قضايا

عصمت نصار: مقامة لسانية في المعنى والدلالة والحروب العصريّة

هب أني دعوتك عزيزي القارئ لنتسامر ونتحاور ليسهل علينا التواصل والاتفاق على ما دفعنا إليه البوح بآرائنا وأفصحت عنه كتاباتنا من الخلاف فيه وحوله، حتى تبيت مواضع الخصومة ميدان فسيح تتآلف فيه الآراء بعد نقدها وغربلتها وانتقاء الأصلح منها لمعالجة ما نعانيه من مشكلات الواقع وهل هناك أجمل وأروع من التساجل الذي يُفضي إلى الوفاق والأتلاف بعد الخلاف؟

ووسط السكون والهدوء الذي حاط بي قبيل الفجر أرجفني صوتًا يصيح إني أعترض ولا أوافقك ولا أرغب في قبول دعوتك، ثم قال أهدأ لا تنزعج فأنا الذي تحتضنه أناملك أنا قلمك، ألست أول قرائك؟ ولسانك ورسول وحي أفكارك؟ فأستمحيك أن تصغي إلى.

فقد عهدتني أمينًا في نصحي وماكرًا في نقداتي: أمّا إذا أبيت وعصيتني فليس أمامنا سوى الفراق فأذهب وقل ما شئت فجل الآذان لا يروق لها الإصغاء لحديثك الذي رغب عن إحيائه العارفون وسخر منه المحدثون وتندر به المتفككون والمتفقهون والمتفلسفون.

وأنت أيها الكاتب الذي استملحت عشرته فإليك أبوح بعلة رفضي لتلك الدعوة التي لا محل لها من الإعراب في مجتمع شاغل بالصراع والخصومة والاعراض فأقولها صراحة غير عابئ بكل العواقب فمدادي أملكه ونفاده فيه نفاذي وصريري لا أكره على إسكاته أو البوح بما لا أؤمن به ولست من المعتقدين بفقه الضرورة ولا حجة الجبرين فقد عهدتني حرًا لا ترهبني المصادرة ولا الممانعة.

وأرجوك أن تعزرني فأنا قلمك المهموم والمهتم ويعز عليا مخالفتك وحجتي في تبريري واعتراضي يبدو في بنية دعوتك تلك التي جاء فيها أن بغيتك هي المسامرة والمحاورة أفلا تعلم أن المسامرات والمحاورات في هذا العصر المتدني الرزيل فيه نوعان مغون ولغو مبتذل وتفكه متدني لا يحتمل والتحاور فيها أفك تستبيح الألسن فيه الخداع والتلاعب بالألفاظ التي يلوكها السوقة والرعاع والنادر منها عبارات مقعرة مهجورة دلالتها شأن الأشباه والنظائر والأشتات والشتات.

كما تزعم في دعوتك أن بغيتك التواصل والوصال والوفاق والاتفاق فأخبرني بربّك كيف يستقيم الحوار بين المخادعين ومنهم كذوب يلوح بالسياط في يدًا وفي الأخرى صندوق (بندورة) الشاغل بكل ألوان الشرور والشهوات والمفاتن، وآخر مداهن يحسن السكات خوانًا مرتعشًا يجود بكل شيء غير ممانع التفريط في محارمه ودينه ووطنه وما يستر عورته ويقسم بالشرف ونبل الأصل وأصالة النسب ويصف أبليس بأنه خير العباد وأصدق النساك العارفين، وفيهم الذي يزعم امتلاكه الصواب والحقيقة وهو الجهول الذى لا يعلم أن لليقين درجات وأن الحكمة التي لا تفضي إلى حكم يقبله العقل تعد نقمة لا يقبلها إلا الحمقة المثرثرون وتجار الكلمة والمطنطنون.

تلك هي دفوعي يا صديقي اللدود وخصمي الودود فأرجوك أن تكتب على الدعوة لا يلبيها إلا الغائبون الذين أخرسهم طول السكات.

أنا الكاتب: أجل يا رفيقي فأنا سميع بصير، وأعلم عن هذا العصر الكثير، فتئنى واصبر لأكشف لك العلة وأفضح أمامك بعض المخبئ والمسكوت عنه فالمعارف وما حاق بالملة وأوجز لك حقيقة الأمر وأكشف لك ما خفي تحت رماد الجمر: -

فما برحت مصطلحاتنا ومفاهيمنا العربية شاغلة بالخلط والمتداخلات في المعنى والدلالة الأمر الذي يثير العديد من المشكلات في التحاور والتساجل بين العوام والمتخصصين على حد سواء ومن ثم يتحول معه الالتباس إلى إشكاليات ولاسيما في قضايا العقيدة والسياسة بل في شئوننا العامة أيضًا وقد فطن اللغويون القدماء إلى تلك المفارقات التي تثير في الذهن الكثير من القضايا الخلافية لذا قد اجتهد جل المعنيين بدراسة المعاني والدلالات لمعالجة ذلك الخلل الذي لا يرجع إلى اللغة وتشابه حروفها الصوتية بل إلى مستخدمي الالفاظ والمصطلحات المتداخلة والمتشابهة دون تحقق أو تدقيق يمكنهم من استخدامها في السياق المناسب لمعناها ودلالاتها البيانية أو المجازية والامثلة على ذلك عديدة ومتباينة منها الخلط بين (الراكد والراكض والراقد، الأُح والمح، التأصيل والتأثيل، الكحل والكاحل، الجنوح والجموح، النكوث والنكوص، النفاد والنفاذ)

ومن أشهر اللغويين العرب الذين كان لهم السبق في معالجة هذا الخلل ووضعوا مؤلفات قيمة في هذا الباب "الخليل بن أحمد الفراهيدي (718: 790) صاحب معجم العين "   " أبو هلال العسكري (920: 1005) صاحب كتاب الفروق اللغوية " " أبو حيان التوحيدي (923: 1023) صاحب كتاب الامتاع والمؤانسة "   " أبو الفتح عثمان بن جني (934: 1002) صاحب كتاب الخصائص".

والغريب أن هذا العطب اللغوي الذي نعيشه الآن لم يلتفت إليه المثقفون قبل العوام؛ بل ذاع ذلك الخلط في كتابات المتخصصين شأن كراسات طلاب المدارس والجامعات وأصحاب الأقلام من الصحفيين وأحاديث المتحاورين في شتى قنوات التواصل في ثقافتنا المعاصرة. وما أكثر المصطلحات والكلمات التي طمست دلالتها وتبدلت معانيها وذاعت مفاهيم لها مغايرة تمامًا لمنابتها اللغويّة وأصولها المعرفية نذكر منها (عالمية الإسلام، والعولمة الدنيوية، والوحدة الإنسانية (والكوكبة)، العلمانية نسبة للعلم، والعَلمانية نسبة للعالم المادي اللاديني) ناهيك عن الخلط المتعمد بين المصطلحات مثل الأصول التي باتت مرادفًا للجمود والرجعية، وأضحى مفهوم الأصولية هو الجهل والتخلف والإرهاب والعنف والاستبداد والتسلط والفاشية، وأمسى مفهوم اليسار هو سوء النية وانعدام الحياء أخلاقيًا والمعادي للسلطة سياسيًا والمخالف للعادات والتقاليد اجتماعيًا.  وأضحى الناقض للثوابت والمبدد للقيم مجددًا ومستنيرًا، والفحش والعري والعبث مرادفات للحرية، وينعت المتعصب بالسلفية والمجترئ والمجدف على المقدس ناقضًا ومجتهدًا وما بعد حداثيًا.

ثم تعثر قلمي وراح يقاطعني من جديد: أيها الراوي الحصيف والحاكي الحريف أخبرني من فضلك عن علة ذلك العبث الذي جعل من ثقافة العصر لغوًا مطموس المعاني وباتت فيه النهوج الفلسفية سفسطة في غير المفهوم أو البهرجة التي ينفصل فيها الدال عن المدلول، وتقنع فيها الفاجر ولبس عباءة المكلوم.

وحدثني عن التكفير والإلحاد، وفساد الذمم ونحيب الضمائر الذي ذاع وساد، وغيبة زاد الوعاظ المتفقهين، وتزاحم المتعالمين وكثرة المدعيين، وضياع كتاب الأغاني وابتهالات المنشدين، وعلو مقام الكهنة والمشعوذين وأحاديثهم عن المنتظر وحروب الساسة ويوم الدين، وأشرح لي العلاقة بين تباين المعاني واختلاف الدلالات في المفاهيم والمصطلحات وعلاقة الأكاذيب والتدليس والتزييف والتحريف، والنكوث في العهود والخيانة في الوعود، وانقلاب القيم وتحريف الكلم وفلسفة الملابس، وهجرة طلاب العلم للمدارس، وهجر العباد للمساجد والكنائس، وأسلحة الجيل الثالث والرابع في حروب النظريات وبهرج المعتقدات والشرائع.

وعليك يا صديقي بإخلاص النية لنكمل المقامة؛ فللحديث بقية.

***

بقلم: د. عصمت نصار

 

في المثقف اليوم