قضايا

تركي لحسن: العقل البطولي والتخلف

في المنظومات والبنى التقليدية يحتاج الناس دائما إلى الشخص القائد والملهم كما أكّد ماكس فيبر، بعكس المجتمعات الحديثة التي تُشكِّل فيها المؤسسات الهرم الفعلي للسلطة الذي يتجاوز الأشخاص مهما كانت مراتبهم ومكاناتهم في المجتمع. إن ما يُشكّل الفارق بين الأمم المتقدمة والغنية وبين المجتمعات المتخلفة والفقيرة هو المؤسسات الاقتصادية والسياسية الفاعلة والمستقلة، حسب رأي مؤلفا كتاب " لماذا تفشل الأمم"، دران أسيموجلو وجيمس روبنسون، حيث يؤكدان أن الدولة تنجو فقط من شبح الفقر عندما تمتلك مؤسسات اقتصادية فاعلة ويكون لديها نظام سياسي تعددي.

على غرار أولئك الذين يُرجعون أسباب التخلف والتقدم إلى الموقع الجغرافي، أو انعدام الثروات أو إلى البنى الثقافية، أو إلى الذهنيات كما حاجج لورانس هاريسون في كتابه " التخلف حالة ذهنية"، يكاد يتفق العديد من المفكرين وأهل السياسة على أن الدور الذي تلعبه المؤسسات الفاعلة والمستقلة في تقدم المجتمعات لا يكاد يخفى على عاقل متبّصر. ليس المقصود بالمؤسسات هنا الهياكل والبنايات، بل القوانين والمبادئ والقيم والأعراف الناظمة والحاكمة لمجال معين.

لماذا عجزنا عن بناء مثل هذه المؤسسات؟ لا أعتقد أن الإجابة ستكون بالسهولة التي يتمناها القارئ لهذا المقال، لكنني سأحاول أن أدلي بدلوي في هذا البئر العميق لعلي أجد ماءً أوري به ضمأ القارئ.

أنظمتنا العربية هي أنظمة شمولية غير تعددية، هذا لا مجال للجدال فيه، لماذا لم تفلح التعددية في بلداننا رغم عديد المحاولات؟ في اعتقادي، لأن العقل البطولي هو المسيطر في مجتمعاتنا العربية. نحن نتظاهر بالتعددية لكننا في الحقيقة لا نؤمن بالآخر ولا بإمكانياته وقدراته إلا إذا أحسسنا أنه سيكون لنا نصيب من هذا الاعتراف. أخفت ثوراتنا ضدّ المستعمِر خلافاتنا وصراعاتنا حول القيادة والزعامة، لكن سرعان ما كشفها الاستقلال الذي أدركنا من خلاله أن الاختلاف بيننا لا يُنتج التعددية بل يلغيها ويلغي من يتشبث بها.

العقل البطولي هو العقل التقليدي الخرافي الذي يمنح البطل قدرات خارقة تؤهله لمساعدة الضعفاء والمعوزين وعديمي الحيل. نحن مجتمعات تنتظر البطل المخلِّص الذي يقضي على الظلم وينتصر للعدل ويساعد المقهورين. بعدما انتهى عهد الأنبياء أختلقنا بطلا منتظَراً، ليس المهدي المنتظر سوى تعبير عن فشلنا وعن عدم قبولنا بتحمل مسؤولية تغيير أحوالنا وأوضاعنا، فهي ليست حتميات تاريخية بل صناعة بشرية. الغريب في الأمر أننا أصبحنا كلنا أبطالا، الكل يريد أن يتزعّم، التعددية بيننا كذب ونفاق، ذهنية البطل الذي سيُحدث التغيير ويحَّسن الأوضاع هي من تسيطر على مخيالنا الجمعي. نشارك في الانتخابات ونخوض غمار السباقات السياسية لكننا لا نؤمن بقدرات الآخرين المخالفين الذين بإمكانهم مساعدتنا وبإمكاننا الاستعانة بهم، لأننا لا نراهم كنظراء سياسيين بل كأعداء يجب التخلص منهم.

حققت المجتمعات الغربية ديمقراطية فعلية بمؤسسات فاعلة لأن شعوبها آمنت بأن بناء الدول والمجتمعات لا يقوى عليه فرد أو مجموعة من الأفراد، بل التشارك الذي يستدعي مساهمة الكل في البناء من العامل البسيط إلى أكبر مسؤول. أما مجتمعاتنا ففرّقت أحزابها الصراعات ومزّقت أفرادها نزاعات المصالح والامتيازات.

فكيف تحولنا من حال انتظار البطل والزعيم إلى حال أصبح فيها الكل ابطالاً وزعماء؟ تغيرت مجتمعاتنا من خلال التحديث لا من جراء الحداثة، تغيرت أشكال مجتمعاتنا لكن الجوهر بقي كما هو. كنا في السابق قبائل تتصارع فيما بينها من أجل البقاء على قيد الحياة، وكان الزعيم ضرورة تاريخية لأن المخيال الجمعي آن ذاك لم يكن يمتلك نموذجاً آخر. لكن بعد التحديث تعددت النماذج وتفتّحت الأبصار ولم يعد القائد والزعيم يستدعي كاريزما نادرة، بل أصبح في مقدور الكل، من خلال التعددية المزيفة والانتخابات المغشوشة، أن يتحول إلى قائد.

هكذا أصبحت الفرصة متاحة للجميع، فكل من أراد أن يصبح زعيما ما عليه إلا أن ينضم إلى حزب أو يدخل السباق منفردا ثم يلجأ للقبيلة للتبرك بأصواتها ليتحول إلى بطل يعيث في عهدته فسادا ظنا منه أنه المخلِّص المنتظَر.

لهذا السبب عجزنا عن إنشاء المؤسسات الفاعلة والمستقلة، وفشلنا في تحقيق التقدم لمجتمعاتنا، لأننا نتصرف بعقلية الأبطال الخارقين، لأن كل واحد منا يريد أن يكون متميزاً ويُلفت الأنظار، وأن يكون هو وحده المنقذ والمخلِّص. السياسة في عرفنا بطولة تُحّتِم على القائد أن يقوم بمناورات بطولية، كتلك التي خلّدت أبطالنا التاريخيين، يريد أن تهتف الجماهير باسمه، وأن تُعلق صوره في كل مكان.  البطولة الحقيقة هي القدرة على اشراك الكل، هي القدرة على استيعاب الخلافات، القدرة على جعل الجميع يسعى للمشاركة في البناء، القدرة على بعث الأمل في نفوس اليائسين من خلال احترامهم وتقديرهم ومنحهم الفرص لأبداء أراءهم. البطولة هي التخلي عن النظر للمخالفين كأعداء يجب التخلص منهم، البطولة هي القدرة على الانفتاح على الرأي المخالف وقبول النقد.

لا أنكر أن هذه الذهنية هي مرض يصيب العامة، إلا من رحم الله، فكلّ من ترأّس وحكم تحول إلى طاغية يسحق كل من يخالفه ويُلغي من لا يقتفي خطاه. تاريخنا مليء بهذه الأمثلة ولو حاولنا احصائها لأدركنا أننا لسنا سوى نسخ لأسلافنا، نعيد انتاج الماضي بحذافيره، ولا نقوى على تغيير ما بأنفسنا ليتغير حالنا وتتحسن أوضاعنا وتتقدم مجتمعاتنا. صور الماضي تسكننا ولا نقوى على الخلاص منها لأن التجديد في عرفنا بدعة وكل بدعة ضلالة...

عهد البطولات قد ولى، ونحن نعيش الآن عصر التشارك والتضامن والتكتلات. أُختتم عصر البطولات في الغرب بكوارث إنسانيه فضيعة خلّفها النازيون والفاشيون، إلا أن مجتمعاتنا لم تع الدرس جيداً فأظهرت للعالم صور التعددية والشعارات الديمقراطية، لكنها تمسكت في الحقيقة بالمنطق الشمولي التسلطي لأنها لم تتخل بعد عن العقل البطولي الذي ينتمي إلى أزمنة غابرة لازالت تحكمنا وتتحكم في مصائرنا. لازلنا إلى حدّ الساعة نتباكى على أبطالنا التاريخيين ونحتفي بأمجادهم، نروي قصصهم لأبنائنا وأحفادنا على أمل أن يتحول أحدهم إلى بطل كأسلافه.

لكن إلى متى سنبقى حبيسي هذا العقل، تقتلنا الفرقة وتسحقنا الصراعات ويخوننا الأمل في ظهور البطل المُخلص؟

نحن مجتمعات منغلقة عن نفسها نعامل الغير بكثير من المشاعر والانفعالات وقليل من المعرفة. نحن ميالون أكثر للحكم على الأشياء بدل فهمها.

***

د. تركي لحسن

في المثقف اليوم