قضايا

علي الخطيب: حين يفكر القلب.. رؤية فلسفية شخصية في يوم التسامح العالمي

المقدمة: في عالمٍ ترتفع فيه الأصوات أكثر مما تُسمع القلوب، يصبح الحديث عن التسامح ليس مجرد فضيلةٍ أخلاقية، بل فعلَ تحرّرٍ من ضجيجٍ يُهدّد إنسانيتنا. ولذلك، حين يحتفل العالم في السادس عشر من نوفمبر من كل عام بـ"اليوم العالمي للتسامح"، لا أراه يومًا يُذكّرنا بالآخرين  فحسب، بل هو أيضًا مرآة تُعيدنا إلى أنفسنا، لنراجع ما تراكم في أعماقنا من أحكامٍ وغضبٍ وصمتٍ مؤلم.

وبوصفي باحثًا في الفلسفة، لا أستطيع أن أمرّ على هذا اليوم مرورًا عابرًا، لأنني أؤمن أن التساؤل هو جوهر الفهم. فكلما جاء هذا اليوم، يتردّد في ذهني سؤال لا يفارقني: هل نحتاج فعلًا إلى يومٍ واحدٍ لنغفر فيه؟ وهل يُعقل أن نؤجّل الصفح إلى موعدٍ محدّد، ثم نعود إلى قسوتنا في اليوم التالي كما لو أن الغفران طقسٌ سنويٌّ لا روح له؟

ومن هنا، أرى أن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير؛ فاليوم العالمي للتسامح لا يُطلب فيه منّا أن نغفر فحسب، بل أن نتذكّر. وأن نتذكّر أن التسامح ليس لحظة انفعالٍ عاطفيٍّ مؤقتة، بل وعيٌ مستمرٌّ يعيد تعريف إنسانيتنا في زمنٍ أصبحت فيه المشاعر تُوزن بالمصلحة، والعلاقات تُقاس بما نكسبه لا بما نفهمه.

وإنه، في نظري، ليس يومًا نمارس فيه الغفران، بل يومًا نمارس فيه إعادة اكتشاف أنفسنا.

وهو يومٌ يجعلنا نتوقف وسط الزحام، لا لنسأل مَن أخطأ في حقّنا، بل كم مرة أخطأنا نحن حين نسينا أن نغفر.

- حين يعلّمنا الواقع معنى الفلسفة:

كثيرًا ما كنت أظن أن الفلسفة تسكن بين دفّتي الكتب وحدها، حتى أدركت مع الوقت أنها تتنفس في تفاصيل الحياة اليومية. ففي كل مرة غادرت فيها مكانًا أحببته بسبب كلمةٍ قاسية، وفي كل مرة كبر في داخلي خلاف صغير حتى تحوّل إلى جدارٍ بيني وبين من أُحب، كنت أتعلم درسًا جديدًا لا تمنحه القاعات ولا المحاضرات. ولقد فهمت أن الفلسفة لا تُمارس في النصوص، بل في تلك اللحظة التي نختار فيها الهدوء بدل الانفعال، والفهم بدل الرد، والرحمة بدل القسوة.

وحين أهدأ بعد غضبٍ كان يوشك أن يشتعل، أكتشف أنني أفكر أكثر مما كنت أرغب أن أنتقم، فأشعر بأنني أمارس الفلسفة دون أن أقصد. فالتسامح في جوهره ليس مجرد تصرف أخلاقي، بل هو أعمق أشكال التفكير، لأنه يجعلنا نرى الإنسان قبل الموقف، والنية قبل الخطأ، والظروف قبل الإدانة.

وقد تعلّمت من تأملات سبينوزا أن الحرية الحقيقية لا تتحقق بالرد أو المقاومة، بل بالفهم. وبالمعنى نفسه، وأدركت أن التسامح ليس ضعفًا كما يظن البعض، بل هو فهمٌ عميق لدوافع الآخر بدل أن نحاكمه. فالبشر لا يولدون قساة، وإنما تصقلهم التجارب وتربّيهم الجراح وسوء الفهم، وكلما ازداد فهمنا لذلك، اقتربنا خطوة من المعنى الإنساني الذي تتحدث عنه الفلسفة منذ نشأتها.

- بين الفلسفة والحياة اليومية:

في حياتنا اليومية لا يأتي اختبار التسامح على هيئة مواقفٍ كبرى أو قراراتٍ مصيرية، بل يتخفّى داخل التفاصيل البسيطة التي نمر بها كل يوم. ويحدث حين يتأخر أحدهم عن موعدٍ ننتظره، أو ينسى وعدًا ظننّاه مهمًا، أو يقول كلمةً غير مقصودةٍ تترك فينا أثرًا عميقًا. هناك، بين الفعل وردّ الفعل، يبدأ الامتحان الحقيقي: هل نغضب ونتسرّع في الحكم، أم نتأنّى ونفكر؟

كم من خلافٍ صغيرٍ اشتعل لأن أحد الأطراف اختار الغضب بدل الفهم، وكم من علاقةٍ انكسرت لأننا لم نمنح الآخر فرصة للتبرير. وهنا تكمن الفلسفة في أبسط صورها؛ إذ تدعونا إلى أن نفكر قبل أن نحاكم، وأن نفهم قبل أن نحكم. فالتسامح ليس في جوهره غفرانًا آليًا، بل عملية وعيٍ عميقةٍ تُعيد ترتيب علاقتنا بالإنسان وبأنفسنا.

ومن هذا المنظور يمكن أن نفهم ما أشار إليه سقراط حين رأى أن الإنسان لا يفعل الشر عن قصد، وأن وراء كل سلوكٍ قاسٍ دافعًا خفيًا أو جرحًا غير مرئي. وكذلك فأن الغضب لا يمنحنا قوة، بل يسلبنا حريتنا من الداخل، بينما التسامح لا يبرّئ الآخر دائمًا، لكنه يحرّرنا نحن من أسرِ الخيبة المتكرّرة، ويمنحنا قدرةً أرحب على الفهم والتوازن والسلام.

- التسامح كتحرر داخلي:

من خلال تأملاتي في الحياة، أدركت أن التسامح ليس ضعفًا ولا تنازلًا عن الكرامة، بل هو في جوهره إعادة تعريفٍ للقوة. فالقوة الحقيقية لا تكمن في سرعة الرد، بل في عمق الفهم، ولا في أن تنتصر على غيرك، بل في أن تنتصر على نفسك. وفي كل مرة يتملكني الغضب من موقفٍ أو كلمةٍ قاسية، أكتشف أن أكبر معركةٍ أخوضها ليست مع الآخر، بل مع ذاتي. فالغضب، في حقيقته، نارٌ داخلية تأكل صاحبها قبل أن تمسّ غيره، والتسامح هو الماء الذي يطفئها برفقٍ ووعي.

كثيرون يظنون أن التسامح يُغيّر الآخرين، بينما هو في الواقع يغيّرنا نحن أولًا. إنه لا يُصلح الماضي الذي حدث، لكنه ينقذ الحاضر من التآكل، ويفتح بابًا للمستقبل كي يُكتب من جديد. وكل مرة أختار فيها الفهم بدل الحكم، أو الصمت بدل الجدال، أشعر بخفةٍ غريبة، كأن عبئًا من الغبار انزاح عن صدري. عندها أُدرك أن التسامح لا يُنسينا الألم، بل يُعلّمنا كيف نحمله دون أن يثقلنا، وكيف نحيا بسلامٍ أكبر مع أنفسنا ومع العالم.

- الفلسفة كمدرسة للتسامح:

لقد تعلّمت من الفلسفة أن الحقيقة ليست ثابتة كما نظن، بل إنها تتعدد وجوهها بتعدد الزوايا التي نراها منها، ولذلك فإنّ النظر إلى الحق من زاويةٍ واحدة قد يحجب عنّا أعمق معانيه. ومن هذا المنطلق، فإن الفلسفة الحقيقية لا تطلب منك أن تتنازل عن حقك، بل تدعوك إلى أن تراه من منظورٍ أوسع وأكثر إنصافًا.

وعلى هذا الأساس، يصبح التسامح في جوهره ليس نقيض الغضب، بل تهذيبه، لأن الغضب في حد ذاته طاقة إنسانية يمكن أن تدمّر أو تُنقذ، بينما تمنحنا الفلسفة البصيرة الكافية لاستخدام هذه الطاقة في الاتجاه الصحيح.

ومن ناحية أخرى، نمارس الفلسفة في حياتنا الواقعية أكثر مما نظن؛ إذ إننا نفعل ذلك كلما اخترنا الهدوء بدل الانفعال، أو قلنا في لحظة ضيق "ربما لم يقصد" بدل أن نرد بحدّة، أو أكملنا حديثنا بابتسامةٍ رغم الألم. وهكذا، تُصبح تلك اللحظات الصغيرة من الوعي أعمق الدروس الفلسفية، لأنها تذكّرنا بأنّ الحكمة لا تُقاس بما نحفظه من النظريات، بل بما نمارسه من اتزانٍ في لحظات الغضب. فالتسامح، في نهاية المطاف، هو الفلسفة التي تتحرك في الحياة لا تلك التي تُكتب في الكتب، لأنه يجعل الفكر سلوكًا، ويحوّل المعرفة إلى فعلٍ إنسانيٍّ حيّ.

- ولماذا نحتاج يومًا للتسامح؟:

قد يرى البعض أن التسامح قيمة نحتاجها كل يوم، وأن تخصيص يومٍ واحدٍ له أمر لا مبرر له، غير أنني أرى أن الأيام العالمية ليست احتفالًا بقدر ما هي تذكيرٌ بما نكاد ننساه وسط انشغالنا بالحياة. فكما نحتفل بيوم الأم كي لا نغفل عن فضلها في زحام الأيام، نحتفل بيوم التسامح كي لا نغفل عن إنسانيتنا التي تتآكل بصمت بين الغضب والعجلة واللامبالاة.

وفي خضم هذا الزحام، نحن بحاجة إلى إشارات توقظ القلب من غفوته وتدعوه إلى أن يتوقف قليلًا، ليفكر في من قسونا عليه دون قصد، أو في من ينتظر منا كلمة تداوي ما انكسر. ومن هنا، فإن اليوم العالمي للتسامح لا يدعونا إلى النسيان، بل إلى التذكّر الواعي؛ تذكّر أن في داخل كل إنسانٍ ظلًا وخطأً وجانبًا مظلمًا يحتاج إلى الرحمة أكثر مما يحتاج إلى الإدانة. إنه يومٌ يضعنا وجهًا لوجه أمام أنفسنا، يومٌ يحثنا على أن نعيد التفكير، لا في الآخرين فقط، بل في ذواتنا وفي العالم الذي نصنعه بتصرفاتنا الصغيرة كل يوم

- توصياتي كباحث في الفلسفة:

انطلاقًا من تجربتي كباحث في الفلسفة، أرى أن التسامح ليس موقفًا يُمارس لحظة الغضب، بل طريقة في العيش تحتاج إلى تدريبٍ طويلٍ على الفهم والصبر وضبط النفس. ولذلك، أوجه حديثي أولًا إلى من أثقلته الذكريات، وأقول له: لا تنتظر اعتذارًا لتغفر، فالتسامح لا يبدأ من الآخرين، بل منك أنت. وأتوجه ثانيًا إلى من يرى التسامح ضعفًا، مذكّرًا بأن القوة الحقيقية ليست في الرد، بل في القدرة على كبح الرد، وأن أعظم الانتصارات أحيانًا هي أن تختار الصمت وأنت قادر على الصراخ. أما من يسعى إلى الحكمة، فعليه أن يتعلم أن يفكر مرتين قبل أن يحكم، وأن يرى الإنسان لا الموقف، وأن يتذكر أنه هو أيضًا أخطأ يومًا ما. وللمربين والمعلمين، أقول إن عليهم أن يغرسوا في نفوس أبنائهم أن التسامح ليس ضعفًا، بل وعي، وأن قول كلمة "أنا آسف" شجاعة، وأن قبول الاعتذار قوة، وأن الجدال لا يربح شيئًا إن خسر الاحترام. وأخيرًا، أوجّه حديثي إلى الإنسان في عصر الشاشات الرقمية، ذاك الذي يكتب كلماته بسرعةٍ قد تجرح أكثر مما يتخيل، وأدعوه أن يتذكر أن وراء الشاشة الرقمية إنسانًا له قلب وعائلة وليلٌ طويل، فربما يكون التسامح في زمن الإنترنت أصعب وأعمق أشكال الفلسفة التي نحتاج أن نتعلمها اليوم.

- الخاتمة:

إن يوم التسامح العالمي ليس دعوة إلى النسيان، بل دعوة إلى وعيٍ ناضج بالذاكرة، لأننا حين نتذكر بصدق لا نُعيد الألم، بل نُعيد ترتيب قلوبنا. فالتسامح لا يعني أن نمحو ما جرى، بل أن نتعلم كيف نحمله دون أن يثقلنا. ومن هنا نفهم أن الإنسان لا يكتمل إلا حين يتسع للآخر، وأن الفلسفة ليست في الجدل حول الحقيقة بقدر ما هي في القدرة على العيش بسلامٍ مع ما لا نفهمه بعد.

لقد علّمتني الفلسفة أن التسامح لا يغيّر من أخطأ، لكنه يغيّرنا نحن أولًا، إذ يجعلنا أهدأ، أنقى، وأكثر إنسانية. وكلما غفرت، شعرت أنني أقترب خطوةً من فهم العالم، لأن الغفران لا يحتاج إلى عقلٍ كبير فحسب، بل إلى قلبٍ شجاع يتّسع لما هو أبعد من الألم.

وفي النهاية، أقول إننا لا نحتاج إلى عمرٍ طويلٍ لنفهم الحياة، بل إلى لحظة صفاءٍ واحدة نغفر فيها بصدق، لأن من يغفر يفكر كما يفكر الفلاسفة، ويعيش كما يحلم الحكماء. فربما تكون أرقى درجات الفلسفة هي أن نحب رغم الخذلان، وأن نسامح رغم القدرة على الإدانة.

***

أ.د/ علي محمد عليان  عبد الرازق الخطيب

أستاذ ورئيس مجلس قسم الفلسفة – كلية الآداب- جامعة المنيا- جمهورية مصر العربية

في المثقف اليوم