قضايا
عصمت نصار: من أين نبدأ؟

سؤال يصعب علينا تجاوزه واجتيازه
بمنأى عن المشاعر المضطربة والمواقف المتباينة حيال عنوان هذا المقال أو عتبة ذلك الخطاب (من أين نبدأ؟)، فلهذا الخطاب قصة وحكاية؛ فمنذ قرابة ثلاثة أشهر دعاني د. خالد كموني، وصحبة من أعضاء وحدة الدراسات الفلسفية والتأويلية، لنتشاور سويًّا حول الندوات المزمع عقدها خلال العام الحالي 2025م، ومناقشة موضوعاتها المقترحة، وعناوينها، ومدى أصالتها، وانتمائها لرسالة المعهد العالمي لتجديد الفكر العربي، ووجهة منبره الجامع بين التجديد والتنوير والتأويل، وإحياء الفلسفة التطبيقية المعنية بتثقيف الرأي العام، وتوعية شبابه، وتأهيلهم لحمل رأيه الإصلاحي.
ومن ثم قام الحضور بتقديم مقترحاتهم، وقمت بدوري بطرح هذا العنوان للندوة التي سوف أتحدث فيها مخاطبًا قادة الرأي من المعنيين بالمعارف الفلسفية، والمحبين للمحاورات العقلية.
وكشفت عن علّة اختياري لهذا العنوان؛ فهو إحياء لسنة رواد الفكر العربي الحديث الذين انتهجوا (فلسفة السؤال) كلما أرادوا اتخاذ قرار في مسألة، أو انتخاب حل لقضية، أو ابتداع أحد الأساليب أو العادات من ثقافة الأغيار وتطويعها وإدراجها في مشروع نهضتهم، التي عكفوا على وضع برامجها وآلياتها منذ أُخريات القرن الثامن عشر.
أجل، كان رواد النهضة يتحاورون ويتثقفون ويتواصلون على صفحات الدوريات، وفي المنتديات، وعلى المقاهي، شأن فلاسفة التنوير في أوروبا.
وكان السؤال الفلسفي هو ملهِمهم، والمحرض الفعّال لتفلسفهم وتلاقح أفكارهم، حيث توليد الأفكار، وانتخاب النافع من الرؤى، والطريف من التصورات.
نعم، أتساءل، فالخطب جلل، والخطاب مرّ، والجواب يحتاج إلى حكمة العقل الجمعي، الذي يُجيّش الجهود، ويوحد المواقف، ويحسم الأمر.
ولمّا كان التأويل هو مطلب محب الفلسفة، فأستميحك، عزيزي القارئ، في ممارسة رياضية تفكيكية لهذا العنوان (من أين نبدأ؟) لتفسير وتفكيك وقراءة ونقد دلالته، ومفهومه، ومعناه، ومقصده، وغايته، والمستور في جوفه، والمُلغز في مرماه.
علّنا ننتقل من التفكيك إلى البناء، لنزود عن مشخصاتنا وثوابتنا وهويتنا التي انتهكها الأغراب وأذيالهم من المضللين والمنتفعين.
والآن، أدعوكم إلى قراءة القراءة، ونقد النقد.. من أين نبدأ؟!
هل السؤال عن بداية المسير؟ أم القصد هو الرهبة والخوف من المبادرة، والتردد، والعجز، واستمراء الركود؟ أم تراه وصفًا للشتات، وتعبيرًا عن استمراء القعود، والركود، واختلاف الرؤى، وتوقّع سوء المصير؟
تُرانا نتساءل لنفصح عن قلة حيلتنا؟ أم نأسف على عِظَم مصيبتنا؟ فاستحال السؤال إلى صرخة من فرط الألم، وحسرة النفس، ووجع البدن؟ أم تحسبه دعاءً باكيًا للتعجيل بحضور المهدِي المنتظر؟ أم توسلاً للإله المعبود المقتدر؟ أم هو استسلام لما كُتب علينا من قدر؟ مردّدين مع المعري: (مشيناها خُطًى كُتبت علينا؛ ومن كُتبت عليه خُطًى مشاها).
وإذا سلَّمنا بأننا نطلب الدليل والمرشد النبيل، فمن عساه يكون؟ أصادق أمين؟ أم كذوب لعين؟ أم خائن مكين؟
نعم، فالخطب جسيم، والخطر سقيم، فليس من السؤال فكاك.
وإذا ما انتقلنا من تلك الرياضة الذهنية إلى الحديث عن الموضوع الرئيس الذي يشكّل جوهر المحاضرة، ويشغل موضع المركز من هذه المأدبة الفلسفية، سوف نجده ينقسم إلى خمسة محاور رئيسة، هي:
1- من السؤال الفلسفي إلى فلسفة السؤال:
تباينت كتابات المعنيين بتاريخ الفلسفة حول أصالة السؤال الفلسفي، والمكانة التي يشغلها في مركزيّة (ما نطلق عليه بنية التفلسف)، فذهب بعضهم إلى أن السؤال الفلسفي هو وليد التأمل، الذي حرّض الفلاسفة على التفكير في الإجابة المقترحة التي يثيرها العقل خلال رحلة تأمله، وعليه فالسؤال الفلسفي هو الذي أنتج الفلسفة وصنع الحكمة أو استلهمها من قوة مجهولة.
في حين نزع الفريق الثاني إلى أن (حوار الأنا مع الذات) هو الذي ولّد السؤال الفلسفي، ومن ثم تتقدّم المسحة الفلسفية على السؤال الفلسفي؛ فليس كل سؤال يقود العقل إلى التفلسف، والعكس غير صحيح، فالتفلسف هو الذي يشكّل بنية الدهشة في صورة السؤال (ماذا، ما، لماذا، كيف، أين؟) بصيغ متعددة، تراه في صورة استفهامية أو ساخرة أو استنكارية، محرضة على التفكير، أو معبرة عن إشكالية لم يُفلح العقل في الإجابة عنها، أو متهكمة ساخرة من الواقع المعيش، أم تحسبها صيغة رمزية معطاة، تحوي في جوفها عشرات الإحالات الإشارية والدلالية المسكوت عنها.
2- من الحكمة الفلسفية إلى فلسفة الحوار وتأسيس المنهج وابتداع النظريات:
لما كان السؤال لا يستقيم إلا بردّ منطقي يحمل بين طياته الحجة والبرهان، بات الحوار الفلسفي بدرجاته المختلفة (التحاور، الجدل، الت….
3- مكانة السؤال الفلسفي في الفلسفة التطبيقية الإسلامية:
إذا ما سلَّمنا بموضوعية الفكر الفلسفي العربي الإسلامي وميله للنزعة العملية التطبيقية، فسوف نجد لفلسفة السؤال من جهة، والسؤال الفلسفي من جهة أخرى، مكانة لا يمكن إنكارها في جُلّ المباحث العقلية الإسلامية، بداية من التساؤلات: (ما المعنى؟ وماذا عن الدلالة؟ ناهيك عن صيغ السؤال، وأساليب الإجابات التي تحوي بدورها إحالات إشارية للتهكم والنقد والتحريض على التفكير والتأمل). ويبدو ذلك في كتابات الشعراء، وأقاويل سجع الكُهّان، ثم فلاسفة اللغة الذين حاكوا المناطقة في كتاباتهم، مثل: المتنبي، وأبي تمام الطائي، وكتّاب المعاجم العربية، ومُصنِّفي المؤلفات البيانية (المعنية بالمعنى والدلالة والمفهوم والمصداق والغرض)، ومنهم "أبو هلال العسكري".
(وللحديث بقيّة)
***
بقلم: د. عصمت نصار