قضايا
حيدر شوكان: التهكم الشعبي والهيمنة الرمزية

السلطة التي تسمع سخرية الناس منها ولا تفهمها، تمشي نحو الهاوية المحتومة.
الانتماء الحزبي حين يصير شتيمة، تكون اللعبة السياسة قد لفظت معناها الأخلاقي.
الضحك المرير هو آخر لغة يملكها المقموع.
إليكم التفصيل.
من تراجيديا الوعي السياسي أن الأحزاب، ولا سيَّما الحاكمة - في البيئة العربية، رغم أنها تغرق في ضجيج السخرية اليومية، لا تلامس جذر الألم في هذا الضجيج. إنها تُصغي لا لتفهم، بل لتُقنع نفسها بأن ما يُقال عنها محضُ صدى جانبيّ للسلطة، لا نُذُرُ انهيار داخليّ وتصدع آخذٌ في التشكل. كأن السخرية ليست لغة المقموع، بل نشاز عابر في سيمفونية الاستقرار. إنهم لا يدركون أن الضحك المرير هو اللغة الأخرى للاحتجاج.
في تضاريس الوعي الجمعي، تحوّلت الشتيمة السياسية إلى مرآة مقلوبة للمشهد الحزبي. يُقال في الذم الشعبي العراقي لمن أُريد به الذمّ: "فلان بعثيّ". لا تُستخدم كلمة "بعثيّ" كوصف انتماء سياسي فقط، بل كـ"رمز سلبي" يحمل دلالات القمع، والاستبداد، والعنف، والفساد، المستمدة من تجربة حكم حزب البعث، وخاصة في عهد صدام حسين. إذن، الشتيمة هنا ليست عابرة، بل تُفعّل ذاكرة جمعية مملوءة بالخوف والخسارات.
فعندما يُقال "فلان بعثي"، لا يُطلق حكمًا فرديًا فقط، بل يُمارس شكلًا من أشكال الحذف الجمعي، بوصف الآخر جزءًا من الماضي الذي يجب ألا يعود. وهنا تتحوّل الشتيمة إلى أداة تطهير رمزي. أما اليوم، فإن اللعنات الجديدة تُصبّ على رؤوس من "ارتموا في أحضان الأحزاب"، بوصفهم رموزًا للانبطاح والخنوع. لقد استحال الانتماء السياسي من شارة هوية إلى وصمة عار، ومن موقف نضاليّ إلى رمز للانتهازية القميئة. لم تعد صفة "الحزبي" في المخيال العراقي تُشير إلى الالتزام، بل باتت علامة على التكسّب والانتهاز. بعد 2003، أمست الحزبية تُثير السخرية: "هو مدعوم من الحزب الفلاني"، وهي تُشير بذلك إلى التذلل والمدارة المرفوضة. هنا تظهر ما أسماه غرامشي بـ"انهيار الهيمنة الأخلاقية": حين تفقد السلطة قدرتها على الإقناع الأخلاقي، وتبقى ممسكة فقط بعصا القوة.
في شوارع العراق ووسائل تواصله الاجتماعي، لم تعد الثورة في الشارع، بل في النكتة، في المقطع الساخر، في الهمهمة التي تمر كجملة عابرة تقلب المعنى رأسًا على عقب. تمامًا كما يُشير بورديو إلى ان العنف الرمزي هو حين يُفرض القمع لا عبر الرصاص، بل عبر اللغة، عندما يُعاد إنتاج القهر بلسان الضحية نفسه، عبر ضحكته المريرة.
لكن هذه المفارقة الرمزية لا تخص العراق وحده. فالحالة المصرية بعد 2011 قدّمت نموذجًا موازيًا. إذ سرعان ما تحوّلت السخرية إلى سلاح جماعي يُشهر في وجه السلطة، سواء تمثلت في العسكري أو الإخواني أو الليبرالي. كانت تجربة "باسم يوسف" تجسيدًا للمثقف العضوي الغرامشي في بدايتها، قبل أن يُقصى الخطاب الساخر ويُخضع لمنطق الطاعة أو النفي. لقد تم تدجين السخرية، ونُزعت عنها إمكاناتها السياسية، لتصبح مجرد تنفيس في فضاء خاضع للرقابة.
وفي تونس، ورغم مناخ الحرية النسبي، لم تنجُ الأحزاب من التهكّم الشعبي الذي يُترجم فقدان الثقة في المشروع السياسي نفسه. باتت الانتماءات الحزبية تُلفظ بتهكم: "نهضاوي"، "حداثي"، "يساري"، لا كتوصيفات فكرية بل كأقنعة للمصالح والصفقات. حتى الانتخابات، التي كانت رمزًا للتمكين الشعبي، غدت موضوعًا للتندر: "كله تمثيلية". كأن السياسة تحوّلت إلى عرض ساخر، تفقد فيه الكلمات معناها الأصلي، وتصبح المشاركة فعلًا بلا طائل.
كل هذا يُشير إلى ما يمكن تسميته بـ"التهكم الجديد": تهكم لا يُحرّك الشارع، بل يُعيد تعريفه. إنه سلاح مزدوج: أداة ممانعة حين يُحافظ على بعده الواعي، وأداة تخدير حين يُبتلع في ماكينة الترفيه الجماهيري.
المفارقة أن كثيرًا من أولئك "المجاهدين العباد" السابقين، حين وصلوا السلطة، خسروا الكثير من رصيدها الرمزي، وباتوا يُشتمون كمن سبقهم. إن رأس المال الرمزي، كما يُسميه بورديو، لا يُشترى ولا يُفرض، بل يُبنى على الثقة، وهذه قد تآكلت حتى الذوبان. فالسياسي الذي لا يُصدّقه أحد، وإن ملك كرسيّه، فقد شرعيته الحقيقية.
وتظهر هنا ملامح "المثقف العضوي" كما صاغه غرامشي، لا في صالات المؤتمرات، بل في الشباب الذين يصنعون من فيديو ساخر سيفًا، ومن كلمة نابية مقلاعًا رمزيًا ضد الأصنام السياسية. هؤلاء، الذين يتهكّمون، لا يسلّون أنفسهم، بل يؤدّون دورًا سياسيًا لا شعوريًا: يسحبون البساط من تحت أقدام الشرعية الزائفة.
الأنظمة تُخدّر ذاتها بوهمٍ مستقر: أن الصمت الشعبي دليل طاعة، وأن سكون الشوارع علامة رضا. غير أنّها تغفل عن أن أعمق أشكال الرفض لا تُدوّي في الساحات، بل تتسلل في التهكّم الخفي، في تعابير الوجه، في الضحكة المكبوتة. التمرّد الجديد لا يطرق الأبواب، بل يسكن الأرواح. وفي هذا السياق الملتبس، نستعيد صوت محمد مهدي الجواهري، لا كذكرى شعرية بل كأداة نقدٍ وجوديّ، إذ قال مخاطبًا هاشم الوتري وساخطًا على نوري السعيد:
كذبوا، فملء فمِ الزمان قصائدي
أبداً تجوبُ مشارقًا ومغاربا
*
أنا حتفُهم، أُلْجُ البيوتَ عليهم
أغري الوليدَ بشتمهم والحاجبا
هكذا تتحوّل القصيدة إلى فعل مقاومة يتسلل إلى البيوت، والضحكة إلى لغم ثقافي، والسخرية إلى "نقد مسلح" لا تملكه الأحزاب، بل تصنعه الأرواح الجريحة.
***
د. حيدر شوكان سعيد
جامعة بابل/ قسم الفقه وأصوله.