قضايا
ابتهال عبد الوهاب: ندبه الوعي ومحنة العقول التي أفاقت
من يتذوق طعم الوعي ولو قطرة، ينزع من جنة السذاجة نزعا، ويلقى في براري الحقيقة وحيدا، كأنما انتزع عن نفسه القديمة كما تنتزع القشرة اليابسة عن شجرة خرجت لتوها من شتائها الطويل. فليس الوعي نعمة خالصة كما يظن الغافلون، بل هو حد قاطع، وسيف لا يعود إلى غمده بعد أن يلامس الهواء.
من يتذوق الوعي حقا، لا يعود كما كان؛ فهناك تجارب لا تضيف إلى الروح، بل تعيد صياغتها من جذورها، كأنما تبدل عيناه بأخريين تريان ما لم ير، وتسقطان عنه نعمة العمى التي عاش بها مطمئنا دون أن يدري.
إن لحظة الوعي ليست إشراقا، بل شرخ في السقف الذي ظل يحميه طيلة حياته؛ شرخ تتسرب منه الحقيقة أولا كنقطة ضوء، ثم كفيض جارف يغرق كل يقين سابق.
فالذي رأى الحقيقة عارية، بلا مساحيق اعتقاد ولا ثياب أسطورة، لا يهنأ بعد ذلك بنوم في حضن الوهم، ولا يستدفئ بغطاء أمنيات الخلاص. لقد انكسرت المرآة التي كان يتجمل فيها، وظهر له وجه العالم كما هو: صلابة بلا رحمة، وجمال بلا قصد، وفوضى لا تطيق التأويل. ومن عرف هذا الوجه، لا يعود قادرا على الاحتماء بالطقوس أو المواعظ أو بقايا الحكايات الموروثة؛ فقد سقطت عنه القدرة على التصديق الطفولي، وانفتح فيه جرح المعرفة، ذلك الجرح الذي لا يلتئم.
يعرف الواعي أن الحقيقة ليست نورا دائما، بل احيانا تكون لمعان خاطف يكشف ما لا نحب أن نراه: هشاشتنا، عرينا، وحدتنا الكونية، وانعدام أي مركز مطمئن يمكن أن نلوذ به. الحقيقة لا تأتي لتطمئن، بل لتوقظ؛ واليقظة ليست سكينة بل ارتجافة روح أدركت أنها معلقة في فضاء لا وعد فيه، ولا يد خفية تنقذها.
وهنا يتجلى العذاب الأعظم: أن يرى الإنسان الواعي كل شيء بوضوح قاتل، ثم ينتظر منه أن يبتسم، وأن يتظاهر بأنه لا يزال يصدق ما لم يعد قادرا على الإيمان به.
إن المعرفة جرح نبيل، لكنها جرح مفتوح، يذكرك كل يوم بأنك لم تعد قادرا على الاحتماء بظل صنعته لنفسك.
إن العذاب الأعظم ليس في أن تحرم من الخرافة، بل في أنك لم تعد قادرا على الرضا بالقليل الذي يرضى به الآخرون. العذاب في أنك صرت ترى ما وراء الكلمات، وما بين السطور، وما خلف جدران الطقوس. العذاب في أن العالم صار شفافا أكثر مما ينبغي، وأنك أصبحت قارئا مجبرا لكتاب الوجود، ولو كنت تتمنى لو أنك عدت أميا، لا تفهم من هذا الكتاب شيئا.
ومع ذلك، فإن هذا الجرح نفسه هو ما يجعل الإنسان حرا؛ فالحرية ليست في أن تملك الإجابات، بل في أن تمتلك شجاعة مواجهة الأسئلة. الوعي لا يمنح السلام، بل يمنح القدرة على الوقوف بلا سند، والقدرة على احتمال الحقيقة ولو كانت جارحة، والقدرة على تحمل النور ولو كان حارقا.
وما الحقيقة إن لم تكن صدمة تسقط عنك آخر قميص من أوهامك؟
إن الواعي لا يستطيع أبدا أن يتجاهل أو ينسى وعيه، هو وحده الذي يمشي في الطريق الذي لا يجرؤ عليه أحد: طريق الأسئلة التي لا تنتهي، واليقظات المؤلمة، والوضوح الذي يضيء مثل البرق، لكنه يترك في القلب ندبة لا تزول.
وهكذا يواصل الواعي سيره، لا متكئا على أسطورة، ولا مطمئنا إلى وعد، بل على بصيرة تشبه الجرح: تفتح الطريق وتفتح الألم.
هو الإنسان الذي بدأ رحلته الحقيقية:
رحلة بلا دليل، بلا أسطورة، بلا وعود،
لكنها الرحلة الوحيدة التي تستحق أن تعاش.
***
ابتهال عبد الوهاب






