاجتماعي.

بعض الأنثروبولوجيين يرون أنّ الحسد، تاريخياً، كان آلية لضبط التفاوت الاجتماعي داخل المجتمعات التقليدية فالمجتمع الذي يُدين التفاخر ويحتقر المستعلين على الناس إنما يستخدم "الخوف من الحسد" ليمنع الفرد من تجاوز حدود المقبول اجتماعياً.

ثالثاً: البعد الديني للحسد

1. الحسد في التراث الإسلامي.

قدّم الإسلام رؤية عميقة للحسد، فجعله من ثغور النفس الكبرى التي يجب حفظها وأشار القرآن الكريم إلى خطورته في قصة قابيل وهابيل، كما جعل "الحاسد إذا حسد" أحد الأصناف التي يُستعاذ منها ويبرز هنا التمييز بين الحسد (تمني زوال النعمة) وبين الغبطة (تمني مثل النعمة دون زوالها)، مما يجعل الحسد فعلاً أخلاقياً منحرفاً.

2. الحسد في الديانات الأخرى.

يتكرر التحذير من الحسد في المسيحية واليهودية والبوذية، حيث يُنظر إليه بوصفه انفعالاً مُفسداً للعلاقات، مدمّراً للنفس ومخرباً للسلام الداخلي وفي أغلب الفلسفات الروحية يعدّ الحسد دليل ضعف روحي وافتقار للسلام الداخلي.

3. الحسد كخلل في وعي الإنسان بالنعمة.

من الزاوية الدينية، الحسد ليس مجرد انفعال، بل خلل في رؤية الإنسان للرزق حيث يُنكر نسب النعمة إلى الله ويتعامل معها كما لو كانت ملكاً شخصياً يجب أن يُقارن بالآخرين ومن هنا يصبح الحسد نوعاً من الاعتراض الضمني على الحكمة الإلهية.

رابعاً: الحسد في الفكر الفلسفي والأدبي

1. في الفلسفة اليونانية.

رأى أرسطو أن الحسد انفعال يعتري الأشخاص الذين يعتقدون أنهم يستحقون أكثر مما لديهم وأنه ينشأ من مقارنة الذات بآخرين يُنظر إليهم باعتبارهم متشابهين أما أفلاطون فقد اعتبر الحسد ضعفاً روحياً سببه اضطراب النفس ورغبتها في الامتلاك.

2. في الأدب العالمي.

تُجسّد الأعمال الأدبية الكبرى الحسد بوصفه قوة مدمّرة: عند شكسبير يظهر في “عطيل” و”الملك لير”، وفي الأدب الروسي لدى دوستويفسكي على شكل صراع داخلي ينتهي غالباً بالتحطيم الذاتي ويظهر في الروايات العربية الحديثة بوصفه انفعالاً يعكس التشوه الاجتماعي.

خامساً: الآثار السلوكية للحسد

1. على الفرد يؤدي الحسد الى انخفاض احترام الذات واضطرابات القلق والاكتئاب وفقدان القدرة على تطوير الذات وتشوه العلاقات وإضعاف الثقة بالآخرين.

2. على المجتمع يؤدي الحسد إنتاج ثقافة الخوف من النجاح وتعطيل العمل الجماعي داخل مؤسسات الدولة والقطاع الخاص وانتشار الخطابات السلبية والتنمر الإلكتروني وانكماش المبادرات الاجتماعية بسبب الخوف من "عيون الناس".

سادساً: ميكانيزمات العلاج والوقاية

1. على المستوى النفسي

تعزيز الثقة بالذات وإعادة تشكيل صورة الذات بعيداً عن المقارنات وتدريب النفس على الامتنان وتقدير ما هو متاح وممارسة التأمل وتمارين ضبط الانفعال.

2. على المستوى الاجتماعي بناء ثقافة وتشجع الإنجاز لا المقارنة والحد من مظاهر الاستعراض الاجتماعي وتعليم الأطفال مهارات الوعي بالذات وتقدير الفروق الفردية.

3. على المستوى الديني والأخلاقي واستحضار مفهوم الرزق والقدر والإكثار من الدعاء بأن يبارك الله للناس فيما أعطاهم والتحول من الحسد إلى الغبطة ومن المقارنة إلى العمل.

ختاما فان الحسد ليس مجرد شعور عابر ولا ظاهرة أخلاقية بحتة، بل هو انفعال معقّد يبدأ في النفس ويتضخم في المجتمع ويُعاد تفسيره ضمن دين وثقافة وحضارة ومع أنّ الحسد قديم قدم الإنسان، فإنه اليوم أكثر حضوراً بسبب ثقافة المقارنة التي تفرضها الحياة الحديثة. وما لم تبنَ لدى الفرد القدرة على إدراك قيمته الذاتية بعيداً عن أعين الآخرين، سيبقى الحسد عاملاً معطلاً للتنمية الشخصية والمجتمعية وإنّ فهم الحسد لا يهدف إلى إدانته فقط بل إلى تحرير الإنسان من دائرة الانفعال السلبي، وتحويله إلى دافع للعمل، والنمو والرقي.

***

د. رافد حميد فرج القاضي

في المثقف اليوم