قضايا
عدي البلداوي: نهاية الثقافة

هل يقدّم المثقف العربي أعماله اليوم من أجل تثقيف المجتمع أم من أجل إظهار ثقافته للمجتمع؟
هل ستضطر الثقافة العربية المعاصرة الى التخلي عن أهم مزاياها في شخصية المثقف العربي وهي التأمل والإبداع والنقد الذاتي؟
في عصر الآلات الذكية، هل نشهد ظهور ثقافة جديدة بين الإنسان والآلة؟
من سيؤثر في الأخر. الإنسان أم الآلة؟
يمكن القول ان المجتمع العربي على مدى عشرين عاماً منذ بداية القرن الواحد والعشرين يعاني من متلازمة نفسية إجتماعية ثقافية، حيث كثرة المشاكل والهموم المتشابهة على الرغم من اختلاف العادات والطباع والتقاليد في مجتمعات العالم العربي، فهناك اعراض لأنماط سلوكية غريبة آخذة بالإنتشار في الأوساط الإجتماعية، لا تجد من يعالجها رغم تشخيصها.
من اعراض المتلازمة الإجتماعية النفسية الثقافية، الشعور بالغربة داخل الأوطان، والرغية بالعزلة بوجود اجهزة التقنية المتطورة كالانترنت والموبايل، وحالات التنمر الإجتماعي، والتمرد السلوكي، والتمظهر الثقافي، وحب الظهور، والمراهقة المرافقة للنمو المعرفي والمكانة الإجتماعية والمواقع القيادية.
مهمة الثقافة العربية اليوم القيام بإعادة بناء أكبر عدد ممكن من صفحات التاريخ الثقافي للمجتمع العربي تؤهله لإقامة نظام قادر على مواكبة التطورات والتغيرات العالمية وتأثيراتها المحلية. لا تكمن المشكلة في وجود أو عدم وجود مثل هكذا مهمة أو مبادرة، فقد انبرى عدد من المفكرين والكتّاب والمثقفين العرب للبحث والعمل على تحقيقها. لكن المشكلة تكمن في السؤال عن موقع الثقافة العربية اليوم في دائرة الزمن. هل هي ضمن دائرة الزمن المعاصر؟ هل لديها من الوقت ما يكفي لإعادة بناء اكبر عدد ممكن من صفحات تاريخ الثقافة العربية؟
ربما لا يبدو ان الوقت يسمح لها بذلك، حتى إذا سمحت لها الإمكانات الذاتية والإمكانات الجمعية بالقيام بهذه المهمة.
مشكلة الثقافة العربية اليوم متعلقة بحال العقل العربي الذي لا يظهر انه عقل ديني في بحثه عن تطور العلم. ولا هو عقل لا ديني في بحثه عن تطور المجتمع. هو عقل انفعالي محكوم بأدوات تفكير دينية واجتماعية وتاريخية وسياسية، تهيمن عليه على وفق درجة فاعلية كل منها في التأثير.
مالم تتمكن الثقافة العربية من إعادة هيكلة تفكير العقل العربي المعاصر على وفق أسس موضوعية، انسانية، لن تشهد مجتمعاتنا تمكناً ثقافياً. ستبقى حياتنا عائمة على بحر من المفاجآت، كثيرها ضار، وقليلها سار، تعصف بها امواج التغيير جيئة وذهاباً، والناس فيها على حذر وقلق وترقب، لا يجدون في النفس متسعاً من هدوء لإعادة ترتيب الأفكار وتحديد المسار.
لذا فمن اولويات عمل مشروع الثقافة اليوم الإهتمام بالحالة الصحية لثقافة المجتمع في زمن تكثر فيه التفاهات والمتاهات، مثلما تكثر فيه المعلومات والبيانات.
لأن من شأن حيل التكنلوجيا ان تنشئ واقعاً لا يعرف ما اذا كان حقيقياً أم مزيفاً، هنا ستواجه الثقافة مشكلة لا
أظنها قادرة على معالجتها، خصوصاً ان الثقافة العامة للناس اخذت تتشكل على وفق معطيات رقمية، إذا وظفت فيها حيل التكنلوجيا نتج عنها ثقافة وهمية هدفها إخضاع المجتمع لمؤثرات مرحلية يحكمها نظام عالمي يعمل بمشاريع سياسية واقتصادية وثقافية بتقنية رقمية في فضاء افتراضي
يوفر بدائل سهلة ومقبولة لها تأثيرها في المشهد الإجتماعي الثقافي، مثل حضور الصورة بدلاً عن جهد الكتابة الذي يبذله المثقف في صياغة عبارة وكتابة مقالة وتأليف كتاب، فالتقنية تتيح تحويل الكلمات الى صورة، وترجمة الفكرة الى صورة. هنا سيتراجع حضور اللغة في حركة الثقافة، وستحل محلها خوارزميات ومعادلات رقمية توفر السرعة وتختزل كثيراً من الحبر والورق والكلمات. بهذه النتيجة سيكون مستقبل الثقافة العربية مهدداً بظهور ثقافة رقمية كشفت عن جانب منها بعض المنشورات والتعليقات لبعض متداولي مواقع التواصل الإجتماعي يمكن وصفها بتغيير طريقة التعبير اللغوي بواسطة الاستخدام التقني للحرف العربي، فلكي تعبر عن إعجابك تكتب ( روووووعة) أو ( رااااااائع ) بدلاً عن عبارة تصف ذلك الإعجاب. ولكي تظهر حجم انفعالك وتأثرك تكتب (أللللللللله أكبر). ولكي تظهر عاطفة قوية تجاه شخص ما تكتب (أحببببببببك) أو (أحبك حيييييييل) وهكذا..
ثقافتنا العربية اليوم أمام منعطف يبدو خطيراً، أفرزته وقائع الأحداث، يتعلق بمصير الثقافة بين التدريب النفسي والتدريب الذهني، ودخول التسارع الزمني على خط إدارة هذا التدريب أو ذاك، فالحالة التي يظهر عليها المجتمع انه مجتمع مثقف هي في الغالب حالة ناتجة عن تدريبه نفسياً على تقبل مظاهر سلوكية واعتبارات معينة بإكسسوارات مظهرية، ولعل ما ينتجه سلوك أفراد في مناسبات معينة مثل خسارة فريق امام آخر في لعبة كرة قدم من عراك واشتباك وتحطيم لزجاج السيارات وتخريب للطرقات وغيرها. يدلل على ان تلك الثقافة التي عليها اولئك الأشخاص هي حصيلة ذلك التدريب والتعويد النفسي، وليست حصيلة التدريب الذهني. هذا يعني ان المجتمع يضيّع من عمره كثيراً في اعتياد ثقافة التدريب النفسي على حساب ثقافة التدريب الذهني، لأن ثقافة التدريب الذهني تجعل من الشخص متحكماً بانفعالاته، قادراً على ايجاد مخرج لأزماته، لكن بسبب اختلال وظيفة التدريب في عملية التربية والتعليم، ودخول المجتمع في فترات من القلق والإضطراب النفسي والشد العصبي وانماط الحياة الروتينية الرتيبة لفترات تتراوح بين عقد وعقدين من السنين، ظهر في المجتمع اشخاص ناضجين جسمياً، لكنهم مراهقين عقلياً، كمراهقة المسنين، ومراهقة السياسيين، ومراهقة المتعلمين، ومراهقة المتدينين، فقد سجلت أحداث البلاد ظواهر غريبة ومزعجة، كانت محط إنتقاد المجتمع، ورفض الذوق العام. منها التدني الأخلاقي لسلوك أكاديمي داخل الحرم الجامعي، وغياب الحس المسؤول لموظف حكومي، وموت الضمير الإنساني والوطني لمسؤول سياسي، وسقوط المبادئ والقيم في سلوك معمم او معلم.
هنا تصبح الثقافة العربية المعاصرة أمام مسؤولية شاقة، وأمام دور خطير قد لا يكتب لها النجاح في أدائه في ظل استمرار أحوال العالم العربي على ما هي عليه اليوم من تراجع ملحوظ في فهم الصدق والعدل والحرية.
يحتاج مفهوم الصدق السياسي الى قوة اقتصادية كبيرة تحرك عقل السلطة بإتجاه إنتاج قرارات إصلاحية قوية. يهيمن النظام العالمي اليوم على مصدر قوة الإقتصاد العالمي ويحركها بعيداً عن طبيعة المجتمعات في حاجاتها الثقافية، لذلك نما في تفكير العقل السياسي مفهوم الخداع بمرور الوقت كي يتمكن من إدارة أوهام الجماهير، فبينما يغرق المجتمع في تفاصيل الحياة الجديدة، يلجأ العقل السياسي الى خداع الجماهير والكذب عليهم من أجل كسب مزيد من الوقت في السلطة، ومزيد من الأصوات في الإنتخابات. المشكلة التي تواجهها الثقافة العربية اليوم هي ان جيل المستقبل سيجد نفسه يتداول ثقافة قائمة على هذه المفاهيم المغلوطة والضارة والسيئة. وجود هذا النوع من التداول الثقافي يهيئ لأرضية يتم عليها تخريب المجتمع وهدّ بنائه الأخلاقي والقيمي، قبالة تشييد بنائه العمراني. من ذلك الزيف نجد ان كثيراً من بلدان العالم العربي اليوم توصف بأنها بلدان متمدنة، ديمقراطية، بينما تكشف الأحداث عن حجم التلاعب في صناديق الإقتراع، وحجم التلاعب في ميزانية الدولة، وحجم التلاعب في مقدرات الناس، هكذا يصبح الناس محكومين من سلطة تخدعهم، ويعلمون انها تخدعهم. بهذا الحال تكون الثقافة العربية المعاصرة في موقف محرج جداً، لأنه سيتعذر عليها تحديد أي جزء في بدن المجتمع هو القادر على كشف الحقيقة، وأي جزء في بدن الإنسان هو القادر على كشف الخداع، وأي جزء في تفكير الإنسان هو القادر على إجتياز هذه الإختبارات بنجاح لصالح الحقيقة والصدق.
يبدو ان الثقافة هي الأخرى قد تأثرت بالسوق الإستهلاكية وبروتين الحياة اليومية في غمرة الإنتاج والإستهلاك العالمي. إذ لم يعد من السهل دعوة الناس الى توظيف ثقافة موضوعية في حياتهم الإستهلاكية الروتينية، لأنه لم يعد مع الناس ما يكفيهم من وقت لتلبية هذه الدعوة، مع علم كثيرين ان التغيير السريع والتطور المذهل للتقنية سيفرض عليهم ان يتحولوا الى اشخاص مستهلكين (بفتح اللام) بعد ان يمضوا وقتاً من حياتهم كمستهلكين (بكسر اللام). هنا ستصبح الثقافة في ورطة كبيرة، فلا هي قادرة على التعاطي مع الواقع المادي الرقمي المجرد، ولا هي قادرة على تقديم بدائل آمنة تحفظ حاضر الناس وتضمن مستقبلهم. فلا العقل السياسي الجديد يدعمها في مشروع تمكين المجتمع ثقافياً، ولا العقل الديني الكلاسيكي.، ولا ثقافة المجتمع الشعبية، ولا ظروف الناس الإقتصادية. ولا أجندات المؤسسة الثقافية الرسمية.
***
د. عدي عدنان البلداوي