قضايا

زهير الخويلدي: الشعوب الحرة هي التي تصنع تاريخها بإرادتها، مقاربة حضارية

"الحرية الحقيقية للشعوب لا تتحقق إلا بالسيادة الكاملة على أرضها وثرواتها".. د. حسن حنفي

مقدمة: تُعتبر العبارة «الشعوب الحرة هي التي تصنع تاريخها بإرادتها، أما الشعوب التابعة فتسير في الفلك المسطور» من أكثر العبارات كثافةً في الفكر التحرري العربي المعاصر. ترددت هذه الفكرة تقريباً بنفس الصيغة عند مالك بن نبي، طيب تيزيني، حسن حنفي، عبد الله العروي، محمد عابد الجابري، هشام جعيّط، وفي الخطاب السياسي من النضال الوطني إلى الثورة الثقافية.  لكنها ليست مجرد شعار. إنها موقف فلسفي-تاريخي عميق يضع الإرادة الجماعية في قلب فهم التاريخ، ويرفض كل من الحتمية المادية الصلبة والقدرية الاستشراقية التي ترى العرب والمسلمين «شعوباً بلا تاريخ» (هيجل). لماذا تظل الشعوب التابعة تسير في الفلك المسطور؟ وماهي الشروط التي ينبغي أن تتوفر لكي تتحرر؟

تهدف هذه الدراسة إلى تفكيك هذه القولة واختبار صلاحيتها عبر ثلاثة محاور رئيسية:

المفهوم الفلسفي للإرادة الجماعية وعلاقتها بصناعة التاريخ.

النماذج التاريخية: الشعوب التي صنعت تاريخها والشعوب التي وجدت نفسها في «الفلك المسطور».

التحديات المعاصرة والشروط العملية لتحوّل شعب تابع إلى شعب صانع لتاريخه.

الإرادة الجماعية بين الفلسفة والتاريخ

هيغل و«روح الشعب»:

التاريخ عنده ليس صدفة، بل تحقّق للروح العالمية عبر شعوب بعينها في لحظات محددة. الشعوب التي لا تملك «وعياً حرّاً» تبقى خارج التاريخ أو تُستَخدم كأداة ثم تُرمى (آسيا، إفريقيا في قراءته).

ماركس و«القابلية للثورة»:

يرفض الحتمية المطلقة ويقول إن «الناس هم الذين يصنعون تاريخهم، ولكنهم لا يصنعونه كما يشاؤون». الشروط الموضوعية ضرورية، لكن الوعي والتنظيم هما اللذان يحوّلان الشعب من موضوع للتاريخ إلى فاعل.

مالك بن نبي و«مشكلة الحضارة»:

الشعوب ما بعد-المُوحدية فقدت «القابلية للحضارة» لأنها فقدت الإرادة الجماعية والروح الخلاّقة، فأصبحت «قابلة للاستعمار». الحل ليس في الثروة ولا السلاح، بل في «إعادة بناء الإنسان».

حسن حنفي : من التراث الى الثورة

حرية الشعوب عند حسن حنفي تترابط مع حرية الفكر والتعبير والسيادة، ويُعرّف الحرية بأنها القدرة على اتخاذ القرار دون ضغط خارجي. يؤكد حنفي على أهمية تحرير الفكر من التراث المتجسد كقيد، وإعادة قراءته بطرق جديدة تركز على الإنسان وقضاياه المعاصرة، بينما يرى أن الشعوب المحتلة تمارس حقها في المقاومة كشكل من أشكال الحرية من الاحتلال الخارجي.

عبد الله العروي و«الأيديولوجيا والتاريخ»:

الشعوب التابعة تعيش في «التاريخ المسطور» لأنها تتبنى أيديولوجيا الغالب (الليبرالية، القومية، السلفية) بدل أن تخلق أيديولوجيتها الخاصة. التحرر يبدأ بـ«الوعي التاريخي» الذي يجعل الشعب يرى نفسه فاعلاً لا مفعولاً به.

الجابري و«نقد العقل العربي»:

العقل العربي ظلّ أسير «البيان» و«الغنوصية» ولم ينتج «العقل البرهاني» القادر على صناعة التاريخ بالمعنى الحديث. الثورة العربية المأمولة تحتاج إلى «قطيعة معرفية» تجعل الشعب يملك أدواته الفكرية.

نماذج تاريخية مقارنة

شعوب صنعت تاريخها بإرادتها

اليونان في القرن الخامس ق.م: من طاليس إلى ارسطو ، ثم الديمقراطية الأثينية.

الثورة الفرنسية 1789: شعب قرر قطعاً أن يضع حداً للملكية المطلقة ويكتب دستوره بنفسه.

الثورة البلشفية 1917: رغم كل الشروط الموضوعية، لولا إرادة الحزب البلشفي والجماهير لما قامت.

فيتنام 1945-1975: شعب صغير هزم أكبر قوتين استعماريتين بإرادة لا تُصدَّق (هوشي منه: «لا شيء أغلى من الاستقلال والحرية»).

شعوب وجدت نفسها في الفلك المسطور

الأندلس بعد سقوط غرناطة 1492: تحولت من مركز حضاري إلى أقلية مضطهدة.

الهند قبل غاندي: كانت «جوهرة التاج» البريطاني، شعباً بلا إرادة سياسية حتى جاءت حركة اللاعنف.

معظم الدول العربية بعد الاستقلال الشكلي: استقلت شكلياً لكنها بقيت في فلك النظام العالمي (التبعية الاقتصادية، الاستبداد الداخلي، التحالفات الإقليمية المفروضة).

الشروط العملية للتحول من التبعية إلى صناعة التاريخ

لا يكفي أن نردد الشعار. التحول يتطلب شروطاً موضوعية وذاتية:

الوعي التاريخي (العروي): أن يعرف الشعب مكانه في التاريخ العالمي ويرفض أن يكون مجرد «مفعول به».

بناء الذاتية الجماعية (مالك بن نبي): إعادة تربية الإنسان، إحياء الروح الخلاّقة، مقاومة «القابلية للاستعمار» الداخلية.

القطيعة المعرفية والسياسية (الجابري،): رفض استيراد النماذج الجاهزة، خلق نموذج تنموي وسياسي خاص.

تنظيم الإرادة الجماعية: لا إرادة بدون مؤسسات (أحزاب، نقابات، جمعيات، إعلام حر).

الوحدة الوطنية فوق الاصطفافات الفرعية: التجربة السياسية أثبتت أن الخلاف السياسي المشروع يجب ألا يتحول إلى حرب أهلية.

الاستقلال الاقتصادي الحقيقي: لا إرادة سياسية دون سيادة غذائية وطاقية وتكنولوجية (تجربة الصين، كوريا الجنوبية، ماليزيا).

خاتمة

" الحرية الفكرية بأنها حرية الإنتاج الفلسفي المبدع، وكل إنتاج ثقافي وأدبي وفني، وجمالي وغيره، بعيدا عن الإكراهات المتحدرة من الأطر السياسية"

د طيب تيزيني

تبدو العبارة عن الحرية الارادية صحيحة فلسفياً وتاريخياً، لكنها ليست قدراً محتوماً. لا توجد شعوب «حرة بالفطرة» ولا شعوب «تابعة بالجينات». كل شعب يصبح ما يختار أن يكون في لحظة معينة.

لم تكن بعض الدول أكثر ثراءً ولا أكثر تعليماً من غيرها، لكنها كانت تملك في تلك اللحظة إرادة جماعية أقوى، ووعياً أعمق بإمكانية كسر «الفلك المسطور». كما قال فيكتور هوغو: «لا شيء أقوى من فكرة حان أوانها». وفي كلمات مالك بن نبي الأخيرة تقريباً: «الحضارة لا تُعطى، تُؤخذ». بهذا المعنى الشعوب الحرة ليست تلك التي لا تواجه قوى أكبر منها، بل تلك التي تقرر – رغم كل شيء – أن تكون صاحبة القرار في مصيرها. وما دمنا نملك الإرادة، فالتاريخ لم يُكتب بعد. فكيف تنتقل الشعوب العربية من السير في الفلك المسطور الى كتابة تاريخها بإرادتها؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

في المثقف اليوم