قضايا
أحمد شحيمط: الاستهلاك وسلوك المستهلك

الاستهلاك في أبسط معانيه عملية استعمال سلعة أو خدمة بهدف إشباع حاجة معينة بطريقة قصدية ومباشرة، والاستهلاك قرين الإنتاج، يتولد عن حاجة ونقص في الأشياء مما يدفع الإنسان إلى الطلب، والزيادة في الرغبة قصد نيلها وبالتالي الشعور بالمتعة والراحة من الفعل المقصود، أما عدم القدرة على نيل الأشياء كما يشتهيها الإنسان يولد فينا النقص والحرمان، كما يعمق الحرمان من الاكتئاب والقلق والتوتر، والشعور بالضعف أمام مغريات الحياة اليومية، يتم وصف عصرنا بالاستهلاك، وطغيان الثقافة الاستهلاكية، نتاج للطفرة الصناعية، ونتاج التحولات الاقتصادية والاجتماعية، وهذا الخلل الذي أصاب سيكولوجية الفرد والجماعة، من الجموح والاندفاع نحو الزيادة في المتعة واللذة. الاستهلاك بأنماطه المختلفة، من الاستهلاك التفاخري، والاستهلاك القائم على الحاجة، والاستهلاك الرشيد والمعقلن. تتحكم في الاستهلاك دوافع ذاتية وموضوعية تتعلق بالفرد وبالتحولات الخاصة بالحياة، يدفعنا الاستهلاك نحو التنميط والتبعية لأنماط السلوكات الاستهلاكية المعولمة، من خلال الإقبال على الأشياء الاستهلاكية بالاستجابة الفورية لما هو مرغوب فيه، وبالاستجابة البعدية لما يتمنى الفرد أن يستهلكه، ويرتوي منه من خلال التجربة المعاشة، ولما تلعبه تكنولوجيا الإعلام من تسويق الفكرة وتعميمها وانتشارها من خلال الثقافة المعولمة الحاملة للقيم المادية العالمية. هناك ثقافة جارفة، سيول محملة بالصور والمعاني والرموز، تخترق العقول والوعي الفردي والجمعي، تعمل الثقافة الجديدة على التسليع والتشجيع على الإنتاج، والتحفيز لما يتعلق بالاستهلاك. هناك علامات وإشهار، ودعايات مجانية، وقنوات إعلامية، وما يتعلق بشبكات التواصل الاجتماعي التي تقدم برامج وأنشطة في التحفيز والإقبال الفوري السريع على الاستهلاك حتى تستقر الصور في الأذهان، ومن خلال الشركات والمحلات التجارية التي وفرت ما يحتاج إليه الإنسان من أطعمة، ومشروبات، وأماكن للراحة، واللعب والاستجمام، العلامات التجارية والقوة الإعلامية، والسياق الثقافي العام وراء النزعة الاستهلاكية، وهذا الجموح الزائد عن الحدود وراء النزعة الاستهلاكية. إذا غاب الاستهلاك بحدة يطفو النقص وخيبة الأمل عندما لا نظفر بكل ما نرغب فيه. مشاعر الكبت تخرج للعلن، ويستقر الحرمان ويقبع في داخلنا دون ارتواء أو هكذا نفهم تبعات الحرمان في مجال القراءة السيكولوجية لأعماق الذات الفردية والجماعية معا.
سيكولوجية الفرد مشبعة بالقيم الاستهلاكية، في مجتمع الوفرة والإنتاج، المجتمع الذي يقدم نفسه كصورة للرقي والحضارة، لا نعني بالضرورة أن الاستهلاك دافعه العادات الخاطئة، وعقلية القطيع التابعة والخانعة، عقلية سهلة الانقياد للفعل، ضحية فساد الذوق، في جوهر التحولات العالمية تتجلى الثقافة الجديدة، عالم ما بعد الحداثة والنزعة الفردانية الميالة نحو التفرد والتميز من خلال التغير الذي طرأ على الحياة بألوانها المختلفة، النفسية والاجتماعية والاقتصادية، انجراف هائل من القيم التقليدية نحو القيم البديلة، استبدال القيم الصلبة بالقيم السائلة، في عالم الموضة والأزياء، في عالم الطبخ والعمارة، وفي عالم الموسيقى والفنون، وصناعة الذوق، وتهذيب السلوك، وما يليق بالمستهلك والاستهلاك. كل الأشياء تتلاشى في العالم الجديد، العلاقات الإنسانية عابرة ولحظية، استبدال الأشخاص كما يتم استبدال الأشياء والأغراض، الثقافة الاستهلاكية كما وصفها الفيلسوف "جان بودريار" في نقده للمجتمع الاستهلاكي الرأسمالي تبدو ثقافة جارفة، سائلة، لا تكترث بالجغرافي، وتتخطى الحدود والمجتمعات، تنتقل من خلال الصور والميديا، وتترسخ بناء على الرموز والعلامات، وقوة الإعلام والإشهار، وفن التسويق، كل الأشياء قابلة للمحو والذوبان، الثقافة الاستهلاكية تنمو من تراجع الواقع والهروب نحو العوالم الافتراضية، هذا العالم الذي يتدفق سيولة بالصور والرموز والعلامات العابرة للحدود.
تذوب العواطف والمشاعر المختلفة، يطفو الجزء العميق في الإنسان، الجزء المعبر عن الغريزة واللذة، يفسح المجال لفكر جديد يؤمن بالتعددية والنسبية والاختلاف، الفكر البسيط القائم على التشظي، والانقسام القائم على النشوة واللذة، الاستهلاك آفة العصر، والسمة الميزة لعالم اليوم، الاستهلاك واليات إنتاجه وتعميمه، يروض الذهن على تقبل أنماطه وأشكاله، ترويض اللاوعي على فكرة الاستهلاك، تغلغل الفكرة في أعماق الذات بكل ما تحمله الأفكار من صور ورموز وعلامات غاية في الإغراء والاستمالة، الإعلانات والملصقات والإشهار، فنون وأدوات مثيرة في الإقناع والتحريض على الاستهلاك، التسوق والعرض الكبير للمنتجات العالمية، والماركات التجارية تلعب على سيكولوجية الفرد والجماعة، يوجه التفكير نحو الاستهلاك على أمل السعادة، والشعور بالمتعة أثناء الاقتناء والشراء، وما يزيد من الفعل الاستهلاكي، وجرعة كبيرة في سلوك المستهلك، التخفيضات، والأرقام المكتوبة بعناية ودقة، التي تثير المشتري أثناء التبضع، ناهيك عن جودة الأسواق الكبرى، والعرض المتنوع للأشياء من خلال المنتوج العالمي والمحلي، الجديد في عالم الأزياء واللباس، القدرة عل الاختيار والانتقاء لما هو معروض ومرغوب بأثمنة متباينة، مظهر آخر للعرض والتقدم التكنولوجي، والصناعة الإعلامية، مؤسسات الدعاية والاتصال، وامتلاك السلع والتسوق من المحلات التجارية مرتبط بالمكانة الاجتماعية، والوضع المادي، ومستوى الدخل حيث يختفي البيع والشراء كحوار وتواصل من خلال الشطارة والدهاء والتفاوض إلى عملية تجارية موضوعية، يطرح فيها البيع بطريقة أحادية، وتمتلك الشركات التجارية القدرة على الزيادة أو النقص في الأسعار بناء على الطلب والإقبال، مجموعة من العوامل والمثيرات الذاتية أو النفسية والثقافية المتحكمة في سلوك المستهلك فردا أو جماعة.
يثير الاستهلاك فينا نوازع ورغبات في الاختيار مع صعوبة التنبؤ في غالب الأحيان بسلوك المستهلك، الاستهلاك نمط وفعل مقصود يروم الإشباع وتحقيق هدف ما، إنه نظام ثقافي كامل يتسرب إلى الوعي، ويتغلغل في أعماق الفكر والمنطق، لا ينفصل الاستهلاك عن الحرمان والخصاص، مظهر للنزعة الاستهلاكية المعولمة على خطى ما ترغب في بنائه الرأسمالية، والفلسفة الليبرالية، من التشجيع على العمل والإنتاج والاستهلاك، الحرية السياسية والاقتصادية والثقافية بدون حدود بشرط عدم الاصطدام بحرية الآخرين أو العمل على تقويض دعائم الدولة الرأسمالية في بنائها وأسسها. الحضارة المادية المعاصرة وتبعات الهيمنة الاقتصادية للنظام الرأسمالي، سلطة النظام العالمي في تقديم المسكنات الممكنة للبقاء، والإصرار على الاستقطاب، وتعميم النمط الأحادي في العالم بدافع المزايا والغايات القصوى من الحرية والإنتاج، والتشجيع على الابتكار والتجديد في نمط الإنتاج، وفرص النجاح، المسكنات تعني إدخال الأمم في لعبة الإنتاج والاستهلاك، ثنائيات من قبيل الحرية والضرورة، والإشباع والحرمان، والمجتمع المنفتح والمجتمع المنغلق، اقتصاد السوق والتجارة الحرة، والاستهلاك بدون كوابح أو موانع قانونية وسياسية. الشراء بالتقسيط أو الجملة متاح للكل، البضاعة متوفرة بوفرة، والاقتناء يزيد، والعروض بأنواعها، منطق عالمي كبير للتبادلات، اتفاقيات دولية، تبادل سريع للأموال والخدمات، وكل الانتاجات المادية، الصين على سبيل المثال، أغرقت الأسواق بالمنتجات المتنوعة، أقل جودة وأكثرها، الدفع والشحن والتوصيل إلى عين المكان، تحفيز المستهلك ومساعدته على اختيار الجودة والتسوق بالأثمان المناسبة.
طوفان من البضائع والسلع، ملصقات من الإشهار والدعاية التي تنفق عليها الشركات الملايين من أجل ترسيخ النفوذ في الأسواق العالمية، الكل يقترب من إفريقيا، الكل يتهافت على الشرق الأوسط، الحروب التي تشتعل في العالم مردها للمنفعة والظفر بالثروات، والمعادن النادرة، وسياسة السطو على الخيرات الطبيعية بالتفاوض أو الحرب بالوكالة أو الحروب المباشرة، والإنسان المستهلك في دوافعه الطبيعية والمكتسبة لا يستطيع مقاومة الإغراء النابع من الحاجة والرغبة إذ يشتهي الإنسان، ويرغب بشدة في الاقتناء والتلذذ بما يعرضه السوق من منتجات وأدوات تلبي جزء من الشهوات والرغبات الخاصة بالنفس البشرية، ماركات اللباس، الهواتف النقالة، والحواسيب، الآلات المنزلية، وأدوات المطبخ بأشكالها، والجديد في عالم الموضة والجمال، والشاشات الكبيرة. تزيد القيمة الإستعمالية للأشياء عند الإقبال، ويزيد الربح للشركات المصنعة بزيادة رقم المعاملات ونصيبها في البورصة، كما يترسخ المجتمع الاستهلاكي من خلال انتشار الثقافة الاستهلاكية، وفي قوة المظاهر، وتجليات الظاهرة، هناك تنامي الاستهلاك من أجل الاستهلاك، يزول الخوف وتهدأ النفس بالتحول من الحرمان نحو الإشباع، وسد الحاجات الأساسية والثانوية نحو الكماليات كذلك، حتى أن التشابه في العقليات والأفكار يولد النزعة القوية والفورية نحو الاستهلاك والابتلاع، ظاهرة الاستهلاك تشكل عالمنا المعاصر، ظاهرة كونية ترسخ نمط من القيم والثقافة عن قوة الأشياء وأثرها على سيكولوجية الفرد والجماعة، التأثير في المستهلك لا يأتي كذلك من الإشهار والشركات، بل هناك العائلة والأسرة والأصدقاء، والمجموعات ذات المرجعيات الدينية والقومية، وعندما نعاين في المجتمعات العربية والمجتمع المغربي على سبيل المثال ثقافة الاستهلاك نلمس التدافع والإقبال بالزيادة في الزيارات للمحلات الكبرى. هناك تغير في نمط العيش الجديد في المجتمع العضوي مقابل المجتمع الآلي البسيط يعني انتقال البدو من القرى نحو المدن، وما يعنيه الانتقال من سلوك ونمط الحياة، إقبال شديد على الاستهلاك خصوصا في المناسبات والأعياد الدينية، العالم المعاصر كما يصفه "بودريار" عصر الأغراض، كل شيء تحول إلى قيمة وسلعة، هذا التحول نتج عنه تحولات في مجال السلوك والعواطف والمشاعر، تجليات عدة في مجال العلاقات الاجتماعية والإنسانية إذ تحول العيد عندنا إلى مناسبة للتباهي، والجشع واللهفة المصاحبة لاقتناء اللحوم البيضاء والحمراء، والزيادة في الاستهلاك إضافة لاستغلال المناسبات من قبل التجار والمضاربين للرفع من الأسعار، وينسى المتدين الحقيقي ما وراء العيد من أهداف وغايات تتجاوز شهوة البطن، وملذات الأكل والشرب إلى الصوم تقربا من الحق، والصدقة، ومزايا تتعلق بتوثيق روابط المحبة والإخاء بين الناس على أساس الرحمة والمودة، وغيرها من المقاصد الأساسية المنصوص عليها في الشريعة الإسلامية.
نحتاج إلى فهم عميق لنوازع النفس الإنسانية، وتربية الناس على الخلق القائم على التهذيب، ومكارم الأخلاق، العقلية الاستهلاكية عقلية سطحية، الاستهلاك خلق ذهنية قابلة للانقياد، يهيمن عليها شبح السعادة الوهمية، تؤدي الثقافة الاستهلاكية إلى إفساد الذوق وتسطيح الوعي، والاندفاع الشديد نحو لذات الجسد، تصنع حاجة وهمية، تعزز صور ذهنية بين السلوك والأشياء المعروضة، قوة الرأسمالية، والليبرالية المتوحشة في الاستقطاب، وتفكيك فكرة الجسد، وتجريد الإنسان من كل القيم الأخلاقية في اعتدالها وتناغمها، هذا الإنسان الذي أصبح مجرد رقم من الأرقام في عملية الإحصاء الكمي، في نسبة الأرباح، والمبيعات الخاصة بالشركات، ومؤشر على الصعود والنزول في البورصات المحلية والعالمية، وسلوك المستهلك فعل أو حالة نفسية ومشاعر عاطفية، وتوجه نحو شيء مرغوب فيه، ويكون الميل نحو الأشياء بدافع ايجابي أو سلبي، تكون الدوافع سلبية في حالة التجاوز لما هو مسموح ومعقول أي ما يجلب لنا نوع من المتعة والراحة دون المبالغة أو الزيادة في جرعة الاستهلاك حتى التخمة أو التبذير. السلوك الاستهلاكي منبه داخلي، ومنبع الفعل الموجه لأجل الشراء والظفر بالأشياء أو لنقل بعبارة أوسع شكل من أشكال التملك في مجتمع الوفرة والإنتاج، وقديما قدم الفيلسوف اليوناني "أبيقور" وصفة للسعادة والشعور بالمتعة والسكينة من خلال الإقبال على مطالب الجسد في حدود المعقول دون الانجرار نحو الأشياء الماجنة أو اللذات القاتلة والسلبية لأن اللذة هي أولى الخيرات الطبيعية، وهي مبدأ الحياة السعادة، اللذة الحسية البدنية غايتها السلامة للبدن والسكينة للنفس، هذا الاعتدال في الرغبات واللذات دون تبذير منبع السعادة، دواء الاستهلاك المفرط الاعتدال في اللذات، والتفلسف في الحياة بوصف الفلسفة تمرينات روحية لأمراض النفس، من البلادة والسطحية والغباء، والانجرار وراء القطيع، والتيه وراء الشهوات الهدامة والمجون، أمراض يداويها التفلسف، وعقلنة الأشياء وإخضاع نظام الأشياء للعقل مع التروي بالحكمة في المعرفة لما يبهجنا ويجعلنا في انسجام بين رغباتنا وشهواتنا.
***
أحمد شحيمط