قضايا
أيمن عيسى: نـَقـْط ُ الحروف
كانت الحروف العربية تكتب فى البداية بغير نقط، وكان العرب الذين يجيدون القراءة والكتابة، يقرأون الكلام بغير نقط دون أن يخطىء أحدهم فى حرف واحد، كانت الملكة اللغوية قوية، والقريحة سليمة متقدة، فيقرأ الكلمة قراءة سليمة لا تشوبها شائبة حتى ولو كانت الحروف بغير نقط.
وكـُتب القرآن الكريم فى بادىء الأمر هكذا بغير نقط. ونـُسخ فى عهد عثمان بن عفان رضى الله عنه خمس نسخ للمصحف أرسل بكل نسخة إلى بلد، وكانت بغير نقط، وكان الناس لا يخطىء أحدهم فى حرف. إلا أنه مع تزايد دخول غير العرب فى الإسلام وتنامى ضعف الملكة اللغوية حتى عند العرب، بدأ الخطأ يقع، من هنا كانت ضرورة التوصل إلى ابتكار يميز الحروف عن بعضها ويحمى نطق الكلمة فتأتى على المعنى المقصود.
من هنا كانت فكرة نقط الحروف والتى تسمى عند البعض " الإعجام " فإعجام الحروف هو وضع النقط عليها، وكان ذلك على يد " نصر بن عاصم" الذى نقط حروف المصحف الشريف وميزها، وكان ذلك فى خلافة عبد الملك بن مروان. فميز نصر بن عاصم بين الحروف المتشابهة كالباء والتاء والثاء، والسين والشين، والصاد والضاد، وغيرها. ثم انتشرت الفكرة وأصبحت صفة لازمة للحروف العربية فى أى كتابة، بعد أن كانت مقيدة بالقرآن الكريم فقط.
ومن الطريف أن عددًا من الكتاب والعرب فى بادىء الأمر، قد اعتبروا أنه لو أرسلت رسالة أو كتبت شيئـًا لأحد، ووضعت فيه النقط، كان ذلك سوء أدب لمن تخاطبه، لأنك بذلك حين نقطت له الحروف، فأنت اعتبرته من الجهلاء باللغة وخشيت أن يخطىء فنقطت له الحروف.
أصل فكرة الإعجام ونقط الحروف
فكرة وضع نقط على الحروف أو تحتها هى فى الأصل مأخوذة من اللغة السريانية، فالعرب قد عرفوا تلك الفكرة عن السريانية. إذن فكرة النقط هى موجودة قبل نصر بن عاصم، إذ كانت فى السريانية، ثم أخذها نصر بن عاصم وابتكر التطبيق فى العربية. فإن حاكى وقلد فى الفكرة، فإن له الإبداع فى التطبيق، فابتكر مثلا للباء نقطة تحتها والتاء لها نقطتان فوقها والثاء ثلاث نقط فوقها، وهكذا مما نعرفه الآن من شكل النقط على الحروف أو تحتها.
أثر غياب النقط فى بادىء الأمر فى ظهور القراءات
بالرغم من أثر غياب التنقيط قد أوقع عددًا فى الخطأ والانحراف، إلا أنه كان له وجه إيجابى آخر، فكانت مسألة توفيقية من الله تعالى جرت على ألسن العرب الفصحاء الذين لم يقع اللحن أو الخطأ على ألسنتهم، فكانت الكلمة الواحدة بغير نقط، فأمكن ذلك من تـُقرأ على أكثر من وجه، ومن الجمال فى ذلك أن كل هذه الأوجه صحيحة ولم تخطىء المعنى.
ومثال ذلك، قوله تعالى {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}[البقرة / 138] فقرأها البعض {صَنْعَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صَنْعَةً} فجعلوا الباء نونـًا والغين عينـًا. وهنا المعنى واحد فالصبغة التى صبغ الله عليها خلقه، هى الصنعة التى صنع الله بها خلقه وليس من أحد أحسن من الله فى خلقه وصنعته. فصبغة أى صنعة، فصارت قراءة صحيحة هى نفسها فى قلب المعنى المقصود.
وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات / 6] فتبينوا قرأها آخرون " فتثبتوا ". وهو نفس المعنى فتبين الخبر أى التثبت من صحته، فصارت قراءة صحيحة هى نفسها فى قلب المعنى المقصود.
وقوله تعالى {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً}[طه / 96]. فقرأها البعض {فَقَبَضْتُ قَبْصَةً} فأبدلوا الضاد صادًا. والقبضة تكون بكل الكف، أما القبصة فهى الأخذ بأطراف الأصابع، فاختلاف النقطة أجاز أن تـُقرأ على وجهين ومعنيين، حتى وإن كان الأول يفيد معنى الأخذ بكل الكف والآخر يفيد معنى الأخذ بأطراف الأصابع، إلا أن فعل الأخذ موجود ومتحقق.
ويهمنا فى ذلك أن نشير إلى مرونة اللغة العربية، فهذه من الظاهرات الصحية التى تتمتع بها اللغة العربية، فحين تدرك الشواهد السابقة وتتأملها، فلا يمكنك إلا أن تقول: يا لجمال هذه اللغة. فمن مواطن جمالها أن تراها بهذه المرونة. ويهمنا أيضا أن نشير إلى ذكاء التلقى اللغوى عند العربى القديم، فحتى وإن قرأ الكلمة قراءة أخرى، فإنه يأتى بنفس المعنى أو محيطه دون خطأ أو انحراف. وختامًا نرجو أن نكون قد حققنا قدرًا من المتعة والإفادة للقارىء الكريم.
***
د. أيمن عيسى - مصر