قضايا
عبد السلام فاروق: الأدب العربي والوعي الممزق

حين نتأمل خارطة الأدب العربي الحديث، نشعر وكأننا أمام فسيفساء مذهلة الجمال، ألوانها متعددة، وأحجارها موزعة من بغداد إلى الرباط، ومن القاهرة إلى صنعاء. غير أن هذه اللوحة، على بهائها، تبدو مفككة؛ ينقصها ذلك الإطار الجامع الذي يبرز تناغمها ويكشف عن صورتها الكاملة. نحن نقرأ شعراً يهتف بالحرية في بيروت، ونصوصاً تسائل الهوية في المغرب، وروايات تفضح الاستبداد في القاهرة، لكننا قلما نقرأ هذه الأصوات معاً بوصفها أجزاء من سيمفونية واحدة.
كأن الحدود السياسية التي قسمت الجغرافيا العربية، امتدت أيضاً إلى وعينا النقدي، فصارت كل تجربة أدبية تدرس في معزل، وكأنها لا تشارك الأخرى همها ولا تحاورها في قضاياها. هكذا أصبح النقد العربي، في كثير من الأحيان، شبيهاً بجزر متناثرة في بحر واحد، لا يربطها جسر ولا يظللها سقف مشترك.
في هذا الفراغ، يعلو صوت سؤال جوهري: لماذا عجزنا عن كتابة تاريخ شامل للأدب العربي الحديث، ونحن الذين نتقاسم لغة واحدة وتراثاً حضارياً متشابكاً؟ أهو قصور في الرؤية النقدية، أم انعكاس لواقع سياسي مزمن؟ هنا تتبدى الإشكالية التي يثيرها الدكتور سعد البازعي: أزمة القطرية النقدية، أو بالأحرى غياب "العين الجامعة" القادرة على رؤية المشهد الأدبي العربي ككل متفاعل حي، لا كأشلاء متفرقة على خرائط الدول.
التشرذم
يثير الدكتور سعد البازعي، بعمق نظرته النقدية، مسألة ليست محصورة في حقل الأدب وحده، بل تنسحب على كامل الوعي الثقافي العربي: غياب الرؤية الشاملة في دراسة الأدب العربي الحديث. هذه الإشكالية، وإن بدت للوهلة الأولى شأناً أكاديمياً محضاً، إلا أنها في جوهرها مرآة لتمزق الذات العربية، وانعكاس مباشر لحالة التجزئة السياسية والفكرية التي يعيشها العالم العربي منذ قرون.
إن المطالبة بكتابة تاريخ شامل للأدب العربي الحديث، كما يقترح البازعي، ليست مجرد ترف بحثي، بل هي محاولة لإعادة وصل ما انقطع بين أطراف الجسد الثقافي الواحد. إنها معركة لاستعادة الذاكرة المشتركة، وإعادة بناء الهوية الثقافية التي تهشمت تحت وطأة الحدود السياسية والإقليمية.
المفارقة
رغم أن العرب يملكون لغة موحدة، هي من أعرق لغات العالم وأكثرها تجذراً وقدرة على التعبير، إلا أن هذه اللغة لم تترجم إلى وحدة نقدية أو رؤية شاملة للأدب. لقد تحولت إلى وعاء ضخم تملؤه نصوص متفرقة، دون وجود "عين نقدية جامعة" تتأمل المشهد في كليته.
هنا تكمن المفارقة الكبرى: لغة واحدة، لكنها موزعة على وعي نقدي مجزأ. نصوص من القاهرة أو بغداد أو الدار البيضاء تتجاور على الورق، لكنها تقرأ بمعايير محلية ضيقة. وكأن الشعر العراقي لم يؤثر في مصر، أو كأن الرواية المغربية لم تترك بصمتها في الخليج. الحقيقة أن التأثيرات متبادلة، لكن النقد القطري يحجبها، فلا نراها إلا بوصفها جزراً معزولة.
جزر منعزلة
حين نتحدث عن "الرواية المصرية" أو "الشعر العراقي" أو "القصة الخليجية"، فإننا نكرس وعياً تجزيئياً لا يعكس الحقيقة. فالتجارب الأدبية، مهما بدت محلية، هي في جوهرها جزء من حركة عربية واحدة. ألم يكن تأثير نجيب محفوظ يتجاوز حدود مصر ليلهم أجيالاً في المغرب العربي والخليج؟ ألم يهز شعر السياب ونازك الملائكة الذائقة العربية بأسرها؟
إن هذا الفصل المصطنع بين الآداب القطرية يجعل النقد أشبه بعالم أحياء يقسم الغابة إلى أقفاص، فيفقد القدرة على رؤية الحياة المشتركة التي تنبض فيها. بينما الأدب العربي، في جوهره، منظومة واحدة تتشارك القضايا والهموم: الحداثة، الحرية، الهوية، المرأة، الاستبداد. هذه ليست قضايا محلية، بل أسئلة وجودية تعني كل عربي، مهما اختلفت الجغرافيا.
المعضلة والحل
إن غياب الرؤية الشاملة لا يحرمنا فقط من صورة كلية للأدب العربي، بل يفقدنا القدرة على فهم دينامياته الداخلية. كيف يمكن أن ندرس "الرواية الجديدة" في الأردن دون ربطها بما جرى في مصر ولبنان؟ وكيف نقيم صعود "شعر التفعيلة" إذا لم نتابع مساره من بغداد إلى دمشق والقاهرة والرباط؟
بهذا الغياب، نكون كمن ينظر إلى النهر من خلال قطرة ماء، أو يقرأ التاريخ من خلال صفحة واحدة. النقد القُطري يحبسنا في زاوية ضيقة، بينما الأدب في حقيقته حركة واسعة، تيار متدفق لا يعترف بالحدود.
المقارنة مع التجربة الأوروبية تكشف عمق الهوة. في أوروبا، ورغم تعدد اللغات والثقافات، نشأت دراسات شاملة مثل "الرواية الأوروبية في القرن التاسع عشر" أو "المسرح الأوروبي الحديث". هناك وعي بأن الأدب يتجاوز الحدود الوطنية، وأن التيارات الفكرية والفنية تنتقل وتتلاقح عبر القارات.
أما نحن، فرغم توحدنا اللغوي والتاريخي، ما زلنا نجزئ أدبنا كأننا جزر معزولة. الأدب العربي عند الأوروبيين، في غياب دراسات شاملة، يبدو مجرد فسيفساء مبعثرة، يسهل تجاهلها أو قراءتها قراءة مبتورة.
جوهر المسألة
لا يمكن فصل الأزمة عن سياقاتها السياسية والتاريخية. فالقطرية الأدبية هي الابن الشرعي للقطرية السياسية. الحدود التي رسمها الاستعمار لم تبق على الخرائط فقط، بل تسللت إلى عقولنا، وأصبحت جزءاً من وعينا النقدي.
لقد غرق النقاد العرب في التخصص المفرط: خبير في الأدب التونسي، وآخر في الرواية السعودية، وثالث في الشعر المغربي. ورغم أن التخصص له فوائده، إلا أن الإفراط فيه أدى إلى انسداد الرؤية الشاملة. فالموسوعية غابت، وحل محلها "التمحور حول الذات المحلية".
ماذا سنخسر؟
إن استمرار هذا الغياب يترتب عليه خسائر جسيمة:
1. خسارة البعد المقارن: الأدب لا يفهم إلا في سياق مقارن. غياب هذا البعد يجعل النقد ناقصاً، وكأننا نحكم على متسابق ركض في مضمار صغير بدلاً من ساحة كبرى.
2. غياب الحوار الداخلي: حين يكتب كل قطر عن أدبه فقط، يغيب التفاعل بين التجارب، فتسير الرواية في الخليج بمعزل عن مصر أو المغرب، مما يبطئ التطور ويضعف عملية الفرز النقدي.
3. تبديد المشترك: تضخيم الفروق الثانوية وإهمال الجوهر الواحد يجعل الأدب العربي يبدو أمام العالم مجموعة آداب محلية لا رابط بينها، بينما هو في حقيقته كيان حضاري متكامل.
الأفق الجديد
الخروج من هذا المأزق لا يتم بالندوات العابرة أو البيانات الشكلية، بل يتطلب مشروعاً حضارياً طويل الأمد. ثمة خطوات عملية يمكن البدء بها:
- بناء مشروع موسوعي: مشروع عربي ضخم لتأريخ الأدب الحديث بمشاركة باحثين من مختلف الأقطار، شبيه بالموسوعات الأوروبية.
- إصلاح المناهج الأكاديمية: فرض مساقات عن "الأدب العربي الحديث" بوصفه كلاً متكاملاً، وتشجيع الدراسات المقارنة.
- تفعيل المجلات المتخصصة: أن تخصص أقساماً ثابتة للظواهر الأدبية المشتركة عربياً، وتشجع على الدراسات العابرة للحدود.
- توظيف المناهج الحديثة: مثل نظرية الحقول (بورديو) أو المنظومات (إيفن زوهار)، لفهم الأدب العربي كحقل متفاعل تتقاطع فيه المراكز والأطراف.
المقاومة لاستعادة الوعي
إن السعي إلى كتابة تاريخ شامل للأدب العربي هو في جوهره فعل مقاومة: مقاومة للتجزئة، للتبعية، وللقبول بالوضع القائم كقدر محتوم. إنه إعلان بأن الثقافة العربية، بما تحمله من تنوع وغنى، قادرة على أن تكون جسراً يوحد حين تفشل السياسة.
النقد، حين يكون شاملاً، لا يلغي التعدد، بل يضعه في إطار واحد، كألوان لوحة فنية. وحده هذا النقد يستطيع أن يعيد إلينا وعينا الجمعي، ويمنحنا القدرة على مخاطبة العالم من موقع الندية، لا التبعية.
حين نتمكن من قراءة الأدب العربي ككيان واحد، بجذوره الراسخة في التراث، وساقه المتمثل في اللغة، وفروعه المثمرة الممتدة من المحيط إلى الخليج، سنكون قد استعدنا وعينا بأنفسنا. هذه ليست مهمة جيل مضى، بل مسئولية الحاضر. فالنقاد اليوم مطالبون بجرأة فكرية وموسوعية واسعة، كي يكتبوا القصة الكبرى: قصة أدب عربي حديث، يحلم ويقاوم ويصنع مستقبلاً مشتركاً.
سؤال حائر
في النهاية، يبقى السؤال: هل نستطيع أن نتجاوز القطرية النقدية لنرى الأدب العربي في كليته؟ الجواب رهن بإرادتنا الثقافية. فالوحدة التي عجزت عنها السياسة، تستطيع الثقافة أن تبدأ في صياغتها، لا كشعار بل كممارسة. واللحظة التي نجرؤ فيها على أن نرى الأدب كشجرة واحدة، جذورها ضاربة في عمق التاريخ، وأغصانها مثمرة فوق كل أرض عربية، ستكون لحظة ميلاد وعي جديد.
هذا هو التحدي الذي طرحه البازعي، وهو نداء للجيل الحالي: أن يتحمل المسئولية في بناء مشروع ثقافي عربي شامل، يضع الأدب العربي في مكانه الطبيعي بين آداب العالم الكبرى، لا كأصوات متفرقة، بل كجوقة واحدة، تغني بلغة واحدة، وتحلم بمستقبل مشترك.
***
د. عبد السلام فاروق