قضايا

حاتم حميد محسن: جمهورية افلاطون هل هي رؤية طوباوية ام نموذج استبدادي؟

الحوار الفلسفي (الجمهورية) كُتب من جانب الفيلسوف اليوناني افلاطون سنة 375 ق.م. فيه يصف رؤيته للمجتمع العادل والمثالي الذي يحكمه الملوك – الفلاسفة. بعد اكثر من الفي سنة، يبقى هذا العمل في النظرية السياسية والعدالة ملائما وبعمق عند تقييمنا لأنظمة الحكم الحديثة في العالم.
بدءاً من قيادة الملوك الفلاسفة الى التعليم الموجّه من الدولة، من المفيد رؤية ما اذا كانت مقترحات افلاطون تمثل حلما طوباويا للمجتمع ام هي كابوسا مدمرا. هذا، بالطبع، يُنظر اليه من خلال قيم القرن الواحد والعشرين في الديمقراطية الليبرالية وحقوق الانسان والحريات الفردية.
مفهوم افلاطون للعدالة
طبقا لافلاطون، العدالة هي فضيلة انسانية. هذه الفضيلة تجعل الفرد "خيّر ومتسق ذاتيا" بينما تعزز ايضا الانسجام في المجتمع ككل. كتاب الجمهورية يربط العدالة في مستوى الدولة او المدينة بالعدالة في روح الفرد. في هذا العمل، يجادل افلاطون بان المجتمع المرتكز على العدالة يعتمد على مواطنيه الذين يجسدون فضيلة العدالة ايضا. افلاطون يجادل بان العدالة الى جانب الحكمة والشجاعة والإعتدال هي واحدة من الفضائل الاساسية الاربع.
بالنسبة له تمثل العدالة نظاما او تناغما في النفس الفردية. هذا التناغم يجد ذاته بين المظاهر العقلية، الروحية، والشهوية للفرد. كذلك، يعتقد افلاطون ايضا ان هذا التناغم يمتد الى الطبقات ومصالحها ضمن المجتمع. خلافا للمنظور التقليدي في زماننا، والذي عادة يركز على حقوق الملكية او العقود الاجتماعية، يرى افلاطون العدالة كشيء أعمق – موافقة داخلية ضمن الكائن البشري متناغمة مع الواجب المدني.
الفرد العادل او المجتمع المرتكز على عدالة حقيقية يتصرف وفق معايير موضوعية للخير بدلا من معايير ذاتية. طبقا لافلاطون، هذه توجد بشكل مستقل عن الاهتمامات الشخصية او الامتيازات وتشكل تصورات كل فرد.
ومن بين أشياء اخرى، تتطلب العدالة الامتناع عن ايذاء الاخرين حتى عند التحريض، بينما تحافظ ايضا على الوعود وانجاز الاتفاقات مع الاخرين. هذا يفسر لماذا يعتقد افلاطون ان احترام القوانين المجتمعية المؤسسة على خير مشترك هي ذات أهمية كبيرة. بالنسبة له، الحياة العادلة لها قيمتها المتأصلة ولا يختارها الناس فقط لأجل السمعة او الشهرة. وعليه، في الفكر الافلاطوني، العدالة هي فضيلة سامية. انها تمكّن كل من الامتياز الفردي والسياسي للدولة وهو ما سيكون مثاليا للجميع. في هذا السيناريو، تتعاون الطبقات الاجتماعية بدلا من ان تتنافس . من خلال الارواح العادلة والمؤسسات العادلة، ستتحقق بالكامل الإمكانات البشرية والسعادة طبقا لنظرية افلاطون.
النظام التعليمي في كاليبوليس (المدينة الجميلة)
المدينة المثالية - كاليبوليس كما تصورها افلاطون في الجمهورية تعتمد على نظام تعليمي صارم. دور هذا النظام هو تربية الحكام بالاضافة للمواطنين. وهكذا، فان فلسفة افلاطون في التعليم تهدف الى تطوير الفضيلة والحكمة والشخصية الاخلاقية الجيدة لكل مواطن.
طبقا لافلاطون، حكام المستقبل او الملوك الفلاسفة سوف يتوجب عليهم المباشرة بتعليم صارم في حقول مثل الرياضيات والعلوم والفلسفة والموسيقى. هذا سوف يضمن زيادة قدراتهم في مجالات هامة في المنطق والقيادة والحفاظ على التناغم في كل من المجالين الشخصي والعام.
وكما عرض افلاطون في الجمهورية، يبدو ان منهجه لهذه النخبة المجتمعية يؤكد على الموضوعات التي لها القابلية على تمكين الحكام للحصول على الحقيقة. هذا سيكون حاسما في هذا المجتمع المثالي لأن هذه النخب ستكون قادرة على صنع قرارات حكيمة لمصلحة الجماعة ككل. هذا التدريب الأساسي للملوك الفلاسفة يتضمن الاستدلال المجرد والرياضيات الخالصة والديالكتيك لإختبار الأشكال والافتراضات الأساسية، والتركيز – وهو الأهم على التحكم الاخلاقي في الذات. مقابل ذلك، يتلقى الناس العاديين تعليما اساسيا في كاليبوليس. تعليمهم يركز على تطوير مواقف أكثر تعاونية ومدنية بالاضافة الى مهارات معينة مطلوبة لإنجاز دورهم في هذا المجتمع المثالي. وبينما يتولى النظام تصنيف الاطفال في وقت مبكر بالارتكاز على القابليات بالاضافة الى مكانتهم الاجتماعية، فان مواطني كاليبوليس يستمرون في الحصول على تعليم أخلاقي لأنه يعتبر ضروريا. هذا سوف يسمح لهم بإتباع التعليمات والقواعد بشكل صحيح وكما وُضعت من جانب النخبة المتنورة.
وهكذا، يهدف نظام افلاطون التعليمي الى تزويد الحكام بالمعرفة الضرورية التي تقوي منزلتهم كملوك فلاسفة. وفي نفس الوقت، هذا البناء سوف يعطي لمتوسط المواطنين تعليما فكريا واخلاقيا كافيا لكي يجتازوا تعقيدات الحياة اليومية. هذا سوف يضمن الاستقرار الاجتماعي في المجتمع.
وكما هو ملاحظ، هذا النموذج المزدوج يأتي في تناقض حاد مع المُثل الحديثة للفرص المتساوية والتعليم العام الشامل للجميع بصرف النظر عن الخلفيات.
هل جمهورية افلاطون القديمة تمهد للاشتراكية؟
العديد من الناس يجادلون بان افلاطون في مجتمعه المثالي، يقترح نظاما اشتراكيا ان لم يكن شيوعيا لطبقة الحكام الفلاسفة. هذه النخبة "المتنورة" سوف تحكم وتحمي كاليبوليس، لأن النخبة ستكون قادرة فكريا وأخلاقيا على القيام بهذا. الجماعة المنتقاة ستعيش في جالية خالية تماما من الملكية الخاصة. الحكام عليهم ان يشاركوا بالمسكن والزوجات والاطفال. الهدف من كل هذا سيكون تعزيز الروابط المجتمعية ووضعها فوق المصالح الانانية للفرد. هذا يذكّرنا بشيء؟ يمكننا ان ننظر الى المبادئ الاساسية للاتحاد السوفيتي لمقارنتها مع قصة افلاطون. افلاطون يجادل ان العيش المجتمعي بدون أي ثروة شخصية قادر على انتاج ملوك فلاسفة محايدين وحكام شجعان. هؤلاء الافراد سيركزون كليا على الواجبات العامة بعيدا عن الانحرافات الفردية. المشاركة في التجربة سوف تهدف ايضا الى تعزيز التماسك الاجتماعي مقابل الانقسامات الحتمية لدى مختلف الطبقات في المجتمع.
هذا المبدأ يتسع الى المزيد من المظاهر الشخصية لحياة الانسان، مثل الزواج. حكام كاليبوليس سوف لا يُسمح لهم بالعلاقات الحصرية. هذا لأن افلاطون اعتقد ان هذا سوف يفضل افراد معينين على الرفاهية الجمعية. وبينما تهدف القيود على الزواج والملكية الى تقوية المجتمع ككل، فان القارئ الحديث قد يتصورها كانتهاكات مدمرة كليا للحرية. المواطن في المجتمع الغربي الليبرالي للقرن الواحد والعشرين ربما يرى كل هذه المقترحات مخيفة تماما ومتناقضة مع سعي كل فرد للسعادة.
وكما نعرف هناك أمثلة تاريخية لمحاولات حكام حقيقيين في ظل المبادئ الشيوعية في القرن العشرين قد فشلت واحيانا بشكل مأساوي. هذه الإحتمالية استخدمها الخصوم ضد مُثل افلاطون كحجة لصعوبة فرض نظرية افلاطون في مجال التطبيق. مع ذلك، اعتراف افلاطون بان المصلحة الفردية تشوه الروابط الاجتماعية لازال له صدى لدى العديد من الناس.
دور وسلطة الملوك - الفلاسفة: حماة ام مسيطرون؟
في الجمهورية، يجادل افلاطون ان للملوك الفلاسفة واجب فرض السيطرة التامة على شؤون كاليبوليس. هناك ايضا سبب لهذا، وهو إرشاد المجتمع نحو الفضيلة والاستقرار وتجنب الفوضى المجتمعية.
الفلاسفة الملوك الذين يتم تعيينهم بالارتكاز على اختبار وتدريب صارمين، سيعملون ويفرضون القوانين. هذه القوانين تنظم كل من السلوك الشخصي والعام للمواطنين. حكمة الملوك الفلاسفة ومصالحهم المشتركة مع المدينة يُفترض ان تكشف ان كانت هناك أي إساءة لإستخدام السلطة وتعمل كوسيلة لتحقيق التوازن بين السلطات.
من الواضح، ان افلاطون يمنح حكامه سلطات مكثفة على مواطنيهم. هذا يبدو كأنه شيء استبدادي جدا وفق المعايير الحديثة، شيء نراه اليوم في الأنظمة الاوتوقراطية والقمعية. الحكام في جمهورية افلاطون يشرفون على قضايا مثل الزواج والتكاثر وتربية الاطفال والشعر والموسيقى وحتى الآراء التي يعبر بها الناس. هذه السيطرة النمطية والمنهجية على حياة وعقلية كل فرد ستكون امرا قاسيا جدا. مع ذلك، الهدف من كل ذلك هو خلق انسجام اجتماعي.
يجب التنويه الى ان مسألة الإعدادات الصارمة التي تضمن وصول فقط المواطنين الفضلاء للحكم تبقى عرضة للنقاش. ربما يتسائل أحد من سيضمن ويفحص تحقيق ذلك. بالتأكيد، اذا كانت هذه المسؤولية تقع على الناس، ذلك سيعني هم سلفا متفوقين أخلاقيا وبالتالي يمكنهم ان يتولوا الدور بأنفسهم.
من الواضح انه بدون الضوابط والفصل بين السلطات فان حكم النخبة المطلق يخاطر بان يكون انانيا بسرعة كبيرة. كل ما يحتاجه المرء ليتأكد من ذلك هو ان ينظر في الامثلة الهائلة للقادة "التنويريين" الذين أثبتوا فشلهم وعدم نزاهتهم طوال التاريخ الانساني.
وعموماً، ان جمهورية افلاطون بالفعل تسلط الضوء على التحدي السياسي. فهي من جهة، تركز السلطة لدى شخص ما لكي يحكم بفاعلية، ومن جهة اخرى تمنع مراقبة السلطات والذي من شأنه ان يهدد الحريات الفردية. ملوك افلاطون الفلاسفة يميلون بقوة نحو الواجبات المطلقة والاستبدادية بدلا من وضع قيود لحماية الحقوق وهو الامر الضروري للحريات الحديثة.
تقييم جمهورية افلاطون: حلم طوباوي ام كابوس مدمر
في تقييم جمهورية افلاطون، نحن امام تجربة عبقرية في التفكير الانساني لبناء مجتمع مثالي. هذه الجالية ستُحكم بالملوك الفلاسفة، الذين يتم تدريبهم في المنطق والعدالة. مع ذلك، العديد من مقترحاته – من الرقابة الى سيطرة الدولة على الحياة الشخصية والعائلية – لا يمكن تصورها وفق معايير الليبرالية الحديثة التي تقيّم الحقوق الفردية. بالنهاية، بينما لازالت هناك أهمية لتأكيدات افلاطون على الانسجام والحكمة والفضيلة، لكن طرقه الاستبدادية المقترحة يمكن ان تبدو مدمرة لمواطني القرن الواحد والعشرين. انها تقف في تضاد مباشر مع العديد من الخصائص المجتمعية الحديثة بما في ذلك التنوع والحرية الفردية. لهذا، نعم، تمثل جمهورية افلاطون نسخة اكثر تشاؤما لمجتمع مثالي (غير موجود) منه الى حلم طوباوي يزدهر فيه كل مواطن . مع ذلك، افلاطون في صراعه مع العلاقات المعقدة بين العدالة، النظام، والقيادة، لايزال يثير أسئلة ويدعونا للتفكير حول ما يمكننا عمله بشكل أفضل بعد زمانه بآلاف السنين .
***
حاتم حميد محسن
..............................
GreekReporter,March10,2025

 

في المثقف اليوم