قضايا
سجاد مصطفى: بين التمرد والانصياع.. قراءة نقدية لفكر السلطة والمعرفة لدى فوكو

تعد نظرية ميشيل فوكو من أبرز النظريات التي تناولت العلاقة المعقدة بين السلطة والمعرفة في العصر الحديث. فالسلطة في فكر فوكو ليست مجرد مؤسسة أو هيكل سياسي فوقي، بل هي مجموعة من العمليات والعلاقات التي تخترق جميع جوانب الحياة الاجتماعية. هذه العلاقة بين السلطة والمعرفة تكشف عن الطبيعة الشمولية التي يمكن أن تتخذها السلطة في العصر الحديث، حيث تنتقل من البنى السياسية التقليدية إلى التأثير على الأفراد في أبسط أفعالهم اليومية. وعلى الرغم من أن فوكو قدم تحليلًا عميقًا وواسعًا لهذه الديناميكية، فإنه من المهم أن نتساءل عن حدود هذا التحليل وتداعياته على الأفراد في المجتمعات المعاصرة.
في المراقبة والمعاقبة (1975)، يقدم فوكو تصورًا جديدًا للسلطة يتجاوز الفهم التقليدي لها. في هذه الدراسة الشهيرة، يرى فوكو أن السلطة ليست مجرد قمع أو هيمنة فاعلة من قبل الأفراد أو المؤسسات العليا، بل هي نظام معقد من العلاقات يتخلل كل جزء من أجزاء المجتمع. في هذا السياق، يشير فوكو إلى:
السلطة ليست شيئًا يُؤخذ أو يُحتفظ به، بل هي شيء يُمارس ضمن شبكة من العلاقات [1، ص: 92].
هذه المقولة تكشف عن عمق فكر فوكو، الذي يعتقد أن السلطة ليست مرتبطة بأفراد أو هيئات معينة، بل هي متغلغلة في العلاقات الاجتماعية اليومية، تبدأ من المدرسة والمستشفى، وتصل إلى البيت والمجتمع بشكل عام. والسلطة، بحسب فوكو، ليست مقتصرة على الرقابة المباشرة، بل تسيطر على الأفراد من خلال أنظمة المعرفة التي تُنتجها المؤسسات الاجتماعية المختلفة.
إحدى الإسهامات الكبرى لفوكو في هذا السياق هي فكرته عن المراقبة الذاتية أو التأديب الذاتي. ففي المجتمعات الحديثة، لم تعد السلطة بحاجة إلى أدوات القمع المباشر كما في الأنظمة الاستبدادية القديمة، بل أصبح الأفراد يراقبون أنفسهم ويتبعون القواعد التي تفرضها الأنظمة الاجتماعية من خلال التنشئة الاجتماعية والتعليم. هذا الشكل الجديد من السلطة لا يتطلب تدخلًا مباشرًا من الأفراد المسيطرين، بل يتم تنفيذه عن طريق تطبيع الأفراد لأنفسهم، مما يجعلهم جزءًا من النظام الاجتماعي بشكل طوعي، وإن كان ذلك دون وعي.
وفي هذا الصدد، يشير فوكو إلى أن السلطة لا تقتصر على الهيمنة الجسدية المباشرة، بل تمتد إلى تنظيم الحياة اليومية والتفاصيل الصغيرة فيها. في المراقبة والمعاقبة، يتحدث فوكو عن كيفية استخدام المؤسسات الحديثة مثل المدارس والمستشفيات والسجون لتنظيم الأفراد وتوجيههم نحو سلوكيات متوافقة مع الأنظمة الاجتماعية. يقول فوكو:
السجن يسكن في المدرسة، في المستشفى، في البيت [2، ص: 101].
السلطة هنا ليست قوة قمعية تفرض نفسها على الأفراد من الخارج، بل هي قوة تأديبية تُملى على الأفراد من الداخل، بحيث يصبح كل فرد جزءًا من شبكة من الرقابة التي تضمن تماشيه مع الأيديولوجيات السائدة. ولكن هنا تبرز نقطة مهمة، وهي هل يمكن للإنسان في هذا السياق أن يحقق تحررًا حقيقيًا من السلطة؟ وهل النقد الفوكوي للسلطة سيؤدي إلى إيجاد نقطة انطلاق للتحرر، أم أنه يعيد إنتاج السلطة بشكل جديد؟
إحدى النقاط التي يجب أن نأخذها في الاعتبار في هذا السياق هي فكرة فوكو عن المعارضة. بينما كان فوكو يطرح تحليلات نقدية عميقة حول السلطة، فإنه في الواقع لا يقدم أي بدائل ملموسة للتحرر من هذه السلطة. بل على العكس، نجد أن فكرته حول السلطة كما هي في الكلمات والأشياء (1966) تشير إلى أن الإنسان نفسه ليس سوى تمثيل للخطابات الثقافية والتاريخية التي تتشكل داخل المجتمع. في هذا الكتاب، يُصرح فوكو:
الإنسان اختراع حديث، وربما على وشك الزوال [3، ص: 387].
هذه الفكرة تؤكد على أن الإنسان، في نظر فوكو، ليس كائنًا ثابتًا أو ثابت الوجود، بل هو نتاج لخطابات وأيديولوجيات معينة. يزعم فوكو أن الإنسان ما هو إلا ثمرة هذه الخطابات التي تُنتجها الأنظمة الاجتماعية المختلفة، مما يجعل كل فرد مجرد انعكاس للسلطة. وبالتالي، من المستحيل على الأفراد الهروب من هذه السلطة لأنها متغلغلة في تفكيرهم وسلوكهم، بل وفي هويتهم.
إذن، إذا كانت السلطة تتحكم في الإنسان إلى هذا الحد، فإن السؤال الذي يطرحه العديد من المفكرين هو: كيف يمكن للإنسان أن يناضل ضد هذه الشبكة المعقدة من السلطة والمعرفة؟ هل يمكن أن توجد مقاومة حقيقية ضد سلطة أصبحت متأصلة في الحياة اليومية؟ ما يقدمه فوكو هنا هو مفارقة: فهو يدعي أن السلطة مستمرة في إعادة إنتاج نفسها بطريقة أكثر تعقيدًا، مما يجعل أي نوع من المقاومة يُخضع في النهاية للسلطة نفسها. وإذا كانت المعرفة التي ننتجها في المجتمعات الحديثة مشروطة بالسلطة، كيف يمكننا التوصل إلى معرفة حقيقية أو تحرير فكر الإنسان؟
وفي هذا الإطار، أقول: في عالم ملأته الشبكات والأيديولوجيات، يبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن للإنسان أن يتحرر فعلاً، أم أننا نعيش في دوامة من الحرية الوهمية التي نصنعها لأنفسنا؟ إن فوكو، رغم تحليلاته العميقة والمركّبة للسلطة، لا يقدّم بديلاً جذريًا للتحرر. بل يمكن القول إن نقده للسلطة يعيد تشكيل هذه السلطة في أشكال أكثر دقة، لتصبح أكثر صعوبة في المقاومة أو الفهم.
***
الكاتب: سجاد مصطفى حمود
.....................
الهوامش والمراجع:
[1] ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة، ترجمة: فوزي كمال، دار الجمل، ط1، 2004، ص: 92
[2] ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة، ترجمة: فوزي كمال، دار الجمل، ط1، 2004، ص: 101
[3] ميشيل فوكو، الكلمات والأشياء، ترجمة: سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، ط2، 2010، ص: 387