قضايا

مصطفى غلمان: سوسيولوجيا الخوارزمية.. بين صدقية الخبر وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي

(الحواسيب لا تفهم، هي فقط تعالج الرموز)... جون سيرل

(المعرفة ليست حيادية، بل قوة؛ ومن يتحكم في إنتاج المعرفة يتحكم في السلطة)... ميشيل فوكو

بين السرعة والكفاءة المعلوماتية، يبرز الذكاء الاصطناعي التوليدي كفاعل أساسي في إنتاج الخبر، لكنه في الوقت ذاته يثير تساؤلات جوهرية حول صدقية الأخبار وحياد الخوارزميات.  والمعلوم أن النظم الخوارزمية لا تعمل بمعزل عن البنى الاجتماعية والثقافية التي صممت ضمنها، فهي تتكيف وفق قوالب التأطير المعلومياتي والرقمي، ما يجعل إنتاج المعلومة مرهونًا بمحددات مسبقة تتجاوز التقنية لتشمل القيم واللغة والبنية المعرفية التي تنطوي عليها البيانات.

وتظهر الدراسات الحديثة، مثل تقرير هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) واتحاد الإذاعات الأوروبية (EBU)، أن نسب الأخطاء في المحتوى الرقمي ليست مجرد خلل تقني، بل انعكاس لثقافة رقمية ومجتمعية محددة. فالذكاء الاصطناعي يعيد إنتاج الخطأ ضمن نسق منظّم، ما قد يؤدي إلى تكوين “واقع رقمي مزيف”، حيث تتداخل الحقيقة مع التحريف ضمن وعي المستخدم، ويصبح الجمهور مضطرًا إلى مواجهة أخطار المعرفة المضللة في فضاء افتراضي سريع ومتغير.

في هذا الإطار كشف التقرير الدولي المشترك الصادر في 22 أكتوبر عن المؤسستين الإعلاميتين السالفتين، عن نتائج صادمة، إذ وُجد أن 45% من إجابات أنظمة الذكاء الاصطناعي تحتوي على خطأ جسيم أو تضليل صريح، فيما بلغت نسبة الردود المليئة بأي شكل من أشكال الخطأ 81%. هذه الأرقام تكشف أن أربعة من كل خمس إجابات يمكن أن تكون مضللة، وهو مؤشر على هشاشة المصداقية الرقمية في عصر الاعتماد الكلي على الخوارزميات في نقل الأخبار.

لا تكمن خطورة هذه النتائج في الكفاءة التقنية فحسب، بل في قدرة الذكاء الاصطناعي على إنتاج نسخ مشوهة من الواقع، حيث يثق المستخدم في واجهات مصقولة وسريعة دون أن يعرف أن ما يحصل عليه ليس الحقيقة الموضوعية، بل نسخة مختزلة ومعدلة من الأحداث. وهكذا يتحول الذكاء الاصطناعي من أداة مساعدة إلى قوة قد تساهم في تشكيل وعي مزيف لدى الجمهور.

إن الأخطاء التي تسجلها هذه الأنظمة لا يمكن اعتبارها مجرد خلل عشوائي، بل انعكاس لثقافة البيانات والبنية المعلومياتية التي صممت ضمنها. فالخوارزميات تعتمد على مجموعات ضخمة من البيانات، وهذه البيانات نفسها تحمل تحيزات لغوية وثقافية وإيديولوجية، تؤثر في نتائجها النهائية.

من هذا المنظور، يصبح الخطأ الخوارزمي مؤشرًا على تفاعل التكنولوجيا مع السياق الاجتماعي والثقافي. فالآلة تتكيف مع قوالب التأطير المعلومياتي، ما يؤدي إلى إعادة إنتاج التحيزات والمواقف المجتمعية، حتى وإن لم تكن مقصودة. وبهذا، تتحول الأخطاء الرقمية إلى أداة تحليل سوسيولوجية تكشف العلاقة بين التكنولوجيا والمجتمع، وبين المعرفة الرقمية والوعي البشري.

وفي قلب هذه الأزمة، يبرز السؤال الفلسفي: هل يمكن للآلة أن تكون موضوعية، وهي نتاج عقل بشري محدود ومحكوم باختيارات قيمية؟. إن ما يُنتج من أخطاء ليس فقط نتيجة عدم قدرة الخوارزمية على فهم الواقع، بل نتيجة طبيعة عملها التي تدمج الاحتمالات والإحصاءات ضمن منطق برمجي محدود بالبيانات والتصميم المسبق.

ويظهر مفهوم “أخلاقيات الخوارزمية”، أي مسؤولية المبرمجين والشركات المطورة عن جودة ودقة ما ينتجه الذكاء الاصطناعي، خاصة في المجالات الحساسة كالأخبار. فالاعتماد على الخوارزميات بدون رقابة صارمة أو إطار أخلاقي يؤدي إلى استقطاب معرفي ومجتمعي، ويخلق ما يمكن تسميته بـ”واقع مزيف يتوسع بصمت”، حيث يبدو الخبر صادقًا ولكنه مشوّه.

ولمواجهة هذه التحديات، يحتاج المجتمع الرقمي إلى آليات متعددة المستويات، يتقدمها حافز توعية الجمهور، وذلك عن طريق تعليم المستخدمين كيفية التمييز بين الحقيقة والزيف الرقمي. ورقابة مؤسساتية وتقنية، بتطوير مؤشرات شفافية الخوارزميات، وإعداد تقارير تصحيحية للأخطاء. بالإضافة إلى مساءلة الشركات الكبرى، بإلزام مطوري الذكاء الاصطناعي بتوثيق مصادر التدريب، وضمان معايير أخلاقية دقيقة. علاوة على دمج الثقافة الرقمية والسوسيولوجيا في تصميم البرمجيات، لضمان احترام القيم المجتمعية وتقليل الانحيازات المضمّنة.

إن أزمة الذكاء الاصطناعي في نقل الأخبار ليست مجرد مسألة تقنية، بل أزمة معرفية وثقافية وفلسفية. فالخطأ الخوارزمي يفضح العلاقة بين التكنولوجيا والوعي، ويعيد طرح سؤال الحقيقة في زمن يهيمن فيه الذكاء الاصطناعي على إنتاج المعلومة.

المستقبل الرقمي يحتاج إلى توازن بين سرعة المعرفة الرقمية وعمق المصداقية، وإلى دمج الأخلاقيات، الفلسفة، والسوسيولوجيا مع التكنولوجيا لضمان إنتاج خبر مسؤول وموثوق، قادر على تعزيز وعي المجتمع بدلاً من تشويهه. فالمسألة لم تعد مجرد دقة المعلومات، بل مسألة استقرار المعرفة والوعي في العالم المعاصر.

***

د. مصطفى غَلــــمَــان

في المثقف اليوم