قضايا
خالد اليماني: قراءة موجزة في تدبير المتوحد عند ابن باجة

في زمنٍ كَثُر فيه الصراع بين مباهج الحياة من ناحية، وصراعات السياسة من الناحية الأخرى، أدرك ابن باجه أن خلاص الفيلسوف وسلواه لا يكون بالانفكاك والهروب من المجتمع والناس، بل بفنّ العيش فيهم دون أن تتلاشى ملامحه الذاتية. جاء كتاب "تدبير المتوحّد" ليمهد مسلكًا وجوديًا يبدأ بالعقل وينتهي بالإتصال بالمصدر لهذا الوجود، أو كما يسميه فيلسوفنا: العقل الفعَّال أي مصدر الوجود.
لم يكن ناقلاً عن الفلاسفة وشارحًا لأفكارهم فحسب، بل كان مثالاً حيًّا للإبداع والابتكار والتفلسف، رافضًا فساد المدينة والمجتمع، فكان مشروعه فرديًا يرفض الاستسلام للعوامل الخارجية التي تُفسد صفو الحياة وتعيق البحث عن حقيقة الوجود. فبحثه عن العزلة لم يكن تخليًّا عن مسؤوليته الفردية تجاه مجتمعه، بل سعيًا للحفاظ على السلام الداخلي الذي يؤدي إلى الارتقاء إلى مصاف "الكائن الإلهي" الذي يتجاوز تجربة الجسد إلى "الهُناك" على حدّ تعبير هيدغر.
لم يكن "التدبير" عند ابن باجة مجرد تنظيمٍ رتيبٍ للحياة ومعتركاتها، بل ثورةً على فكرة أن الفلسفة يجب أن تُدار كشأنٍ جماعي. فبينما حمل الفارابي هذا المشروع الذي يعنى ببناء مدينته الفاضلة كحلم جماعي، حوَّل ابن باجة رؤيته إلى مشروعٍ فردي. والمتوحّد عنده ليس ناسكاً يعتزل مخالطة الناس، بل فيلسوفًا يعيش بينهم بحكمةٍ ووعي، لكنه يريد من كلّ ذلك أن لا تُقيّده أفكارهم وأهواؤهم نقاء تأمُّلاته. إنه كالنبتة الطبيعيّة التي تنمو في تربةٍ مليئة بالأعشاب الضارة، تُصارع الكل بخفة ودهاء دون أن تتحول إلى نبتةٍ صناعيةٍ كالآخرين. وهنا تكمن المفارقة: أن تعيش في العالم دون الإنتماء إليه، أن تُشارك في حركته دون أن تفقد بوصلةَ غايتك.
قسَّم ابن باجة الإنسان إلى ثلاث طبقات، كأنما يُعيد ترتيب سُلَّم القيم الإنسانية من جديد. فالأعمال الجِسمانية — كالأكل والشرب — هي ما يشترك فيه الإنسان مع الحيوان بيولوجيًا، ولا يمكن الانفكاك منها، لكنها تصير سجناً دون تهذيبها. أما الأعمال الروحانية الخاصة - كالتباهي بالملابس الفاخرة أو الترفيه الزائد — هي أوهام وطريقها إلى السراب لأنها لا تحمل بجُعبتها بذرة الوصول. أما الطبقة الثالثة فهي العُليا: هي السعي وراء "المعقولات" — الأفكار المجردة الأزلية — كالعدل والجمال والحق، والتي تُحرر العقل من ثقل الجسد، وتوصله إلى حالةٍ من الاتصال بالعقل الفعَّال، ذلك الكيان الجوهري المُنظّم للوجود والعالم ومتصلًا بكلّ الجواهر.
لكن كيف نحقّق هذا الاتصال؟ رفض ابن باجة الطُّرُق الصوفية القائمة على الوجد والخَلوة، ورأى أن العقل المُجرد وحده قادرٌ على كسر الحُجُب. فالعقل الفعال عنده ليس ذاك الإله البعيد وراء السماوات، بل هو العقل والروح والنظام في كل شيء، الذي يمكن للإنسان اكتشافه عبر التأمل الفلسفي المنهجي. هنا يصبح الفيلسوف كالباحث عن النور في الظلام مع اليقين الكامل بوجوده وبأنه ليس ببعيد.. وكل فكرة خالدة تُحرّره من ظلام الجهل وضيق الصّدر. لكن هذه الرحلة لا تخلو من مشقة: فالنفس الحيوانية — بحسب تعبيره — عدو يتربص بالعقل، يُحاول إغراقه في الشّهوات أو الانتقام منه عبر الغرور. ولذا، كان على المُتوحّد أن يكون حارسًا يقِضاً لنفسه، يُروّض غرائزه بفضائل أخلاقيةٍ تحوِّلها من أعداء إلى حلفاء.
لم تكن رحلة صديقنا سهلة؛ فكثيرون في عصره رأوا في أفكاره خروجًا عن المألوف وتماديًا على الدين، وبطبيعة الحال لم يَسلَم من التكفير بسبب ارتكاز نظره على العقل وإهمال للأخبار والنصوص. لكنّ التاريخ أثبت أن فلسفته كانت جسرًا بين المشرق والمغرب: فابن رشد كان تلميذه غير المباشر، وأخذ عنه فكرةَ العقل الفعَّال، بل إنّ روح ابن باجة تجلَّت لاحقًا في فلسفات التنوير الاوروبي، التي رأت في العقل أداة الخلاص الأولى وبناء الحضارة.
واليوم، في هذا العالم الرأسمالي الذي يَحتويه الضجيج من كل جانب، يُلحّ علينا طرح السؤال الذي طرحه ابن باجة: كيف نحمي عقولنا من فساد المجتمع والعالم؟ ربما تكمن الإجابة في العودة إلى الذات، وحيث كل عمل نقوم به وكل شخص نختاره، يُقرّبنا خطوةً من "المعقولات"، ويُبعِدنا خطواتٍ عن الوهم والتبعية والتقليد. ونختم بقوله: "السعادة ليست في الهروب من العالم، بل في صنع عالمٍ بداخلك، يحكمه العقلُ قبل كل شيء."
***
خالد اليماني
.......................
المصادر:
بدوي، عبدالرحمن. موسوعة الفلسفة. الجزء الأول، صـ14-18