قضايا
خليل إبراهيم الحمداني: اغتيال العقد الاجتماعي
الزبائنية كآلية هيكلية لتدمير ثقافة القبول وحقوق الإنسان الشاملة
مقدمة: المواطنة في عين العاصفة، أو الوهم الكبير
صوت يرتفع ضدّ الأوهام
في عالمنا العربي - وغير العربي -، كثيراً ما نتحدّث عن "الاختلاف والتنوع" وكأنها ميداليات فخرية نعلّقها على صدورنا. ونُطلق الشعارات الرنانة حول "قبول الآخر"، ونتغنى بقدسية "حقوق الإنسان" كأنها منجزات راسخة لا يمسّها سوء. ونُقيم المؤتمرات عن "المواطنة" ونكتب عنها أضخم المجلدات.
ولكن، مهلاً! دعونا نتوقف عن هذا الهذيان المريح.
إن هذه المفاهيم النبيلة – التنوع، الحقوق، المواطنة – ليست سوى أكاذيب مزخرفة إذا ظلت حبراً على ورق، أو مجرد ترف فكري يمارسه النخبة في أروقة مغلقة. هذه المفاهيم تعيش اليوم حالة اغتيال صامت، لا بسلاح الديكتاتورية المباشر كما قد نتخيل، بل بـ "فيروس الزبائنية" الخبيث الذي تسلّل إلى أعمق شرايين المجتمع والدولة، ليحوّل العقد الاجتماعي كله إلى سوقٍ مظلم للمنافع والولاءات.
إن هذه الدراسة ليست عن كيفية تحقيق التنوع المثالي، فهذا قد كُتب عنه ما يكفي. بل هي إعلان حرب فكرية على الآلية الهيكلية الأكثر فتكاً التي تمنع التنوع الحقيقي من الازدهار، والتي تحوّل المواطن صاحب الحق إلى مجرد "عميل" أو "زبون" ينتظر الإحسان والمنّة: إنها الزبائنية (Clientelism).
الزبائنية: السرطان الذي يأكل المواطنة من الداخل
فلنسمي الأشياء بأسمائها: الزبائنية ليست مجرد فساد عابر أو محسوبية هنا وهناك. إنها نظام حكم موازٍ، وهيكل اجتماعي بديل يستبدل سلطة القانون بسلطة العلاقات، ويستبدل مبدأ الكفاءة بمبدأ الولاء والانتماء.
في ظل المواطنة الحقيقية، أنت تمتلك حقك في التوظيف، في العلاج، في العدالة، لأنك إنسان و مواطن، وهذا استحقاق عالمي وغير قابل للتجزئة (Universal Entitlement).
لكن الزبائنية تأتي وتصفع هذا المفهوم ببرود قاتل. تقول لك الزبائنية: "حقك غير موجود، لكن خدمتك موجودة... إذا عرفت كيف تصل إلى 'الراعي' أو 'الشفيع' المناسب، وإذا أثبتّ له ولائك القبلي أو الطائفي أو الحزبي."
هذا هو الجوهر المشاكس لأطروحتنا: الزبائنية لا تُبقي على مفهوم حقوق الإنسان إلا كـ صدقة تُمنح وكأنها امتياز، وتُفرّغ المواطنة من محتواها الأخلاقي والسياسي لتصبح مجرد هوية إجرائية بلا قيمة فعلية، حيث لا يوجد تكافؤ أمام القانون ولا تكافؤ في الفرص، بل مجرد تنافس محموم على كسرة خبز تُرمى من مائدة الزبائنية.
خيانة التنوع وقبول الآخر
والسؤال الفج الذي يطرح نفسه هنا: كيف يمكن لمجتمع أن يدّعي قبول الآخر وهو في جوهره لا يقبل إلا من يدخل تحت مظلة شبكة النفوذ المهيمنة؟
التنوع الحقيقي يتطلب مؤسسات حيادية، تضمن تكافؤ الفرص بغض النظر عن الانتماء. لكن الزبائنية تحوّل التنوع إلى محاصصة سياسية، حيث تُقسم الكعكة الوطنية بين "شيوخ الزبائنية" بمختلف ألوانهم، ليقوم كل شيخ بتوزيع "حقوق" جماعته الخاصة، ويصبح من لا ينتمي إلى هذه الشبكات مواطناً من الدرجة الثانية، أو حتى مواطناً "غير مرئي" تماماً.
- عندما يُعيّن شخص بناءً على قرابته، هل هذا قبول للتنوع أم خنق للكفاءة؟
- عندما تُنجز معاملات فرد بناءً على وساطته الحزبية، هل هذه مواطنة أم رشوة مقنّعة؟
إن الزبائنية تصنع غرباء داخل الوطن، ليس بسبب اختلافاتهم الفكرية أو الدينية، بل لأنهم خارج دائرة الولاء المُنتفع. قبول الآخر في ظل الزبائنية هو مجرد هدنة تكتيكية تُفرض حتى يتمكن اللاعبون الكبار من إدارة حصصهم، وليس قناعةً بمساواة جوهرية.
المنهجية: تشريح العدو وإعادة بناء الوعد
إن هذه الدراسة تنطلق من مبدأ أننا يجب أن نُعيد الاعتبار إلى المفاهيم النبيلة عبر مواجهة خصمها الشرس.
نحن سنرفض اللغة الوردية والتحليلات السطحية. سنذهب إلى حيث يكمن الألم:
1. سنُفكك هيكل المواطنة الشاملة (الفصل الأول) لنُثبت مدى الجمال والنظام الذي كان من الممكن تحقيقه.
2. سنُشرّح آليات الزبائنية (الفصل الثاني) لِنُظهر كيف تعمل كـ "آلة تدمير" صامتة للعقد الاجتماعي.
3. سنربط هذا التدمير مباشرةً بـ تآكل ثقافة القبول والتنوع (الفصل الثالث)، مُبرهنين على أن الانحطاط الأخلاقي في التعامل مع الآخر ما هو إلا نتيجة حتمية للانحطاط المؤسسي.
وفي الختام، لن نكتفي بالتشخيص، بل سنُقدّم خارطة طريق للمواجهة (الفصل الرابع)؛ خارطة طريق لا تتحدث عن مجرد "مكافحة الفساد" الشكلي، بل عن تفكيك نظام الزبائنية نفسه واستبداله بـ مواطنة مؤسسية شفافة وغير قابلة للاختراق.
إنها دعوة إلى التمرد الفكري. لن ينجو التنوع ولا حقوق الإنسان ولا المواطنة من هذا المستنقع إلا إذا اعترفنا جميعاً بأن العدو ليس خارجنا، بل هو ذلك النظام الموازي الذي يبيع حقوقنا في الخفاء تحت غطاء "الخدمة" و"الشفاعة".
فلنبدأ هذا العمل الجراحي المؤلم..
الفصل الأول: الأساس النظري: وعد المواطنة الجامعة وحقوق الإنسان (الخيار الوحيد)
تمهيد: المأساة في أن نُبرّر وجودنا
لنتفق على أمرٍ جوهري قبل البدء: هذا الفصل ليس مجرد استعراض لطيف للمفاهيم المثالية، بل هو بيان دستوري وأخلاقي نُشهره في وجه الخراب القائم. إنه يمثل "المدينة الفاضلة" التي يجب أن نُقارع من أجلها، لنتمكن في الفصل القادم من كشف زيف "المدينة الزبائنية" التي نعيشها.
إن المأساة الكبرى في عالمنا اليوم ليست في غياب التنوع، فالخالق قد أبدعه فينا. المأساة تكمن في أننا ما زلنا نضطر إلى كتابة فصول كاملة للدفاع عن حق الإنسان في أن يكون مختلفاً، وعن واجب المؤسسات في أن تكون محايدة. هذه الحاجة المُلحّة في حد ذاتها دليل إدانة على أننا سقطنا في فخ الأنانية القبلية والزبائنية الهيكلية.
إننا هنا لنُعيد بناء الإطار النظري الذي يجب أن يكون هو الخيار الوحيد لأي مجتمع يدّعي التحضّر: إطار المواطنة الشاملة التي لا تعرف المساومة، والحقوق العالمية التي لا تقبل التجزئة. فإما أن نكون مواطنين بالكامل، أو أن نعود إلى كهوف الولاء الضيقة. لا يوجد حل وسط، ولا يمكن أن يكون هناك حياد تجاه حقوق الإنسان.
المبحث الأول: الاختلاف والتنوع: المورد الاستراتيجي لا العبء الإداري
لقد جرت العادة في كثير من بلداننا، للأسف، على النظر إلى التنوع (العرقي، الديني، الثقافي، الفكري) بوصفه قنبلة موقوتة يجب إدارتها بالتهدئة والاحتواء، أو كمشكلة مزمنة يُمكن "مكافحتها" بالتنميط القسري. يا له من إفلاس فكري وإداري! إن هذا المنظور السلبي هو أول خرق لوعد المواطنة الجامعة.
في المقابل، يجب أن نرفع التنوع إلى مصاف "المورد الاستراتيجي". فالتنوع يعني تعدد زوايا النظر، يعني حلولاً أكثر ابتكاراً للمشكلات المعقدة، ويعني ثراءً حضارياً يرفد الهوية الوطنية بدلاً من أن يهددها. إن المجتمع المتنوع الذي يحترم أطيافه هو المجتمع الأكثر قدرة على الصمود في وجه التحديات، لأنه يمتلك آليات تكيف أوسع وقاعدة عريضة من الخبرات المختلفة (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، الإعلان العالمي حول التنوع الثقافي، الوثيقة الرسمية، 2001، ص 1).
إن القبول بالتنوع ليس مجرد فضيلة أدبية؛ إنه ذكاء اجتماعي. إن المجتمع الذي يخشى تنوعه هو مجتمع خائف من ذاته، يحكم على نفسه بالعقم والجمود. وعندما تُسخّر المؤسسات قوتها لإخفاء هذا التنوع أو قمعه، فإنها لا تُحقق الاستقرار، بل تُشيّد جدراناً من الهشاشة الداخلية التي سرعان ما تنهار عند أول عاصفة.
المبحث الثاني: قبول الآخر: من منّة الشفقة إلى واجب المؤسسة
نتحدث كثيراً عن "قبول الآخر" وكأننا نتصدق عليه ببعض التعاطف. إن هذه اللغة في حد ذاتها مُهينة وتفترض العلاقة العمودية بين السيد والخاضع. قبول الآخر ليس عملاً خيرياً يُثاب عليه الفرد، بل هو واجب مؤسسي وشرط أساسي لشرعية الدولة الحديثة.
إذا أردنا أن نخرج من وهم "الشفقة الطائفية" وندخل في فضاء "المواطنة العادلة"، يجب أن نُقر بأن: قبول الآخر هو في جوهره الالتزام بحقه الكامل في أن يكون مساوياً لك تماماً أمام القانون، بغض النظر عن انتمائه.
يُشير المفكرون في الفلسفة السياسية إلى أن هذا القبول المؤسسي يرتكز على مبدأ "الاحترام العام" (Public Reas-n)، حيث لا يجوز للدولة أن تفضل منظومة قيمية معينة على حساب أخرى. هذا الاحترام يجب أن يكون إلزامياً وغير قابل للتفاوض، ويجب أن يترجم إلى آليات دستورية وإدارية تضمن:
1. الوصول المتساوي إلى الخدمة العامة: يجب أن تكون المؤسسة "عمياء" تجاه انتمائك، تخدمك لأنك مواطن (الجابري، محمد عابد، قضايا في الفكر المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2000، ص 59).
2. التمثيل العادل: حيث تُكفل المشاركة السياسية دون تهميش، ولكن ليس بناءً على نظام "المحاصصة الزبائنية" الذي يُكرّس التقسيمات، بل بناءً على الكفاءة والتنافس الشريف.
إن مجرد "التحمل السلبي" للآخر ليس قبولاً؛ إنه استسلام اضطراري. أما القبول الحقيقي فهو احتضان إيجابي للاختلاف كجزء أصيل من النسيج الوطني، وتجريم أي خطاب أو ممارسة تؤدي إلى الإقصاء.
المبحث الثالث: حقوق الإنسان: استحقاقات عالمية لا امتيازات ملوكية
هنا يجب أن نرفع صوتنا بحدة: حقوق الإنسان، كما نص عليها الإعلان العالمي (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الأمم المتحدة، 1948، المادة 1)، هي حقوق متأصلة في الطبيعة البشرية؛ تُمنح بمجرد الميلاد، ولا تُنزع إلا بانتهاك القانون. إنها ليست هبات من حاكم كريم، ولا مُنحاً تُصرف بمرسوم خاص.
إن اللعبة القذرة التي تُمارسها الأنظمة التي تتغذى على الزبائنية، هي محاولة تقزيم هذه الحقوق وتحويلها إلى "امتيازات" يتمتع بها المقرّبون، أو "خدمات" تُقدم للولاة، بينما يُجرد منها المُعارضون أو المُهمّشون. هذا هو التزييف الأخطر لوعد المواطنة.
علينا أن نؤكد بقوة على مبدأين جوهريين تُحاول الزبائنية قتلهما:
1. العالمية والشمولية (Universality): حقوق الإنسان لا تتغير بتغير الحدود أو الأنظمة السياسية، ولا يجوز للدولة أن تبتدع تعريفاً خاصاً للحقوق يتماشى مع مزاجها أو مصالحها. هي قائمة على فكرة أن كل إنسان هو غاية في حد ذاته (Kant، Immanuel، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة: حنّا مخول، دار التنوير، بيروت، 2004، ص 45).
2. الترابط وعدم التجزئة (Indivisibility): لا يمكن تجزئة الحقوق إلى "حقوق اقتصادية" يُسمح بها، و"حقوق سياسية" تُمنع. الحق في العمل مرتبط بالحق في التعبير، والكرامة الإنسانية لا تتجزأ. إن محاولة فصل هذه الحقوق عن بعضها البعض هي خطة منهجية لتركيع المواطن وجعله يعيش في حالة دائمة من التبعية المُذلة.
إن أي نظام يمارس الفصل بين الحقوق السياسية والاجتماعية، أو بين مواطن وآخر بناءً على انتمائه، هو نظام خارج عن منظومة حقوق الإنسان حتى لو ادّعى ذلك زوراً. فالحقوق ليست طعاماً شهياً يُقدم للبعض فقط؛ إنها الهواء الذي يتنفسه الجميع وإلا اختنق المجتمع كله.
المبحث الرابع: المواطنة الجامعة: العقد الاجتماعي غير القابل للفسخ
المواطنة الجامعة هي التتويج لكل ما سبق. إنها العقد الاجتماعي الوحيد المقبول في العصر الحديث. هي ليست مجرد جنسية أو وثيقة هوية، بل هي منظومة حقوق وواجبات متساوية، حيث الدولة هي "مؤسسة خدمة عامة" لجميع مواطنيها على قدم المساواة، والمواطن هو "صاحب سيادة" فيها.
إن المواطنة التي ندعو إليها هي مواطنة تُبنى على ركيزتين لا تنفصلان:
1. المساواة القانونية المطلقة: لا فرق بين غني وفقير، قوي وضعيف، الأغلبية والأقلية. فالقانون هو السقف الذي يحمي الجميع وهو السيف الذي يُطبق على الجميع بنفس الحدّة (الريس، محمد، الحقوق والواجبات في الإسلام، دار الشروق، القاهرة، 1995، ص 115).
2. المساواة في الفرص والإتاحة (Equity): يجب على الدولة أن تتدخل بشكل إيجابي لإزالة العوائق الهيكلية التي تمنع الفئات المُهمشة من الوصول إلى الخدمات والفرص، لضمان أن المساواة القانونية لا تبقى مجرد شعار أجوف.
إن المواطنة الجامعة ترفض بحدة أي شكل من أشكال "المواطنة الطبقية"، بما في ذلك ما يُسمى "المواطنة الزبائنية". فالمواطنة الزبائنية ليست مواطنة على الإطلاق؛ إنها نظام ولاء متبادل بين الراعي والزبون، يحوّل الحقوق إلى مُقايضات، ويُبقي المواطن رهينة لتبعية مُذلة.
عندما نُدافع عن هذا الإطار المثالي، فنحن لا نحلم بيوتوبيا مستحيلة، بل نُطالب بالحد الأدنى من الكرامة والعدالة التي نصت عليها دساتيرنا وأعرافنا الإنسانية.
هذا الفصل، إذاً، هو بمثابة بيان الاتهام الموجه ضد كل من يحاول إفساد هذا الوعد. لقد وضعنا المعايير؛ وفي الفصل القادم، سنرى كيف أن "الزبائنية" هي التحدي الأكبر الذي يضرب هذه المعايير في مقتل، مُحوّلاً التنوع إلى فتنة، وقبول الآخر إلى رياء، وحقوق الإنسان إلى سِلعة تُباع في سوق النخاسة السياسية.
الفصل الثاني: تشريح التهديد: آليات عمل "الزبائنية" (الإطار الموازي لإنتاج الفساد)
تمهيد: الوجه الآخر للسلطة
أهلاً بكم في المنطقة المُظلمة من البحث. لقد انتهينا من رسم صورة "الجنة المفقودة" للمواطنة، وحان الوقت لِنُشعل ضوءاً كاشفاً على "الجحيم الذي صنعناه بأيدينا".
هذا الفصل هو عملية جراحية بلا تخدير، لـ تشريح التهديد الأكبر الذي يواجه مجتمعاتنا: الزبائنية.
لا يمكننا مكافحة ما نرفض تسميته أو نفهم آلياته
.في الفصل الأول، أشرنا إلى أن حقوق الإنسان والمواطنة هي نظام عمودي مُنظَّم بالقانون، يضمن المساواة بين الجميع. لكننا هنا سندخل إلى النظام الموازي والأفقي والمُختبئ؛ النظام الذي لا يظهر في الدساتير، لكنه يحكم الواقع: إنه "نظام الزبائنية".
الزبائنية (Clientelism) ليست مجرد كلمة في قاموس الفساد، إنها اقتصاد سياسي كامل يرتكز على تدمير مفهوم "المواطن المستقل" واستبداله بـ "الزبون التابع". إنه ليس سوء إدارة، بل هو إدارة استراتيجية للتبعية.
إذا كانت المواطنة هي وعد بالحرية والاستحقاق، فإن الزبائنية هي وعد بالنجاة مقابل التنازل عن الكرامة والحرية. إنها نظام يعمل في وضح النهار معتمداً على تواطؤ الضحية، ونحن هنا لنفضح هذا التواطؤ.
المبحث الأول: تعريف وتفكيك "الزبائنية": نظام المقايضة القذرة
الزبائنية، في أبسط تعريف لها، هي تبادل خدمات وموارد مقابل دعم سياسي أو اجتماعي أو ولاء شخصي غير رسمي. إنها علاقة غير متكافئة بين "راعي" يمتلك الموارد والسلطة (الطرف الأقوى)، و "زبون/عميل" يفتقر إليها (الطرف الأضعف) [cite: سكوت، جيمس سي، الاقتصاد الأخلاقي للفلاح: الثورات والحرب الخفية للطبقات الدنيا، ترجمة: أسامة الغزالي حرب، دار العين، القاهرة، 2010، ص 41].
الجوهر المشاكس هنا هو أن الزبائنية تستهدف المؤسسات الديمقراطية وتفرغها من محتواها:
1. الولاء مقابل الخدمات: يشتري الراعي ولاء الزبون عبر تقديم خدمة أو مساعدة (وظيفة، ترخيص، تساهل قانوني). هذه الخدمة هي حق أصيل للمواطن، لكن الزبائنية تُحولها إلى "هبة شخصية".
2. المحاصصة والمحسوبية: تستبدل الكفاءة بالانتماء، حيث تُوزع المناصب والثروات على شبكات الولاء (العائلة، الطائفة، الحزب) كنوع من "أجرة الولاء"، وليس بناءً على الاستحقاق الوطني. إنها تقسيم للسلطة والثروة لا لخدمة الدولة، بل لـ "رضاء المُنتمين" [cite: الحنفي، حسن، اليمين واليسار في الفكر الديني، دار التنوير، بيروت، 1989، ص 175].
3. تبادل المنفعة غير المتكافئ: العلاقة ليست تبادلاً نزيهاً، بل هي إدامة للتبعية. الزبون يحصل على منفعة عاجلة، لكنه يدفع ثمناً باهظاً على المدى الطويل: صوته، استقلاليته، وحقه في الاعتراض.
إننا لا نتحدث عن رشوة فردية؛ نحن نتحدث عن منظومة ثقافية تُعلّم الأجيال أن القانون لا يحميهم، بل الواسطة والشفيع. الزبائنية هي التي تقول للمواطن بصوت خافت: "لا تضيع وقتك في الإجراءات الرسمية النظيفة، اذهب مباشرة إلى الرجل الذي بيده مفتاح الخزنة".
المبحث الثاني: الزبائنية ضد المواطنة: اغتيال الاستحقاق
هنا يكمن التدمير الأكثر إيلاماً. المواطنة، كما أسلفنا، هي وضع قانوني يضمن ويعطي الحقوق بمجرد الانتساب إلى الوطن. أما الزبائنية، فتجعل الحقوق مرهونة بـ "الانتساب إلى الشبكة".
1. تحويل الحق إلى منّة وامتياز: الهدف الاستراتيجي للزبائنية هو تفريغ القانون من قدسيته. عندما يضطر المواطن للذهاب إلى "النائب" أو "الشيخ" ليحصل على تصريح بناء أو ليُعالج ابنه في مستشفى عام (وهو حق من حقوقه)، فإن "الراعي" السياسي يُظهر نفسه كـ "مُحسِن" وليس كـ "موظف عام" يقوم بواجبه. هذا الفعل ينسف كل مفهوم للمساءلة والمسؤولية [cite: الشرايبي، عبد القادر، الزبونية السياسية والسلطة في المجتمعات العربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2005، ص 70].
2. خلق حالة "الاعتمادية المُذلة": الزبون الذي حصل على الخدمة بـ "واسطة" يشعر بالامتنان الشخصي لـ "الراعي"، وليس بالامتنان للدولة ومؤسساتها. هذا يرسخ في وعيه فكرة أن النظام الرسمي لا يعمل، وأن نجاته مرهونة بـ إدامة ولاءه للشبكة. هذا التبعية هي نقيض الحرية التي هي جوهر المواطنة الحقة.
3. قتل المواطنة الفاعلة: لماذا يشارك المواطن في الانتخابات أو يراقب أداء حكومته إذا كان يعلم أن وصوله إلى حقوقه لا يعتمد على الإجراءات الديمقراطية الشفافة، بل على همسة في أذن مسؤول؟ الزبائنية تُحوّل المواطن من فاعل سياسي مُطالب إلى متسول صامت لا يُسمح له بالصوت إلا في لحظة الولاء (الاقتراع للراعي).
إننا أمام عملية اغتيال ممنهج لوعد المواطنة، حيث تتحول الديمقراطية إلى مسرحية شكلية تُمارس لإضفاء الشرعية على شبكات التبادل السرية.
المبحث الثالث: إنتاج اللامساواة: المواطنون "الأشباح" والطبقات الزبائنية
الزبائنية لا تُنتج الفساد فحسب، بل تُنتج طبقات اجتماعية وقانونية غير رسمية داخل المجتمع. المواطنون يُقسمون قسراً إلى مجموعتين لا علاقة لهما بالجهد أو الكفاءة:
1. المواطنون "الأصلاء" (الزبائن): وهم الذين ينتمون إلى شبكات النفوذ، يحصلون على فرص التعليم والوظائف والعدالة بسهولة نسبية. بالنسبة لهم، النظام يعمل... ولكن ليس وفقاً للقانون، بل وفقاً للولاء.
2. المواطنون "الأشباح" (الضحايا): وهم الذين يعتمدون على القانون، يرفضون الدخول في لعبة الزبائنية، أو ببساطة لا يملكون "الواسطة" اللازمة. هؤلاء يُعاقبون ببطء ووحشية: يتعطل علاجهم، تُركل ملفاتهم، تُرفض طلباتهم رغم استحقاقهم. [cite: إدوارد سعيد، تأملات في المنفى، ترجمة: عبد الكريم الزياني، دار الآداب، بيروت، 2004، ص 101]. إنهم موجودون في السجلات لكنهم غير موجودين في معادلة الوصول إلى الحقوق.
هذه اللامساواة الزبائنية هي قنبلة موقوتة تُهدد كل مفهوم للتنوع وقبول الآخر. كيف يمكن للشباب، على سبيل المثال، أن يؤمن بقبول الآخر، إذا كان الآخر هو الذي يسرق فرصته في التوظيف بسبب انتمائه الطائفي أو القبلي لشبكة الراعي؟ الزبائنية هي التي تُنتج الكراهية والتقسيمات الاجتماعية عبر توزيعها الجائر للموارد.
المبحث الرابع: الزبائنية وقمع التفكير: العقل المُعلّق للزبون
وهنا نضيف مبحثاً رابعاً ليكتمل التشريح، وهو يتعلق بأخطر آثار الزبائنية على التكوين الفكري للمجتمع. الزبائنية لا تُفسد المؤسسات فحسب؛ بل تُفسد طريقة التفكير وتُعلق عمل العقل النقدي.
1. موت العقل النقدي: في نظام الزبائنية، لا يُشجع الزبون على النقد أو التفكير المستقل أو حتى المطالبة بالإصلاح. لماذا؟ لأن بقاءه مرهون بالصمت والطاعة للراعي. النقد هو تهديد للعلاقة، والمطالبة بالشفافية هي خيانة لـ "الشفيع" الذي أنقذه. هذا الوضع يُنتج أفراداً غير قادرين على التفكير بمنطق المواطنة الجامعة.
2. استبدال القانون بـ "الرغبة": بدلاً من أن يكون القانون هو المرجعية النهائية، تصبح "رغبة الراعي" أو "مزاج الشبكة" هي المرجعية. هذا يدمر مفهوم الثقة في المؤسسات ويجعل التوقع واليقين القانوني مستحيلاً. كل شيء يصبح مرهوناً بـ "من تعرف" و "كم أنت قريب" [cite: ميكيافيلي، نيقولو، الأمير، ترجمة: خليل أحمد خليل، دار الفارابي، بيروت، 2004، ص 89، حيث يُشير إلى أهمية النفوذ الشخصي على القانون].
3. إدامة الخرافة الاجتماعية: الزبائنية تُعزز فكرة أن "الناس لا يمكنهم حكم أنفسهم" وأنهم بحاجة دائمة إلى "زعيم" أو "عرّاب" يحميهم ويجلب لهم الحقوق. هذا يُعيد إنتاج التبعية الأبوية ويقضي على أي محاولة لترسيخ الحكم الذاتي والمساءلة الديمقراطية.
هكذا، يتبين أن الزبائنية ليست ظاهرة هامشية، بل هي الهيكل الحاكم الفعلي الذي يلتهم كل آمالنا في المواطنة، ويحول مفاهيم التنوع وقبول الآخر إلى مجرد قناع يخفي وراءه نظاماً كاملاً من التمييز والاضطهاد. لقد كشفنا عن ماهية التهديد؛ وفي الفصل التالي، سنرى كيف يترجم هذا التهديد إلى دمار فعلي لنسيج المجتمع.
الفصل الثالث: الآثار المدمرة: الزبائنية وتدمير ثقافة القبول (النتائج الكارثية للتبعية)
لقد رسمنا في الفصل الأول لوحة المواطنة السامية، ثم شرّحنا في الفصل الثاني آلية تدميرها: الزبائنية. الآن، حان وقت النظر إلى الحطام. هذا الفصل هو عن النتائج الحتمية والمُدمرة للنظام الزبائني على النسيج الاجتماعي والإنساني.
نحن هنا لنُثبت أن الزبائنية ليست "طريقة عيش" يمكن التعايش معها، بل هي مُدمرة للقيم، ومُفجرة للاستقرار، وقاتلة لأي فرصة حقيقية لقبول الآخر
تمهيد: الوجه القبيح للمحسوبية
إذا كان هدف أي مجتمع متحضر هو بناء جسور الثقة والتعاون بين أفراده، فإن الزبائنية تعمل كـ "مدفعية" لتدمير هذه الجسور. إنها تُحوّل الاختلاف إلى مادة خام للاستقطاب، وتُحوّل المنافسة الشريفة على الموارد إلى حرب بقاء قذرة بين شبكات الولاء.
إن هذا الفصل لن يتحدث عن "الآثار الاجتماعية العامة" للفساد، بل عن تأثير الزبائنية المباشر والنوعي على مفاهيمنا التي بدأنا بها: التنوع، وقبول الآخر، والمواطنة الفعالة. لنكتشف كيف أن ثقافة المحسوبية ليست مجرد ظلم فردي، بل هي إعادة هيكلة للوعي تُجيز التمييز وتُشرعن اللامساواة.
المبحث الأول: تضييق مساحة القبول: إنتاج "الآخر" المُهمّش
الزبائنية، بطبيعتها، هي عملية استقطاب وحماية ذاتية تقوم على مبدأ "نحن مقابل هم". كل شبكة ولاء زبائنية تعمل على احتواء أعضائها (In-gr-up) عبر تقديم الخدمات والموارد، وفي المقابل، فهي تعمل على إقصاء وتهميش الآخر (-ut-gr-up) الذي لا يتبع لها.
هذا الإقصاء ليس عابراً؛ إنه إقصاء هيكلي يُكرّس مواطنة الدرجة الثانية:
1. المواطن "الزبون" مقابل المواطن "الضحية": المواطن الذي يجد فرصته في التوظيف أو العلاج عبر شبكة الزبائنية يشعر بالانتماء، بينما المواطن الذي يُرفض طلبه لأنه لا يمتلك "الواسطة" يشعر بأنه غريب في وطنه. هذا التهميش يولد شعوراً عميقاً بالظلم والغضب، ويقضي على أي قناعة بثقافة القبول .
2. تشويه مفهوم الكفاءة والعدالة: عندما يرى الفرد أن من هم أقل كفاءة منه يحصلون على أعلى المناصب لأنهم ينتمون لشبكة نفوذ معينة، يصبح لديه دافع قوي لـ رفض تلك الشبكة وأفرادها، حتى لو كانوا ينتمون إلى تنوع ثقافي أو ديني هو في الأصل يحترمه نظرياً. هنا، يتحول الاختلاف من ثراء إلى سبب للريبة والاتهام، لأن كل مجموعة ترى أن الأخرى تسرق حقها عبر الوسائل غير المشروعة.
إن الزبائنية ترفع جدراناً غير مرئية بين المواطنين. ليس قبول الآخر هو ما يتآكل فحسب، بل الثقة الأساسية في أن كل الأطراف تلعب وفقاً للقواعد ذاتها.
المبحث الثاني: تسييس التنوع: تحويل الاختلاف إلى أداة للصراع
هنا تُظهر الزبائنية وجهها الأكثر دهاءً وشراً. إنها لا تكتفي بتضييق مساحة القبول، بل تستغل التنوع الموجود أصلاً (الطائفي، العرقي، المناطقي) وتحوّله إلى أداة لإدارة الصراع والبقاء في السلطة.
نظام "المحاصصة" الطائفي أو العرقي، على سبيل المثال، ليس اعترافاً بالتنوع، بل هو تطبيق استراتيجي للزبائنية على مستوى الدولة:
1. المحاصصة كآلية زبائنية: يُقسم النظام المناصب والثروات على زعماء المكونات الرئيسية (الأطراف الزبائنية القوية). كل زعيم من هؤلاء يصبح "الراعي الأكبر" لجماعته، ويقوم بتوزيع المنافع والوظائف عليهم، مُلغياً بذلك مفهوم "المواطنة المباشرة" بين الفرد والدولة .
2. إدامة التقسيم وبث الكراهية: هذا النظام يُجبر الأفراد على التشبث بهويتهم الأولية (الطائفة/القبيلة) كطريق وحيد للنجاة، بدلاً من الانخراط في هوية وطنية جامعة. وفي كل مرة يحدث فيها صراع على الموارد، يتم تأطيره فوراً كصراع طائفي أو عرقي، بينما هو في حقيقته صراع بين شبكات زبائنية تتنافس على "حصة الزعامة". هذا التسييس للتنوع يقتل أي إمكانية للعيش المشترك الحقيقي، ويجعل كل مجموعة تنظر إلى الأخرى كـ "خصم سياسي أبدي" يسعى لسرقة حقوقها.
3. تجريد التنوع من العمق الفكري: بدلاً من أن يكون التنوع مصدراً للتعددية الفكرية والسياسية، تحوّله الزبائنية إلى مجموعة من الكتل المتجانسة داخلها (كل طائفة أو عرق)، تخضع لزعامة واحدة وتتبع أوامرها بشكل أعمى، مما يقتل الحوار البنّاء ويُعزز الانقسام الجاهز .
المبحث الثالث: تآكل الثقة والمواطنة الفعالة: ثمن التنازل
لقد رأينا كيف تُلغي الزبائنية مفهوم الحق وتستبدله بمفهوم المنّة. الأثر المدمر الأخير، والأكثر خطراً، هو تآكل الثقة الذي يضرب العلاقة بين المواطن والدولة، وبين المواطنين أنفسهم، مما يُشلّ القدرة على المواطنة الفعالة.
1. موت الثقة في المؤسسات: عندما يرى المواطن أن المؤسسة الحكومية لا تحكمها الكفاءة بل الواسطة، وأن القضاء قد يتأثر بالانتماء، وأن القوانين تُطبّق على الضعفاء وتُعطّل من أجل الأقوياء، فإنه يفقد الثقة تماماً في فكرة الدولة الحديثة. هذا الانهيار في الثقة يدفع الناس نحو الانكماش على الذات، والبحث عن "الراعي" كملجأ أخير، مما يُعزز دورة الزبائنية الخبيثة.
2. شلل المطالبة بالحقوق المستقلة: إن عملية "شراء" ولاء المواطن عبر خدمات زبائنية (وإن كانت حقاً له) تضع المواطن في موضع الضعف الأخلاقي والسياسي. كيف يمكن للزبون أن يطالب بالشفافية والمساءلة من "الراعي" الذي أنقذه من براثن البيروقراطية؟ هذا يضمن أن المواطنين يتنازلون عن واجبهم في النقد والرقابة مقابل الحصول على خدماتهم. وهذا هو سر بقاء الزبائنية: قمعها لصوت المواطن المستقل.
3. إنهاء مفهوم الصالح العام: المواطنة الفعالة تتطلب أن يرى الأفراد أن مصلحتهم الشخصية تتقاطع مع المصلحة العامة. لكن الزبائنية تُعّلمهم العكس: مصلحتي الشخصية تكمن في الولاء لشبكتي الخاصة، حتى لو كان ذلك على حساب المصلحة العامة. هذا التفكير يُحوّل أي مشروع وطني ضخم (تعليم، صحة، بيئة) إلى مجرد "غنائم" تُقتسم بين الشبكات، مما يُدمّر مفهوم التضامن الوطني وينذر بالانهيار المجتمعي في النهاية.
لقد اكتملت ملامح الصورة القاتمة. الزبائنية ليست مجرد سوء إدارة؛ إنها أيديولوجية قائمة على إدامة التبعية والتمييز. لقد رأينا كيف تقتل التنوع، وكيف تحطم الثقة، وكيف تجعل من كل مواطن لا يتبع الشبكة الحاكمة "شبحاً" في وطنه.
السؤال الملحّ الآن: هل نحن محكومون بهذا النظام المدمر؟ أم أن هناك سبيلًا لمواجهة هذه الآفة القاتلة وإعادة إحياء العقد الاجتماعي الضائع؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه في الفصل الأخير.
الفصل الرابع: خارطة طريق للتمرد: من المواطنة الزبائنية إلى الجمهورية النظيفة
تمهيد: جراحة جذرية لإنقاذ الوطن
لقد انتهى زمن الوعظ والإصلاحات الجزئية. المواطنة لا يمكن أن تنمو في بيئة مُلوثة بالزبائنية. إن نظامنا الحالي أشبه بمريض يحتاج إلى جراحة استئصال لجزء فاسد. إن لم ننزع سلاح الزبائنية السياسي والاقتصادي، فإن كل حديث عن حقوق الإنسان وقبول الآخر سيظل مجرد نكتة سمجة.
إن خارطة الطريق هنا ليست مجموعة من التوصيات، بل هي بيان ثوري من ثلاث محاور، يهدف إلى نسف مُبررات وجود الزبائنية نفسها.
المبحث الأول: نسف السلاح الاقتصادي: الإصلاحات التشريعية لـ "تجفيف المنفعة"
الزبائنية تزدهر عندما تكون الخدمات العامة (التعليم، الصحة، التوظيف) نادرة، أو عندما تكون عملية الوصول إليها معقدة. إننا بحاجة إلى تشريعات تُجفف المنفعة التي يبيعها "الراعي" السياسي:
1. الشفافية الراديكالية في التوظيف العام (القضاء على "سوق النخاسة"):
- التوظيف عبر المنصات الرقمية الموحدة: يجب حظر التوظيف المباشر بقرار إداري. يجب أن يكون التقديم للوظائف الحكومية على جميع المستويات (بما في ذلك الوظائف العليا غير السياسية) حصراً عبر منصة رقمية موحدة، تضمن العمى الكامل تجاه هوية المتقدم (لا أسماء، لا صور، لا عشيرة) حتى مرحلة المقابلة النهائية.
- فرض عقوبات "الخيانة العامة": يجب أن يُنظر إلى أي تدخل سياسي أو شخصي في عملية التوظيف كـ "خيانة للجمهورية"، وتُفرض عليها عقوبات جنائية قاسية على كل من "الراعي" المتدخل و "المسؤول" الذي نفذ التوصية. هذا ينسف مبرر وجود "الواسطة" أصلاً.
2. ضمانة "جودة الخدمة كحق دستوري" (إلغاء حاجة الشفيع):
- تفعيل مبدأ "المحاسبة المباشرة": يجب سن قوانين تضمن أن أي تأخير أو تعقيد في إنجاز خدمة عامة مستحقة (جواز سفر، رخصة، علاج) خارج الإطار الزمني المعلن، يمنح المواطن حقاً قانونياً مباشراً في مقاضاة المسؤول أو الإدارة المسؤولة، مع فرض غرامات تدفعها الإدارة كتعويض. هذا يحول الخدمة من منّة إلى حق يمكن الدفاع عنه بقوة القانون.
- "الخدمة الفورية" كحق أساسي: يجب على الدولة تبسيط الإجراءات بشكل قسري وراديكالي عبر الأتمتة الكاملة، بحيث لا يحتاج المواطن إلى التفاعل مع موظف فاسد أو راعٍ لإنهاء معاملته.
المبحث الثاني: تعزيز سلطة القانون: تحصين القضاء ضد "فيروس النفوذ"
إن أخطر ما في الزبائنية هو قدرتها على ترويض القضاء والجهات الرقابية. القضاء ليس مجرد أداة لتطبيق القانون؛ بل هو الضمانة الوحيدة للمواطنة الجامعة. لا يمكن للإصلاح أن ينجح إلا إذا كان القانون فوق الجميع، بمن فيهم واضعو القانون.
1. استقلال القضاء المطلق (تفكيك الحماية الزبائنية):
- قطع التمويل والإدارة عن السلطة التنفيذية: يجب أن يكون تمويل القضاء، بما في ذلك أجور القضاة والبنية التحتية، مستقلاً تماماً عن ميزانية الحكومة التنفيذية، لضمان عدم وجود أي ورقة ضغط عليها.
- إقرار "قانون من أين لك هذا" المُجرّد: يجب تفعيل تشريعات تُلزم كبار المسؤولين بتقديم كشوفات ذمة مالية شاملة، لا تكون مجرد إجراء شكلي، بل تخضع للتحقيق من قبل هيئات رقابية مستقلة ومخوّلة، مع افتراض الفساد إذا لم يتمكن المسؤول من تبرير الزيادة في ثروته [cite: خوري، إلياس، تجربة الإصلاح الإداري في العالم العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2008، ص 142].
2. تطبيق القانون على رموز الزبائنية (كسر هيبة "الراعي"):
- المحاكمة العلنية للفساد الكبير: يجب أن يتمتع القضاء بالشجاعة لتطبيق القانون على الرؤوس الكبيرة في شبكات الزبائنية، وتكون محاكماتهم علنية وشفافة. إن كسر هيبة "الراعي" الفاسد هو أبلغ رسالة للمجتمع بأن عصر "النجاة بالواسطة" قد انتهى. هذا ينسف اعتقاد الزبائن في حصانتهم ويُعيد الثقة في مبدأ "سيادة القانون".
المبحث الثالث: الإصلاح الوجودي: بناء وعي "التمرد النظيف"
الإصلاح القانوني والاقتصادي لا يكفي؛ يجب أن يواكبه تمرد ثقافي ضد عقلية التبعية. الهدف هو بناء مواطن يرفض أن يكون زبوناً، ويصر على أن يكون صاحب حق.
1. التعليم كـ "تطهير فكري":
- إدراج "ثقافة المواطنة والمساءلة" كمادة أساسية: يجب أن تُدرَّس المواطنة الفعالة وحقوق الإنسان كنقد مباشر لآليات الزبائنية والفساد، وأن يتعلم الطالب أن "الواسطة" ليست شطارة، بل سرقة جماعية لفرص الآخرين. التعليم يجب أن يزرع فكرة أن المطالبة بالحق هي واجب، وأن التنازل عن الحق مقابل خدمة هو خيانة للجيل القادم.
2. إعلام "الشراكة الوطنية" لا "الولاء الزبائني":
- حماية ودعم الإعلام المستقل: يجب دعم الإعلام الاستقصائي الذي يلاحق شبكات الزبائنية ويكشف المستور، وتوفير الحماية القانونية للصحفيين والنشطاء الذين يقومون بهذا الدور. يجب أن يكون الإعلام هو صوت "المواطن الشبح" المظلوم.
- إطلاق حملات "أنا لست زبوناً": يجب على المجتمع المدني والمنظمات الدولية (مثل الأمم المتحدة) العمل على حملات إعلامية تربوية تُفكك ثقافة "الامتنان المُذل" للراعي، وتُعلم الناس كيف يطالبون بحقوقهم بشكل مؤسسي ومستقل، وليس عبر قنوات الولاء.
خاتمة الفصل: نحو جمهورية الكرامة
إن هذه الخارطة ليست مُجرد أمنيات. إنها الحد الأدنى المطلوب لجراحة إنقاذ جذرية. المطلوب هو تحويل المجتمع من مجتمع "الراعي والزبون" إلى جمهورية الكرامة، حيث يكون القانون هو الشفيع الأوحد، وحيث المواطنة الجامعة هي الحقيقة الوحيدة.
***
خليل إبراهيم الحمداني






