قضايا

حبيب مرگة: الوعي والرغبة عند دولوز وغواتاري

التأثيرات الاجتماعية والنفسية على الفرد والمجتمع

لم تكن مسألة الأمان أبداً مرتبطة بمجرد الشعور بالسلامة الداخلية أو البقاء على قيد الحياة؛ بل هي تتعلق بتجلي أساسي للوعي داخل منظومة المجتمع.

يدعو التحليل النفسي التقليدي إلى التحكم في هذه الدوافع الغريزية للحفاظ على التوازن النفسي، لكن إلى جانب هذا الاتزان، يجب الاعتراف بأن السعي للأمان يعتمد على رغبة أعمق: وهي رغبة الاعتراف والتقدير للشخص في رؤية الآخر. هذه الحاجة، بالفعل، تشكل أساس الإرادة لتأكيد الوعي في الزمان والمكان. النماذج العلاقية، والحب، والمودة، رغم أنها تتشكل لاإراديا، فهي تجد أساسها فيما نسميه "الوعي".

يقول دولوز أن الوعي، عند تطوره، يلامس أراضٍ مختلفة، ويعبر قبائل، ويشكل صحاري، ويترك بصمة في كل شيء، هكذا يتجدد ولا يمكن أبدا حصره في تعريف أوحد لأنه في سفر مستمر ولكن، بالإضافة إلى هذه الاعتبارات، يجب أن نتفحص الطبيعة الأكثر تعقيدًا للإنسان، الذي لا يُعرف فقط من خلال استعداداته الجينية أو الروابط العائلية التي تشكل الطفولة.

إنه أيضًا متأثر بالأنماط والسياقات التي يُدرج فيها هذا الوعي. هذا الوعي، الساكن في السياق الجيوسياسي والاقتصادي والتكنولوجي لعصره، لا يتطور بشكل منفرد وأحادي. الوعي اليوم أصبح مغمورا في تدفق مستمر لعالم مشبع بالتحفيزات الرقمية فلهذا سيطور تصورات وحساسيات أكثر حدة من مفهوم الوعي في القرن الماضي. بينما الوعي الذي يتأصل في بيئة خالية من هذه التقنيات، في فضاء خالي من التحفيزات المتوهجة، سيُحرَم من نفس الانفعالات الحسية والإدراكية. هذه الثنائية تدعونا للتفكير في تأثير بيئتنا على تشكيل الفرد، وفي كيفية تأثير هذه السياقات المختلفة ليس فقط على وعينا، بل أيضًا على ثقافتنا وعلاقتنا بالعالم.

الوعي البشري، في النهاية، يزدهر ويتحول وفقًا للهياكل التي ينغمس فيها حسب وقته، وبالتالي، هو الذي يشكل المجتمعات التي يتطور فيها.

أود أن أضيف أن عملية تقليص الرغبة اللاواعية إلى رؤية أوديبية اتكالا بمبدأ فرويد قد أدت إلى قطع التدفقات بين ما يسميه دولوز وغواتاري "الآلات الراغبة" وقوتها في خلق التجدد والتفرد في البعد الاجتماعي التي تندرج فيه.

هذه النظرة تدفعني للتأكيد على أن مفهوم العلاقة بين الترابط والانفصال بين الأجسام، و إصطدام وعي بوعي آخر الذي يؤدي لحوارات ثقافية متعددة بطريقة سبينوزية هو ال مفهوم المؤسس للبعد النفسي التحليلي في أعمال دولوز وغواتاري. هذه العلاقة هي نتيجة لتفاعل مستمر بين السمات النفسية الفردية والنموذج الاجتماعي الذي تتنقل فيه هذه التدفقات.

إذا كان هذا البناء يتمتع باستمرارية دون انقطاع، نلاحظ ظهور أصول بنيوية غير متجذرة، وإنتاج جماعي لمفهوم الرغبة في المجتمع، لا علاقة له بمبدأ فرويد الأحادي. بالإضافة إلى سيولة في العلاقات الاجتماعية، حيث يرتبط الأفراد بتدفقات للرغبات تفلت من الهياكل الثابتة والتصورات الأوديبية. وهذا يتطلب علاقة مفتوحة، ديناميكية وغير جامدة بين السمات النفسية الفردية والنموذج الاجتماعي الخارجي.

على العكس، في حالة كان الفرد خاضعًا لشكل من أشكال الكبت، تصبح طبيعته أكثر تعقيدًا في بعد فردي بحت، مما يؤدي إلى أن يصبح موضوعًا خاضعًا. وهذا يؤدي إلى بناء نفسي معالمه أدوار ثابتة وهياكل اجتماعية جامدة، مما يقيد سيولة العلاقات بين الفردي والجماعي. في هذه الحالة، يتم قطع أو كبت التدفقات، وتتراجع إلى أشكال من التعرف الثابتة، مما يمنع أي فردية خلق وعي جماعي جديد.

يمكن أن تُعتبر الهياكل الثابتة للتحليل النفسي، وخصوصًا الرؤية الفرويدية، كدعوة لتنظيم تشخيص فردي، مما يؤدي إلى مجتمع تأديبي، شبه أحادي، لا يعترف بالتحرر أو الحركة، ويشكل عائقًا أمام الحرية والتعبير عن الرغبات.

بالمقابل، في إطار اخر حيث يستطيع الإنسان تجاوز طبيعته وتجاوزها نحو أنماط جديدة مع احترام دائم للحريات، يحول وعيه من نمط أوديبي إلى نمط متصالح مع ذاته والمجتمع الذي ينشط فيه.

على الرغم من أن دولوز وغواتاري يدافعان عن تحرير التدفقات الراغبة، فهذا لا يعني أن هذا التحرر خالٍ من التحديات أو المخاطر. هناك حاجة دائمة للتوازن بين سيولة العلاقات وضرورة الهياكل التي تُنظم هذه التدفقات، دون تجميد أو كبت الرغبة كما في الإطار الأوديبي.

سأتطرق لهذا الموضوع في مقال مكمل انشالله.

عليك أن تصالح نفسك عشر مرات في النهار لانه اذا كان في قهر النفس مرارة فان في بقاء الشقاق بينك وبينها ما يزعج رقادك عليك أن تجد عشر حقائق في يومك كيلا تضطر إلى السعي ورائها في نومك فتبقى نفسك جائعة. «فريدريك نيتشه »

***

الكاتب حبيب مرگة

 

في المثقف اليوم