قضايا

جودت هوشيار: ساميزدات.. تألق وأفول ثقافة الأندرغراوند في روسيا

تاريخ الأدب السوفييتي مليء بالحوادث المأساوية والمحاولات المدهشة لتجاوز الحواجز الأيديولوجية. الرقابة المتزمتة أجبرت الكتاب على التفنن في استخدام الرموز والمعاني المبطنة. وأدى حظر نشر عدد كبير من الأعمال الأدبية الرائعة لأسباب أيديولوجية، إلى البحث عن طرق بديلة لنشر النصوص الأدبية سراً، على يد الكتّاب والمثقفين الروس المنشقين. هكذا ظهرت ساميزدات (النشر الذاتي السري) – إحدى أكبر وأهم الظواهر في الثقافة الروسية في القرن العشرين. كانت تلك النصوص مكتوبة بخط اليد، أو مطبوعة على الآلة الكاتبة وغير خاضعة للرقابة، ثمًّ تستنسخ وتوزع وتنتقل من يد إلى يد خارج سيطرة المؤلف، وقد حاول المواطنون السوفييت صنع آلآلات الكاتبة بأنفسهم تجنبا للمخاطر الأمنية، فقد كان على أصحاب الآلات الكاتبة تسجيلها لدى جهاز الأمن السري، وترك عينة مطبوعة لديه. عندما يعثر رجال الأمن على منشورات أو أدبيات مناهضة للسلطة، يمكنهم تحديد الآلة الكاتبة التي طُبعت عليها تلك المواد. مع تطور التكنولوجيا، بدأ استخدام آلات الاستنساخ من التصاميم المبكرة، وأجهزة التسجيل وغيرها، وخلال سنوات البريسترويكا، تم استخدام أجهزة الكمبيوتر أيضاً.

عشية انهيار النظام السوفييتي، عندما تم تخفيف القمع والاضطهاد والرقابة الرسمية على المطبوعات تدريجياً، أصبحت ساميزدات وسيلة بديلة تعمل بالتوازي مع المجلات الأدبية ودور النشر الحكومية.

يُعرّف الكاتب الروسي المنشق فلاديمير بوكوفسكي (1942-2019) هذا المصطلح باختصار في مذكراته: « أنا أقوم بتأليف نصوصي، وتحريرها، ورقابتها، ونشرها، وتوزيعها بنفسي، وأسجن بسبب ذلك». ويرى بوكوفسكي أن ساميزدات ظاهرة ثقافية ترتبط بدايتها بقصائد الشعراء المحظورين والمنسيين والمقموعين، التي لم تسمح الرقابة بنشرها في المجلات الأدبية ـ التي كانت كلها خاضعة لسيطرة الدولة. يثمن هذا الكاتب المنشق دور الآلة الكاتبة، التي حلت محل مكائن الطباعة، وأدت إلى شكل جديد من أشكال نشر النصوص، حتى إنه اقترح إقامة نصب تذكاري لها. فقد كانت «ساميزدات» الشكل الوحيد الممكن للتغلب على احتكار النظام السوفييتي لوسائل الإعلام ودور النشر والمطابع.

لم يكن الهدف الرئيسي لحركة الانشقاق هو محاربة النظام بقدر ما كان تجاهل أوامره وتعليماته. الانشقاق نموذج لسلوك شخص حر داخلياً، يعيش في مجتمع غير حر. أصبحت ساميزدات آلية لتحقيق واحدة من أهم الحريات المعترف بها من قبل المجتمع الدولي – حرية التعبير. لذلك، يسميها ناشطو حقوق الإنسان الأداة الرئيسية لحركة الانشقاق.

ثقافة مضادة

كانت ساميزدات لعدة عقود من التاريخ السوفييتي ثقافة مضادة، أي ظاهرة ثقافية ترفض قيم الثقافة الرسمية السائدة في البلاد. كما كانت أحد العناصر الأساسية في حياة المجتمع الذي لم يقبل الواقع السوفييتي. وبفضل ساميزدات أصبح من الممكن كتابة أفكار وآراء ووجهات نظر مستقلة حول قضايا الساعة، فضلاً عن النقد الاجتماعي والسياسي للنظام السوفييتي، ونشر الأدب الإيروتيكي، والدعاية الدينية، والتجارب الإبداعية لما بعد الحداثة. وكانت كل هذه تابوهات لدى الرقابة الرسمية المتزمتة، وفي الوقت نفسه كانت تقييداً لحرية الإبداع بهدف فرض الأساليب المقبولة للكتابة الفنية، وحظر كل ما يتعارض مع الأيديولوجية الرسمية.

لم تكن الأعمال الأدبية المنشورة في» ساميزدات» تعود إلى الكتاب الممنوعين من النشر فحسب، بل كذلك لأولئك الكتاب المعروفين الذين نشروا أعمالهم الأدبية من خلال المنابر الرسمية، ثم سحبت من المكتبات ومنعت من التداول مثل قصائد أوسيب ماندلشتام. وآنّا أخماتوفا، ومارينا تسفيتاييفا، وبوريس باسترناك، وجوزيف برودسكي، وروايات ميخائيل بولغاكوف وألكسندر سولجينيتسن.

نشر من خلال ساميزدات الكثير من الأعمال الأدبية للعديد من الكتاب المحظورين، الذين يعدّهم النقّاد اليوم من كبار الأدباء الكلاسيكيين في الأدب الروسي، ومن ذوي الشهرة العالمية.

دوريات ساميزدات

كانت لساميزدات دورياتها الخاصة. الأكثر شهرة في هذا المجال مجلة «سينتاكسيس» التي نشرها ألكسندر غينزبرغ بين عامي 1959-1960. غيرت «سينتاكسيس» الوضع الأدبي في روسيا بشكل جذري، وفتحت إمكانيات لم يكن من الممكن تصورها من قبل. أصدر غينزبرغ ثلاثة أعداد من مجلته التي أثارت ضجة داخل روسيا وخارجها، ما أدى إلى اعتقاله والحكم عليه بالسجن والنفي.

بحلول بداية الثمانينيات، كان هناك حوالي عشر مجلات ساميزداتية أدبية في لينينغراد من بينها مجلة «البريد الشمالي» المكرسة حصرياً للمشاكل النظرية والتطبيقية للغة الشعرية. وقد نشرت المجلة مواد عن تاريخ ونظرية الشعر الروسي في القرن العشرين، ومراجعات لمجموعات شعرية وقصائد الشعراء الشباب و»أيتام أخماتوفا» (وهم أربعة شعراء مقربون من الشاعرة آنا أخماتوفا في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، وهم: جوزيف برودسكي، الذي فاز لاحقا بجائزة نوبل في الآداب عام 1987 وديمتري بوبيشيف وأناتولي نيمان وإيفجيني راين). وكانت أخماتوفا تقدر بشدة إبداعهم. صدرت ثمانية أعداد من هذه المجلة السرية الرائدة، ثمّ توقفت بعد ذلك بسبب الهجرة القسرية لرئيس تحريرها سيرغي ديديولين. في الوقت نفسه، ظهرت مجلة «ميتين» المؤيدة للغرب (تحرير دميتري فولتشيك)، وركزت على ثقافة ما بعد الحداثة. استمرت «ميتين» في الصدور حتى حقبة البريسترويكا. وتوجد اليوم مجلة علنية تحمل الاسم نفسه.

لم تقتصر ساميزدات على نشر الأدب المحظور، بل شملت أيضاً التوزيع الذاتي لموسيقى الجاز والروك المحظورة رسميا، والتي تم تسجيلها وتوزيعها سراً أيضا. وهكذا فإن ساميزدات ظاهرة متعددة الجوانب للغاية. كان النشر أو التوزيع عن طريق «ساميزدات» محفوفاً بالمخاطر، ويمكن أن يؤدي إلى الاعتقال وشتى أشكال الكبت والقمع. بالطبع، لم تكن المخابرات السوفييتية « كي جي بي» تتجاهل مثل هذه الأحداث، فقد تعرض العديد من الأدباء وأصحاب الدوريات السرية للاضطهاد، منهم من نفي إلى سيبيريا، أو أُودع المصحات العقلية، أو اسقطت عنه الجنسية السوفييتية.

ساميزدات كظاهرة شفهية

بدأ تقليد الأمسيات الشعرية بالقرب من النصب التذكاري للشاعر فلاديمير ماياكوفسكي في موسكو عام 1958. في يوم الأحد الأخير من كل شهر، يجتمع شعراء المدينة المعروفين وغير المعروفين والمحظورين معاً، ويلقون قصائدهم على الجمهور. وشاركت في القراءات شخصيات أدبية بارزة مثل يفغيني يفتوشينكو وأندريه فوزنيسينسكي. وفي وقت لاحق، من عام 1965، منعت السلطات السوفييتية إلقاء القصائد في ساحة ماياكوفسكي، ووصفت الحدث بأنه «أرض خصبة للمنشقين» واتهمت الحاضرين بـ»السلوك المعادي للمجتمع».

وفي الوقت نفسه، افتتح في لينينغراد العديد من المقاهي الأدبية، التي تحولت إلى مراكز فكرية تتم فيها قراءة الشعر ومناقشته باستمرار، لعل أشهرها «مقهى الشعراء»، خاصة أن الثقافة المحلية للمقاهي الأدبية تعود إلى أيام مقهى «الكلب الضال» الشهير في بطرسبورغ في العصر الفضي للأدب الروسي. في البداية كان الشعراء، ومنهم «أيتام أخماتوفا» يلقون قصائدهم على الجمهور في «مقهى الشعراء» دون أي رقابة. هنا قرأ جوزيف برودسكي عام 1962 قصيدتيه «رومانسية عيد الميلاد» و»التلال» علناً لأول مرة. ظل «مقهى الشعراء» قائما لمدة عامين، ثم فرضت عليه رقابة صارمة، وسرعان ما تم إغلاقه نهائياً.

ساميزدات اليوم

في عام 1986، وقع ميخائيل غورباتشوف مرسوماً يلغي الرقابة على المطبوعات، ومنذ ذلك الحين، أضحت دور النشر حرة في نشر ما يحلو لها، دون مراعاة رغبات الحزب والحكومة. وترتب على ذلك تدفق سيل هائل من الأعمال الأدبية التي كانت محظورة في السابق. بدأ التراجع عن حرية التعبير عام 2007، عندما نشرت وزارة العدل الروسية قائمة بالمواد المتطرفة المحظورة. كانت الكتب المدرجة فيها، في الغالب، بعيدة عن الأدب، لذا فإن الحظر لم يؤثر بشكل كبير في حرية النشر وسوق الكتب الأدبية. زادت الرقابة على المطبوعات تدريجياً في السنوات اللاحقة، وصدرت قوانين تحظر الدعاية للمثليين والمخدرات. على الرغم من أن هذا الحظر يبدو بسيطاً ومنطقياً، إلا أنه في الواقع لا يمكن التأكد أبداً من الكتاب الذي لن يعجب السلطات غداً. بعد التدخل الروسي في أوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022. اشتد التضييق على حرية النشر وتوزيع الكتب وتداولها. ولم يكن الهدف الأول للاضطهاد الكتب نفسها، بل مؤلفيها، الذين أعلنوا صراحة موقفهم المناهض للحرب ووصمتهم السلطة بـ»العملاء الأجانب»، الذين بلغ عددهم أكثر من أربعين كاتباً وصحافياً ومفكراً، بينهم عدد من كبار الأدباء، وفي مقدمتهم: لودميلا أوليتسكايا، ودميتري بيكوف، وبوريس أكونين، وفلاديمير سوروكين، وميخائيل فيلر، ودميتري جلوغوفسكي.

كما جرى حظر عدد كبير من الأعمال الأدبية الأجنبية وسحبها من متاجر الكتب والمكتبات العامة وحظر تداولها ومصادرتها من القراء عند عبور الحدود الروسية. ومن هذه الأعمال على سبيل التمثيل لا الحصر: «أورلاندو» لفرجينيا وولف، و»غرفة جيوفاني» لجيمس بالدوين، و»سبوتنيك الحبيبة» لهاروكي موراكامي. لذا لم تكن عودة ظاهرة ساميزدات مفاجئة في هذه الظروف التي تذكرنا بالعهد السوفييتي، وإن اتخذت أشكالا أخرى أكثر تأثيراً، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى تطور تكنولوجيا المعلومات والإنترنت.

أحد الأشكال الرئيسية لمنشورات ساميزدات في روسيا اليوم هو إنشاء وتوزيع النصوص عبر شبكات الإنترنت (الكتب والمجلات الإلكترونية والمدونات ومواقع التواصل الاجتماعي وأشرطة الفيديو وغيرها)، حيث يمكن للمؤلفين التعبير عن آرائهم ومشاركة تجاربهم من خلال المواد الصوتية والمرئية، بالإضافة إلى ذلك، هناك نتاجات ساميزدات المطبوعة، التي تتضمن أعمالا لا يمكن نشرها عن طريق دور النشر داخل البلاد، بل يتم نشرها من خلال دور النشر الروسية في الدول الغربية. ومع ذلك، على الرغم من الحرية التي يوفرها النشر عن طريق قنوات الساميزدات الحديثة، إلا أنه يمكن أن يواجه أيضا مشاكل تتعلق بالرقابة والقيود المتزايدة التي تفرضها السلطات على حرية النشر بجميع أشكاله، ومنها النشر عبر ساميزدات الورقية والإلكترونية، حيث تخضع هذه المواد أيضا للتشريعات المتعلقة بالتطرف والدعاية للانتحار والمثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية وتشويه سمعة الجيش الروسي.

***

د. جودت هوشيار

في المثقف اليوم