قضايا
عماد خالد رحمة: النقد بوصفه حبّاً للوطن

بين القراءة الاختزالية وفلسفة النقد البنَّاء
في عالمٍ متسارعٍ تتنازع فيه القراءات والتأويلات، يبرز سؤالٌ جوهريّ: إلى أيِّ مدى يمكننا قبول ممارسة النقد في بيئةٍ تُجرِّم التفكير الحرّ وتُسقِط كل قراءة جريئة تحت مسمّى "الخيانة" أو "التطاول"؟ إنّ القراءات الاختزالية والمتعسفة، التي تُبتر النصوص من سياقها وتُقوِّل أصحابها ما لم يقولوه، لا تمثل فقط خيانةً للمعرفة، بل هي جريمة في حقّ الحقيقة، لأنها تُوظَّف - عن قصد - لتبرير الأهداف الخبيثة، ولتشويه المقاصد النبيلة التي يتوخاها الفكر النقدي. وهنا يكمن الخطر الذي أشار إليه ميشيل فوكو حين قال: "السلطة لا تُمارس فقط من خلال المؤسسات، بل أيضاً من خلال إنتاج الخطابات التي تحاصر الحقيقة وتعيد تشكيلها وفق مصالحها."
إنّ هذه الآلية - أي تفريغ النصوص من عمقها وتحويلها إلى شظايا وظيفية تخدم السلطة أو الأيديولوجيا - هي ما يجعل المثقفين العرب متردّدين في تقديم قراءات نقدية جذرية تهدف إلى إعادة البناء والتقويم. فالنقد عندهم محفوفٌ بمخاطر التصيّد، والتأويل الخبيث، والتشهير. وهنا يمكن أن نفهم لماذا ظلّ "النقد والنقد الذاتي" مشروعاً مؤجَّلاً، لا يكتمل في فضائنا الثقافي العربي.
إنّ الخوف من القراءة المجتزأة هو في جوهره خوف من "اغتيال المعنى"، وهو ما يجعل العديد من المفكرين العرب يكتفون بالتماسّ مع القضايا الكبرى دون الخوض فيها بعمق. وقد حذّر بول ريكور من هذه النزعة حين تحدّث عن "سوء الفهم المُمَنهَج"، حيث تُختَزل المعاني في أكثر تأويلاتها تبسيطاً لتفقد قدرتها على إثارة التفكير النقدي.
ومع ذلك، فإنّ التجارب الفكرية العالمية تقدّم لنا نماذج ملهمة، فـهنري ميلر - أحد أكثر الكتّاب انتقاداً للسياسات الأمريكية - لم يكن صوتاً مناهضاً لوطنه، بل عاشقاً جريحاً له. وهذا ما أكّده مثقفون غربيون كثر حين أقرّوا بأنّ نقدهم هو تعبير عن فرط انتمائهم، لا عن نقمة أو خيانة. لقد جسّدوا ما أشار إليه الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس حين وصف النقد بأنه "شكل من أشكال المشاركة الفاعلة في الفضاء العمومي، ووسيلة للدفاع عن قيم المجتمع نفسه".
وإذا التفتنا إلى التجربة النقدية العربية، نجد أن إرهاصاتها الأولى ارتبطت بمحاولات التحديث والانفتاح على الفكر الغربي، كما فعل رفاعة الطهطاوي في القرن التاسع عشر حين كتب عن ضرورة نقل العلوم والأفكار من الغرب لا لتقليده، بل لإعادة بناء المجتمع العربي وفق قيم التقدم. كانت قراءاته جريئة في زمانها، ومع ذلك واجهت هجمات عنيفة من التيارات المحافظة التي اجتزأت نصوصه واتهمته بالعمالة الفكرية.
وفي القرن العشرين، ظهر مشروع محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي، وهو مشروع إصلاحي عميق يهدف إلى تفكيك البنى الفكرية الموروثة وإعادة بنائها. لكن حتى محمد عابد الجابري، الذي حمل همّ النهضة، وقع ضحية للتأويلات المغرضة التي حوّلت مشروعه الفكري إلى أداة لتصفية الحسابات الإيديولوجية، بدل أن يكون منطلقاً لحوار حضاري واسع. ويبدو أنّ هذا المصير يكاد يطارد كل من تجرأ على ممارسة النقد في فضائنا العربي، من طه حسين إلى عبد الله العروي، حيث حُوربت مشاريعهم باسم الدين أو القومية أو الوطنية، وكأن النقد لا يمكن أن يكون فعل حب للوطن.
هنا يصبح النقد البنَّاء أسمى أشكال الوطنية، لأنه لا ينطلق من رغبة في الهدم، بل من حرص على البناء وإكمال النقص، ومن إيمانٍ بأنّ الأوطان التي تُحصّن نفسها ضد النقد تُمهّد لانهيارها الذاتي. وبهذا المعنى، يغدو النقد ممارسةً وجودية تُعبّر عن "حبٍّ عميق للوطن" كما وصفه ميلر ومارسَه كبار المفكرين الغربيين.
إنّ ما نحتاجه اليوم هو أن نعيد تعريف النقد في وعينا الجمعي، لا كفعل عدائي، بل كصرخة حبّ، وكفعل تحرّر من سطوة القراءات الضيّقة التي تُقصي كل محاولة لإعادة التفكير في ثوابتنا الثقافية والسياسية. فالذين يخشون النقد لا يخافون الكلمة بحدّ ذاتها، بل يخافون انكشاف هشاشة بنيانهم.
النقد إذن ليس ترفاً فكريّاً، بل ضرورة حضارية؛ وبدونه لا يمكننا أن نواجه الجمود ولا أن نحلم بوطن "أفضل وأكثر كمالاً مما يمكن أن يتم هجاؤه". إنّه دعوة إلى الشجاعة الفكرية التي تحدّث عنها إيمانويل كانط في مقالته "ما التنوير؟"، حين رأى أن التقدّم يبدأ حين نجرؤ على استعمال عقولنا خارج الوصاية المفروضة علينا.
بهذا، يصبح النقد فعل انتماء بامتياز، ووسيلة لإنقاذ الخطاب من تحريفه وتوظيفه في مساراتٍ مغرضة. إنه صراع ضد القراءات التي تُراد لها أن تُميت المعنى بدل أن تُحييه، وهو، قبل كل شيء، إعلان حبّ للوطن في أبهى صوره.
***
بقلم: عماد خالد رحمة - برلين