قضايا
علي عمرون: تدريس الفلسفة وفق المقاربة الحميرية
تافه كل شيء ما عاد للفلسفة هيبة
(إن اتخاذ الحمار الجامع، خير من غلة ألف دينار، لأنه لِرَحْلِك، وبه يدرك البعيد من حوائجك)... الجاحظ (البخلاء)
***
في البدء الفلسفة كانت وليدة التجحش
الحمير بغريزتها مسالمة وهادئة وتقبل الترويض وتمتلك بطبيعتها فضيلة حب النظام والوفاء لما خلقت له ولكنها في نفس الوقت عنيدة وغبية وكسولة وافقها محدود فهي لا تستطيع النظر ابعد من اذنيها الطويلتين -وبالمناسبة اذن الحمار نوع من العشب تظهر ازهاره في الربيع وهو كحال صاحبه يتحمل الظروف الصعبة- والحمار أقل الدواب مؤونة وأكثرها معونة وأخفضها مهوى، وأقربها مرتقى، يزهى راكبه وقد تواضع بركوبه وبالمحصلة هُوَ حيوان متنوع الخصائص " نافِعُ يَحْمِلُ وَيَجُرُّ، هادي، صبور، وبطيء في سَيْرِهِ، جبان في خُلُقِهِ، وَحَرُونٌ إذا أشتد به الأذى وَمِنْ عَجِيبِ أَمْرِه أَنَّهُ إِذا شَمَّ رائحة الأسد رَمَى نَفْسَهُ عَلَيْهِ مِن شِدَّةِ الخَوْفِ، يُرِيدُ بذلك الفرار مِنْهُ " وبهذه الخصائص امتازت فصيلة الحمير بكل مكوناتها العرقية وعلى اختلاف مسمياتها عن باقي العجماوات بقدرتها على الانفلات من قانون صراع الاضداد لأنها قادرة بالطبع والتطبع على امتلاك الصفة ونقيضها في الوقت نفسه وبالمعنى ذاته وامتلاكها خاصية اصدار عشرة أصوات في نهيق واحد وهي ميزة مذهلة اهلت الكثير من الجحاش والأحمرة الى الارتقاء الى مقام التفلسف والكثير من البغال الى ارتداء ثوب الفيلسوف ولا عجب في ذلك فالفلسفة في البدء كانت وليدة التجحش وهو حالة انفعالية وجسدية مصحوبة بالشهيق والنهيق والرفس والركل والعض مع ضعف الانتباه وبلادة لا حدود لها.
رأيت فيما يرى النائم
الرواية والقصة ومنذ نشأتهما أشكال تعبيرية تحكي عن الانسان في تنافره وتماثله وتجاذبه مع الاخر المختلف عنه في تفاعله وصراعه مع الحياة وتقلباتها ومع الطبيعة وصلابتها وعنادها. فالرواية والقصة كما الفلسفة كلاهما ينطلق من سؤال ما الحقيقة؟ ولا تشذ عن هذه القاعدة رائعة “عودة الحمار” وهي رواية تدور حول حمار عاد إلى قريته بعد سفر طويل كتبت بأسلوب هزلي. وهي الجزء الثاني من سلسلة “حمار من الشرق” كتبهما محمود السعدني و الحقيقة انه ما ان فرغت من قراءة (عودة الحمار) ادركت ان مخزون الطاقة عندي قد استنزف فاستسلمت للنوم رويدا رويدا ورأيت ليلتها في ما يرى النائم انه قد تم استدعائي على وجه السرعة لحضور ملتقى وطني لتدريس الفلسفة وفق مقاربة جديدة ابدعها أبو جحش بن حمار بن اتان ورغم صغر سنه وعهده القريب بتدريس الفلسفة الا انها لاقت رواجا بين الجحوش على اختلاف تخصصاتها مما دفع بغل بن حمار بن فرس الى الإشادة بها والترويج لها وهناك رأيت كيدشون حمار الكونتيسه دي سيجور محملا بخواطره و“الحمار الذهبي” لصاحبه لوكيوس أبوليوس وحمار الحكيم وحتى حمار جحا..ورأيت الكثير من الحمير الفلسفية وما ان دخلت قاعة المحاضرات حتى شد انتباهي لافتة كبيرة كتب عليها: " من يريد أن يخترق الأسرار ويخترق ملاذات الحكمة الخفية، عليه بالضرورة أن يتظاهر بالرصانة والصبر، وأن يكون له خطم ورأس وظهر حمار" وبين الرفس والعفس والهمس واللمس وركل البغل ونهيق الجحش خرج الحضور بهذه التوصيات التي تلخص مبادئ وأسس المقاربة الحميرية لتدريس الفلسفة وقد جاءت على النحو التالي:
01- اول قاعدة في هذه المقاربة ضرورة الدوران مع العجلة والتكيف مع التفاهة فمدرس الفلسفة الفهامة العلامة وحيد زمانه وفريد عصره يدرك بحسه الحميري انه مطالب بواجب الالتزام بما هو مألوف والتمسك في جميع افعاله واقواله بمبدأ الثبات على المحور فهو متفرد عن الاخرين (لا يغير تفكيره ولا يعترف بجهله) حتى وان اتضح بالبداهة للجميع انه لا يفكر فالحمير منطقها صفري القيم لا تسمع ولا ترى ولا تتكلم وستبقى ما بقيت هذه المقاربة تدور وتدور من دون أن تحرك رقابها لأن فلسفتها الوجودية تتأسس على الدائرة بوصفها دوامة الغموض والفراغ والبحث العبثي واللاجدوى، والحكمة الحميرية ستتجلى في ابهى صورها بمجرد اسدال الاذنين وعدم النظر الى ما يرهق البصر.
2- الدرس الفلسفي في عصر الذكاء الحمير المصطنع ينفلت من التحديد وقد تجاوز طرق التدريس التقليدية انه درس متحرر من أي ضوابط منطقية يؤمن بأحقية الجحش في الانتقال من طور الى طور دون مساءلة بل انه من حقه وهو يتعلم التفلسف لأول مرة ان يتواجد في المكان الخاطئ والزمان الخاطئ ومن واجب الحمار الفيلسوف الذي يتبنى هذه المقاربة تجنب الوضعيات التي يمكن ان تضع الجحش موضع تساؤل وشك فلا احد من سلالة الحمير يمكن ان يكون موضع اختبار.
3- تدريس الفلسفة حق مشاع وملكية عامة لسلالة الحمير وحدها شريطة ان يمارس هذا الحق في الاصطبلات وفي المستودعات وبثمن معلوم.
4- تعليم النخبة الحميرية وتأهيلها للتدريس ضمانا لديمومة هذه المقاربة يخضع للتدرج فهو يبدأ بنصوص عن الحب الافلاطوني دون قراءتها ولا حاجة للجلوس الى مأدبة افلاطون او الاصغاء الى ما كان يقول كراتيليوس فاللغة الجحشية عائق يجب تجاوزه ويجب الانفتاح على طرق مبتكرة كالرفس والرقص والتمرغ.. وعلى الحمار الذي يتولى تدريس الفلسفة ان يتعلم انه كلما اطلق العنان لحماقاته واكثر من النهيق كلما كان الاقبال على حلقته الدراسية أكبر والقاعدة تقول " لا تفكر في ان تكون طرفا معلوما في المعادلات الرياضية" تحرر من كل تقييد فالحمير تكره التحديد ولا تؤمن بضبط المفاهيم وكن دائما مثل مينون عبد جاهل ومع ذلك هو قادر على يرسم مربعا هو ضعف لمربع معلوم كل ما عليك فعله ان تدور في حلقة مفرغة فالدائرة هي اكمل الاشكال الهندسية.
5- تذكر دائما ان تفكير الحمير لاعقلاني يرتكز على المجاحشة وعلى كوجيتو انا انهق واتناهق اذن انا موجود وعلى اعتبار ان فصيلة الحمير شهوانية تتلذذ بكل ما هو مادي فلا يمكن اكتراء حمار دون دفع ثمنه فان الذكاء الحميري غريزي بالضرورة ولايقدر ثمنه يستمد طاقته من الايروس والثاناتوس و الليبدو الحميري يتسامى الى حد الاشباع النرجسي خاصة عندما يستمد الحمار المتفلسف مادة ابداعه من أوامر ونواهي اذنيه وعينيه المغمضتين وهما فضيلتان لازمتان لكل حمار فيلسوف. وقد وصف نيتشه في مقطع من زرادشت التأثير الحميرى في خلق التناغم مع سنن الطبيعة قائلا:" قل لي الحياة ثقيلة لتحملها لكن لاتكن حساسا نحن جميعا حمير جميلة تحب حمل الأعباء. ماهو القاسم المشترك بيننا وبين برعم الورد يرتجف بسبب قطرة الندى على جسمه"
6- الحمار الفيلسوف مطيع ملتزم بتنفيذ البرنامج كما هو وعدم التردد بين " نعم " و " لا " فهناك دائما كفاءة واحدة تلخصها عبارة (ار..ار...) كفاءة لغوية منطوقة تختصر كينونة الحمار وتلخص معاناته الوجودية.
07- تأكد دائما انه عندما يتفلسف الحمار فانه لن يموت جوعا يقول هوميروس في الياذته:" كذلك الحمار العنيد يدخل الحقل، رغم جهد الأطفال الذين يكسرون عصيهم على ظهره يواصل رعي المحصول دون ان يقلق من الضربات الضعيفة التي تصل اليه وعندما يشبع ينسحب بصعوبة"
الحمار الولي الصالح (زاوية سيدي حمران)
قد ترتقي بعض الحمير بالمصادفة الى مرتبة الولي الصالح فيحج اليها الكثير من الباحثين عن وصفة النجاح بغير جهد أيام الامتحانات يتبركون بالبردعة ويتوسلون باذني الحمار الكبيرتين فالحمار الصالح مثل بعض الجن قد يسترق السمع مما يحدث في السماء وتوقعاته لا يمكن ان تخطئ وكيف لحمار افنى عمره في تدريس الفلسفة ودون ان يقرأ سطرا مما كتبه الفلاسفة ان يصدق لذلك حفلت كتب التراث بالكثير من الأكاذيب المنسوبة بهتانا الى الفصائل الحمارية ومنها: أن صديقين كانا مسافرين على حمار، وفي طريقهما مرض الحمار ومات، فقاما بدفنه، واحتارا في أمرهما، فقد كانا يستعملانه للركوب ونقل أمتعتهما، وكانا ينويان الاشتغال عليه بالبلد الذي يقصدانه، فأقاما فترة يفكران ثم عنت لهما فكرة غريبة؛ سرعان ما نهضا إلى تنفيذها، تتلخص في: إقامة (ضريح) على قبر الحمار، بدعوى أنه قبر رجل صالح، وولي من أولياء الله، وإشاعة أن زيارته تجلب البركة، وتدفع الضر، إلى غير ذلك من الأكاذيب. وصدقهما العامة، وأقبلوا عليهما دون حدود، وقسما العمل بينهما؛ على أن يمثل أكبرهما دور الشيخ الوسيط، ويقوم أصغرهما باستقبال الزوار، واستعلام أحوالهم، ومن ثم تسريبها إلى الشيخ للإفادة منها في مفاجأة الزائرين والتأثير عليهم. ومرت الأيام على هذا النحو، وأخذا ثروة كبيرة، وملأ الطمع نفسيهما، واتهم أحدهما الآخر بأخذ حصة أكثر من الدخل. فقال المتهم مطمئناً صاحبه: أحلف لك برأس سيدي حمران (يعني الحمار المدفون) أنني صادق في تعاملي معك. فقال الآخر على مين؟ نحن دافنينو سوا
وكتخريج عام:
قدر الحمار الفيلسوف ان يقف دائما في المنتصف فلا هو قادر على ان يشرب من دلو الحقيقة ولا على ان يشبع غريزته فشهوته لا حدود لها ومن يريد ان يتفلسف كالحمار فليمت كالحمار. ومن يصاحب الحمار فليتحمل عضاته وركلاته حيث يحكى أن أحد ملوك الزمان، كان عنده جحش كر ابن آتان، رباه في قصره مربى الدلال، وكان يطلقه بين جلاسه، فيدخل إلى الديوان أمام الوزراء والسفراء والأعيان وينهق ويتمطى بدون استئذان، فينشرح خاطر الملك، ويُشرق وجهه بالرضا والاستحسان. وكان بعض كبار الحاضرين، من السادة المتملقين، يبادرون إلى القول: هالجحش ! مش ناقصو إلا يحكي ! يا عمي جحش الملك ملك الجحاش، وكل شي على بابو بيشبه صحابو. لازم مولانا الملك يحط معلم خاص يعلم الجحش يقرا ويكتب، يمكن يصير فيلسوف زمانو.. فوجدت هذه النصيحة قبولا في نفس ! الملك، وأمر بإحضار أحد كبار فلاسفة ذلك الزمان وطلب منه أن يعلم الجحش القراءة والكتابة. قال الفيلسوف: هذا غير ممكن، لأن أفلاطون كبير فلاسفة الدنيا يقول: (الإنسان حيوان ناطق،، أما الجحش فهو حيوان غير ناطق. فغضب الملك وأمر بشنق الفيلسوف، ثم استدعى أمير شعراء المملكة، وطلب منه أن يعلم الجحش القراءة والكتابة. قال الشاعر: هذا غير ممكن، لأن الشاعر العربي يقول: تَعَلَّمْ يَا فَتَى فَالجَهْلَ عَارُ***وَلَيْسَ بِجَاهِلِ إِلَّا الْحِمَارُ فأمر الملك كذلك، بشنق أمير الشعراء....أمر الملك أن يُنادى في المدينة أن جلالته خصص مكافأة كبرى لمن يستطيع تعليم الجحش، فانبرى لهذه الغاية رجل شيخ عجنته الأيام وخبزته التجارب، ودخل وجثا، وقبل الأرض أمام الملك، ثم التفت صوب الحمار وحياه بجد ووقار.. فانبلج ثغر الملك عن ابتسامة عريضة، وهتف: إذن أنت تفهم لغة الحمير !. قال الرجل: أجل يا مولاي ! وها هوذا الحمار يرد التحية إلي بمثلها، وذلك برمشة من جفنه وعطفة من أذنه، فليطمئن بال سيدي الملك، إنما لا خفاكم الأمر، أن القضية تأخذ بعض الوقت، وتستوجب بعض المصاريف لتأمين الأغذية والأشربة التي تشحذ ذهن الحمار وتساعده على الحفظ والاستظهار، والجوز والصنوبر والزنجبيل وشراب البيلسان والعسل والزبيب والخولجان وغير ذلك، وأملي بالله، إذا سلمتني هذا الحمار الآن، أن أعود به إليك بعد خمس سنوات وشهادته في رقبته. فأمر الملك بفتح اعتماد خاص لهذه الغاية وضعه تحت تصرف الرجل، وسلمه الحمار، فجره وخرج به. وكان بعض أصدقاء الرجل قد تجمعوا خارجاً، و قلقت أفكارهم عليه، فإذا به يخرج والجحش وراءه، ويخبرهم بما حصل... قالوا: ولكنك رجل مجنون، ماذا تفعل بعد خمس سنوات؟ قال: بعد خمس سنوات، إما أن يموت الحمار، وإما أن يموت الملك، أو أموت أنا!.
***
علي عمرون – تخصص فلسفة