قضايا

سجاد مصطفى: أم أنا من يكتب؟ أم أنني أُكتب؟

بحث في جدلية الكاتب والنص بين الفعل والانفعال

المقدمة: حين يشرع الكاتب في كتابة نصّه، يظنّ للوهلة الأولى أنّه الموجّه الأوحد، الممسك بخيوط الكلمة، والمسيطر على مسار الفكرة، غير أنّ هذا التصوّر يتصدّع عند مواجهة النص ذاته، إذ يجد الكاتب نفسه أمام سلطة تتجاوز إرادته، كأنّ الكلمات قد سبقت يده، والأفكار انفجرت قبل أن يتبناها. من هنا ينبثق السؤال الجوهري: هل أكتب النصوص أم أنّ النصوص تكتبني؟هذه الإشكالية ليست ترفًا جماليًا، بل تتصل بجذر الوعي الإنساني وعلاقته باللغة. فالكتابة ليست مجرد أداة للتعبير عن الفكر، بل هي فعل فلسفي وجودي يعيد تشكيل الذات. فاللغة ـ كما يرى هايدغر «بيت الوجود»، أي أنّها تسكننا قبل أن ننطق بها، وتسبق إدراكنا وتفكيرنا. بينما يرى رولان بارت أنّ «موت المؤلف» يحرّر النص من قبضة الكاتب ليصبح ملكًا للتأويلات.وفي هذا السياق، تصبح العلاقة بين الكاتب والنص جدلية معقدة، تتصارع فيها الفعل بالانفعال، الذات بالآخر، الوعي باللاوعي، لتكشف أنّ الكتابة تجربة حيّة تتجاوز السيطرة المطلقة.إنّ معالجة هذه الإشكالية تتطلب النظر في ثلاثة محاور رئيسة:

1. الكتابة كفعل إرادة ووعي.

2. النص كسلطة تتجاوز الكاتب.

3. جدلية الفعل والانفعال في لحظة الكتابة.

المحور الأول: الكتابة كفعل إرادة ووعي

1. التصور الكلاسيكي للكاتب

منذ فجر الحضارات، ارتبط فعل الكتابة بفكرة السيطرة والإبداع الفردي. فالكاتب في التصور الكلاسيكي هو سيّد النص، يملي إرادته على الحروف ويعبّر عن وعيه الذاتي، فلا يُنظر للنص ككيان مستقل، بل كمرآة للكاتب.وفي التراث العربي، نجد الجاحظ يقول في «البيان والتبيين»:«المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العربي والعجمي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء وصحة الطبع وجودة السبك»فالمعاني مشتركة، لكن مهارة الكاتب تمنحها وجودًا نصيًا.

2. الكتابة امتداد للوعي الذاتي

في الفلسفة الحديثة، نجد ديكارت يؤكد: «أنا أفكر إذن أنا موجود». فالكتابة، باعتبارها تجسيدًا للتفكير، تصبح برهانًا على الوعي الذاتي، والكاتب ليس ناقلًا سلبيًا للمعاني، بل خالقًا لها ضمن إرادته الحرة. النص إذن يصبح امتدادًا للذات، يحمل بصمة الفرد ويشهد على وجوده.الناقد د. علي جواد الطاهر يقول: «النص ظلّ لصاحبه، مهما ابتعد لا يتجرد منه». ويضيف الشاعر حسين مردان: «النص امتداد لجسدي، يخرج من عرقي ودمعي»؛ أي أنّ النص يحمل وجود الكاتب النفسي والمادي، ويتجذر في شخصيته.

في الفلسفة الشرقية، يرى كونفوشيوس: «إن لم تكن الكلمات مستقيمة، فلن تستقم الأعمال». وفي الصوفية، يقول الرومي: «الكلمة جسر بين الروح والروح، فمن لم يعبرها ظلّ غريبًا عن نفسه».  فالكتابة هنا فعل إصلاحي وأخلاقي، يربط بين الذات والكون.يتضح أنّ الكتابة هنا فعل إرادي واعٍ، يعكس سيطرة الكاتب على النص، ويجعل النص مرآة للذات الكاتبة، في علاقة خطية: الكاتب → النص. لكن هل تكفي هذه الصورة لفهم الحقيقة؟ أم أنّ النص يخرج عن السيطرة؟

المحور الثاني: النص كسلطة تتجاوز الكاتب

1. انفصال النص عن المؤلف

حين يُخلق النص، يبدأ في الاستقلال عن الكاتب. رولان بارت يقول: «النص لا يعود ملكًا للمؤلف حين يُخلق، بل يصبح حقلًا مفتوحًا للمعاني والتأويلات». النص إذن ليس مجرد صدى لذات واحدة، بل شبكة من العلاقات اللغوية والثقافية تتجاوز المؤلف.

2. اللغة كسكن للوجود

هايدغر يرى: «اللغة هي بيت الوجود». فاللغة ليست أداة في يد الكاتب، بل فضاء يقطنه الإنسان قبل أن يكتب. فالكاتب مهما ادّعى السيطرة، يبقى مسكونًا باللغة، يتبع قوانينها، ويعيش في مساراتها المرسومة.

وانا اضيف   «النص لا يكتفي بأن يُقرأ، بل يقرأ قارئه ويعيد تشكيله. هو مرآة غريبة تظهر لك ما لم تتوقع أن تراه في نفسك». النص هنا كيان حيّ، يؤثر في الكاتب والمتلقي على حد سواء.

4. النص في ضوء الفلسفة الشرقية

أبي حيّان التوحيدي يقول: «أنا أكتبني والكتابة تكتبني». وكذلك حكيم شرقي يقول: «حين أكتب، أشعر أن الكلمة ليست ابنة يدي، بل أمّها التي تلدني من جديد». النص إذن يمتلك سلطة على الوعي، والكاتب مجرد وسيط.النص كائن لغوي حيّ، يفرض مسارات جديدة على الكاتب، ويصبح مستقلًا عن نية المؤلف الأصلية. كما قال مفكر معاصر: «كل نص هو كائن يتمرّد على أبويه؛ يولد من رحم الكاتب، لكنه يهرب من بيته لحظة ولادته».

المحور الثالث: جدلية الفعل والانفعال في لحظة الكتابة

1. الكتابة كاشتباك مزدوج

لحظة الكتابة تمثل اشتباكًا مزدوجًا بين الفعل والانفعال. فالكاتب يظن أنه يوجّه الكلمات، والكلمات تجرّه إلى فضاءات لم يكن يتوقعها. كما قيل: «القلم يقود الكاتب بقدر ما يقوده الكاتب».

2. موقف الفلسفة الوجودية

سارتر: «الكاتب مسؤول عن العالم، لأنه يكشفه بالكلمات». ميرلوبونتي: «الجسد أداة التعبير، واللغة تجري عبر الكيان الجسدي للإنسان». فالكاتب ينفعل باللغة بقدر ما يفعل بها، ويصبح النص تجربة وجودية متكاملة.

شاعر عراقي: «النص يعيد تكويني في كل جملة، وكأنّي حين أكتبه أُكتب من جديد». وانا اضيف مره  آخر: «الكتابة ليست مرآة لوعي سابق، بل مختبر يولّد وعيًا جديدًا». النص يعيد تشكيل الكاتب ذاته.

4. الشواهد الشرقية

الرومي: «لستُ أنا من يكتب القصيدة، بل القصيدة هي التي تكتبني». وأبو العلاء المعرّي: «وأنا وإن كنت الأخير زمانه، لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل». اللغة تفتح طرقًا جديدة لم تكن متوقعة.

الكتابة لحظة جدلية بين الذات واللغة، الفعل والانفعال، الإرادة واللاوعي. فالكاتب يعتقد أنه يسيطر، والكلمات تنفلت وتعيد إنتاج نفسها.

الكتابة تجربة مزدوجة: الكاتب يكتب النص، والنص يكتبه؛ يشكّل اللغة، واللغة تشكّله، مما يجعلها فعلًا وجوديًا متكاملًا.

 في الختام أختام الكتابة والنص

بحثنا كشف أنّ الكتابة والنص جدلية حيّة، بين إرادة الكاتب وسيطرة النص، الفعل والانفعال، الاستقرار والتجدد. أولًا: الكتابة فعل إرادة ووعي، يعكس بصمة الكاتب في النص: «الكاتب يُظهر في النص جزءًا من روحه لا يراه إلا هو».

ثانيًا: النص يمتلك سلطة تفوق الكاتب: «القصيدة تكتبني أكثر مما أكتبها».

ثالثًا: لحظة الكتابة جدلية: الكاتب فاعل ومنفعل، والنص يعيد تشكيله.

رابعًا: النص فضاء للتجدد: كل قراءة تولّد معنى جديدًا، وتعيد تشكيل الكاتب: «النص يعيد تكوين الشاعر في كل مرة يُقرأ فيها».

الخلاصة الفلسفية: الكتابة ليست مجرد فعل إنتاجي، ولا النص مجرد أثر؛ إنهما تجربة متكاملة، جدلية، مستمرة، تُعيد تشكيل الذات واللغة والمعنى في كل لحظة من لحظات الوعي.

ولذلك يبقى السؤال مفتوحًا: هل أكتب النصوص أم أنّ النصوص تكتبني؟ سؤال عن الوعي، اللغة، الذات، وقدرة الإنسان على مواجهة المعنى في صيغته الحية.

وهكذا تتحقق الغاية الكبرى للبحث: فهم الكتابة كنظام جدلي حيّ، حيث الفعل والانفعال، السيطرة والانفلات، الوعي واللغة، كلها عناصر متشابكة تجعل النص والكاتب في حوار أبدي، وحيث كل كتابة هي ولادة جديدة للوعي والمعنى.

***

الكاتب سجاد مصطفى حمود

 

في المثقف اليوم