قضايا
وسام حسين العبيدي: بحوث التخرُّج بين الواقع والطموح

كتبت إحدى طالباتي في الكلية التي أنتظم فيها، منشورا على صفحتها الافتراضية، على تطبيق "الفيسبوك" تُبدي فيه مشاعر الفرح بإكمالها شوطها العلمي بنجاح، وتشكرُ مشرفها على البحث، فمباركٌ لها ما أنجزته من بحث أحَسّتْ فيه أنّها حقّقت ذاتها، بما بذلته من جهدٍ يُحسَب لها في هذه المرحلة، في ظلِّ تخبُّط الكثير الكثير من زُملائها، بين مكاتبٍ استغلّ أصحابُها جهل الطلبة، فراحوا يجلدونهم جلدًا بالأموال التي يُرهقون بها كاهل أولياء أمورهم، فضلا عما في عملهم "الطباعي" من أخطاء، ولقد أخبرتني إحدى طالباتي وهي قد التقت بأحدهم، بعد سؤاله عن بحثها وعن مشرفها، فقال لها بعد أن عرفني مشرفًا: إن مشرفكم يضع لكم عنوانات بحوث صعبة لا نستطيع الخوض فيها، نعم وهذا ما أبتغيه: أنْ أضيّع الفرصة على هؤلاء الذين يستغلون ضعف الطلبة العلمي، بكتابتهم البحوث لهم، وهم في الحقيقة لا يكتبونها، بل يسطون على بحوث منشورة هنا على مواقع الانترنت، ويأخذون من هذا ومن ذاك، وكأن البحث لديهم "خلطة عطّار".. !! وفي الوقت نفسه أبتغي من وضع عنوانات البحوث أن أُحرِجَ الطالبَ بتعلم خطوات الكتابة المنهجية للبحث، وذلك من خلال اختياري متنا من المتون الشعرية الجديدة التي من الطبيعي أن تكون الدراسات النقدية عنها قليلة جدا، كذلك من عادتي اختيار أسماء لأدباء من محافظتي بابل، لأجل أن يعرف الطالب - على أقل تقدير - أن فلانا وفلانا وفلانا من محافظته التي يقطنها، وبالنتيجة سيتم الترويج لهؤلاء الأدباء المحترمين، من خلال هؤلاء الطلبة، وهو ما أُسمّيه بـ"الترويج الناعم" إذ من واجب الأستاذ الأكاديمي الذي يحب اختصاصه، أن يِمرّرَ ذلك الولع أو الشغف المعرفي أو الثقافي، لطلبته ومُريديه، عبر أدوات ذكيّة، تنفع الطالب في الدرجة الأساس، وتؤهِّلُهُ لمرحلةٍ علميّةٍ أعلى وأعمق، في الوقت نفسه يساهم في التعريف بأدباء بلدته، وقد تكون تلك بدايةً لذلك الطالب في محاولة أن يكون أحدهم، وقد لا أخفي عليكم - سادتي - مشاعر الغبطة على وجه أحد طلبتي حين التقى بأحد الأدباء الذين كلّفتُه بدراسة منجزه الشعري، كان هذا الطالب لاول مرة في حياته يلتقي بأديب ويحاوره، ويسمع منه، ويقوم ذلك الأديب بإهدائه نسخةً من مجموعته الشعرية.. كل هذا يعمل في وعي هذا الطالب ولاوعيه على إشعاره بالاهتمام والاحترام، وبيان أن من يكتب عنه حيٌّ يُرزق، وهذا لعمري حقٌّ من أبسط حقوق أدبائنا علينا، حين نُشعِرهم بالاهتمام "العلمي"، و "الثقافي" في حياتهم، وأن نصوصهم مدار حديث أساتيذ الجامعة، وهي بمعرض الاهتمام البحثي لدى طلبتهم، وهذا لا يعني بحال، أن الدراسة ينبغي أن تكون تربيتًا على أكتاف هذا الأديب أو ذاك، هذا ما لا علاقة له بمنطق البحث العلمي في الدراسات النقدية؛ لأن البحث لا بد أن تتوفر فيه شروطه الناجزة، وأهمّها: الموضوعية، بمعنى أن يكون الباحثُ محايدًا لا يلوي عنق النصوص لتماشي أهواء فلان من الأدباء، أو تغض النظر عن الهفوات الفنية التي وقع فيها ذلك الأديب، إذ للعلم قولتُهُ التي لا يحيدُ عنها.. ومعنى ذلك أن مثل هكذا بحوث لا يعني أنها تُزكّي أصحابها من الأدباء، وتجعلهم ملائكةً فوق مستوى البشر، أو تُسوّغ لهم ما هو مرفوض من أفعال، فهذا شيء وذلك شيءٌ آخر، وعلينا أن نفصل - إن كنّا ندّعي الموضوعية - بين البحث العلمي عن منجز شخصية من الشخصيات العلمية أو الأدبية أو الفكرية.. الخ من توجهات، وبين ما يتوصل إليه الباحث من نتائج من خلال تطبيقه الصحيح - لا العشوائي - لأدوات البحث.. وإلا تنسلخ العملية التعليمية والبحثية من مضمونها، وتنحدرُ أيّما انحدار في ظل هذا التخادم المصلحي الذي نجد بعضا من آثاره في بعض الأوساط الأدبية التي تقوم باستكتاب فلان وفلان من النقّاد، عن منجز أو ظاهرة فنية، في مؤتمرٍ تُبذل من أجله الأموال، وقد لا يتوفر في كثيرٍ من هذه الدراسات شرط "الموضوعية" بقدر ما يتوفر فيها شرط "المُجاملة" و "التربيت على الأكتاف" ليس إلا.. ! أو بعضهم يستعرض ما كُتِبَ عن منجزه الأدبي حين تأتي الانتخابات، من مقالات أو دراسات، وكأنّه يريد أنْ يوصل فكرة عبر هذا الخطاب الاستعراضي، أنّه شخصٌ مهِمٌ وله ثِقلُهُ الإبداعي الذي يؤهِّله لكسب ثقة الآخرين من أدباء، فلا بد من انتخابه..!!
المفرح في الأمر، أني بعد يوم من إكمال مناقشة هذا الطالبة، طلبتْ منّي طالباتٌ لي في المرحلة الثالثة، أنْ أكونَ مشرفًا عليهنَّ في المرحلة الرابعة، حقيقةً كم أفرحني هذا الطلب، بالقدر نفسه كم أشعَرَني بالمسؤولية إزاء جيل من الشباب يريد أنْ يرتقي بمستواه العلمي والفكري، ويسمع ممّن قبله من الطلبة عمّا كنتُ عليه من حرصٍ ومتابعة لطلبتي قد تُزعِج بعضهم، لاسيّما ممن لم يكون اختيارهم الشخصي في أن أكون مشرفًا عليهم، ولكن بعضهم يرغب بأنْ يأتي بجهدٍ يُحمَد عليه ويُحقِّق فيه ذاته، ويجعله مثار استحسان أساتيذهم، هؤلاء حقًّا، أرى فيهم البذرة الصالحة للتغيير للأفضل، ممّن لا يرضون أنْ يبقوا على ما هم عليه من مستوىً علمي، بل يطمحون لتحقيق الأفضل، وحين يبحثون عن من يشدّ على أياديهم، ويدفعهم بالاتجاه الصحيح، وإنْ كان ذلك مُرهقًا لهم.
أقول: هذه الثلة من المجتمع، لو يكثر سوادُها لما وجدنا من ينتخب الفاسدَ المفسِدَ في كل انتخابات، وكأنّهم لا يرون إخفاقاتهم المُريعة في كل دورة انتخابية، وكأنّهم لا يتضرّرون بسوء إدراتهم الفاشلة، وهم لولا من ينتخبهم لما كان لهم أنْ يفوزوا دورةً بعد أخرى، ولكان لنا الخلاص باندحارهم من المشهد السياسي إلى الأبد، بفضل وعي الناخب الذي يبحث عن من يُحقِّق له الأفضل في كل مرفق من مرافق الحياة، وأنْ لا يثرى على حساب مصلحة المواطن، ولا يقبل بمن يتهاون معه في واجبه؛ لكون ذلك التهاون يتماشى ومصلحته الشخصية، أو يغضّ عن مخالفاته، فالطالب الجيّد الذي يبحثُ عن أستاذٍ يرى فيه الحرصَ والمسؤولية، مستقبلا لن يُقبِلَ على انتخابِ مُرشّحٍ لأنه فقط من أبناء جلدته، أو من منطقته، أو من مذهبه، أو من قوميّته، أو يتساهل معه في أمورٍ غير قانونية، مثلما شاهدنا بعض النوّاب وهم يُدافعون عن مطالب فيها من الترهّل والتماهل والغضّ من المستوى العلمي الشيء الكثير، مثل مطالبهم بالدور الثالث للصفوف المنتهية أو لغيرهم من المراحل الدراسية. أو غيرها من مطالب تعبّر عن تهاونٍ كبير بالجانب العلمي؛ لأجل أنْ يكسبوا أصوات هؤلاء. فمنطق "الغنيمة" هو السائد عند هؤلاء المُرشّحين، وكيف لا تكون الغنيمةُ منطقهم، وأحدُ دعاياتهم الانتخابية تبدأ بقول عريف الحفل:
إذا هَبَّتْ رِياحُكَ فاغتَنِمْها ... فعُقبى كُلِّ خافِقةٍ سُكونُ
***
د. وسام حسين العبيدي