قضايا
أنور ساطع أصفري: العالم بين التخمة والفقر والمجاعة
الفقر والجوع هما موضوعان مترادفان يتعلقان بالظروف الاجتماعية والاقتصادية للأفراد في مجتمعٍ ما، فالفقر هو قلة سبل العيش، والمجاعة عبارة عن إرتفاع مستوى قلة سُبل العيش ليتحول إلى شح.
لو تأمّلنا ملياً في المجتمع الدولي لوجدنا أن هناك طبقة متخمة في كل شيء، في الطعام، في المال، في السلطة، في التحكّم بكافة الأمور بدون أي منافس لها.
وبنفس الوقت هناك طبقة فقيرةٌ وجائعة، لا تتحكّم حتّى في أبسط أمور معيشتها.
ولو تأمّلنا وتعمّقنا أكثر لوجدنا أن المسافة ما بين الطبقة الأولى والطبقة الثانية لوجدناها شاسعة جداً، وما دامت المشاعر الإنسانية مهجورة وميتة، فإن هذه المسافة ستزداد يوماً بعد يوم إلى أن تصل كالمسافة بيننا وبين السماء.
إذا استفاقت طبقة المتخمين وأدركت الفارق بينها وبين طبقات المجتمع الأخرى، قد يتقلّص الفارق، لكنها ما دامت تتحكّم بكل شيء، وأنها استثنائية في كل مجال، حينها أعتقد أن الدرب سيقود إلى الفوضى لأن ثورة الفقراء والجياع لا تُهزم، ولا تستطيع أي جهةٍ أن تُواجهها، وإذا اندلعت ستأكل الأخضر واليابس.
في زمن الوفرة والترف والبذخ تنتشر دعوات لمعالجة أزمة وقضية المجاعة في العالم.
صحيح تحدث المجاعة في جانبٍ آخر بسبب الحروب مثلما حدث في جنوب السودان سابقاً، وكما يحدث الآن في فلسطين المحتلة من خلال جرائم حرب الإبادة التي تشهدها.
كما تحدث المجاعة الآنية بسبب الكوارث المناخية المدمّرة.
وكما هو معلوم أنه مع انتشار المجاعة تنتشر الأمراض وتبدأ خسارة الأرواح.
مع الأسف أن المُصابون بالتخمة يُفرطون في تناول الطعام دون أي شعورٍ بالجوع، وتعترف هذه الشريحة بأنهم يتناولون أيضاً وجبات خفيفة أو متوسطة بين وجباتهم الرئيسية، فهذا الإفراط في تناول الطعام لدرجة التخمة هو تصرف غير مسؤول، ويفتقد الوعي في التصرف، فهؤلاء البشر لا يدركون فعلاً حجم الكميات التي يستهلكونها لمفردهم، وكثيرون تكون حاجتهم للإفراط في تناول الطعام هو بالليل، وقد يكون السبب هو مشاعر معينة، أو إحباط ما، أو فراغ يتم ملؤه بتناول الطعام.
وفي هذه الحالة يكون تناول الطعام المفرط هو علاج لمشاعرٍ ما، وهو بالمحصّلة الإفراط العاطفي للطعام.
كما علينا أن نأخذ بعين الإعتبار أن العالم ومنذ 15 عاماً ولج في منحى أهداف التنمية المستدامة، وكانت هذه الأهداف بمثابة قراراً أُمميّاً وضع أهدافاً عديدة يتفرع منها أكثر من 160 بند، ووُضعت بمجملها أمام مسؤولية المجتمع الدولي بدوله وأنظمته، وأمام مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية المعنية بهذا المجال، ولعل من أهم الأهداف التي وردت هي : القضاء على الفقر - القضاء على الجوع - تأمين الصحة الجيدة والرفاهية - التعليم الراقي - المساواة بين الجنسين - النظافة الصحية والمياه النقية - نمو الاقتصاد - العمل اللائق - الإبداع والابتكار - سلامة البيئة التحتية - البيئة والمجال المناخي - السلام والعدالة - المؤسسات المتينة والمبدعة.
وكان من المفروض أن الدول الكبرى والغنية تساهم بشكلٍ فاعل وجدي لمسار هذا البرنامج. ولكن تبيّن فيما بعد؟ ان السخاء كان كبيراً، لكنه ظلّ اسما فقط وعلى الورق، بعيداً عن المستوى العملي أو التطبيقي، باستثناء عدة دول لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، حتّى الولايات المتحدة بقيت مساهمتها غامضة، إن كان من ناحية المبلغ أو من ناحية موعد السداد. وتبيّن فيما بعد أيضاً أن العجز في هذا البرنامج بلغ حوالي 40 مليار دولار.
صحيح أن هناك بعض الدول قدمت للفقراء وللدول الفقيرة، لكن نسبة الفقر لم تشهد أي تراجع، بل تتزايد أكثر فأكثر.
أي نظامٍ مُعقّد يعتمد على القمع والهيمنة وبسط النفوذ، من الطبيعي أن يكون من نتائجه فقر وجوع، وهدف هكذا نظام هو الإساءة لكرامة المواطن وجعله يشعر بالضعف أو بالإحباط.
الإنسان من حقّه الطبيعي أن يحصل على الغذاء والضمان الاجتماعي والحق في الغذاء الكافي، وبسبب انعدام الأمن الغذائي وتفاقم عدم المساواة، وغياب العدالة والحريات، ملايين البشر يُعانون من انعدام الغذاء والفقر والجوع.
وبحسب برامج التنمية المستدامة لعام 2030 " سينخفض الفقر بشكل كبير بحلول عام 2030 "، ولكن من يتابع مجريات الأمور يرى أن الفقر والجوع لم يتراجعا رغم ما يصرح به من جهات عديدة من جهود تُبذل.
بل على العكس تماماً سنجد أنفسنا وبحلول عام 2030 أمام 275 مليون شخص إضافي لعدد من يُعانون الفقر والجوع الآن وعددهم 850 مليون إنسان.
وهذا يُؤكّد بأن استجابة العالم لمواجهة الفقر والجوع ليست طموحة، وليست فاعلة وفق المعطيات الميدانية.
لذلك أشار البنك الدولي في تقريره - اكتوبر 2024 - " إلى أن القضاء على الفقر كما هو مُحدد قد يستغرق أكثر من قرنٍ من الزمن، إذا استمر العمل على نفس الوتيرة البطيئة التي نشهدها اليوم ".
آخذين بعين الاعتبار أن الانتكاسات الخطيرة التي جاءت في هذا المجال تأثرت بتباطؤ النمو الاقتصادي وارتفاع الديون والصراع والهشاشة وتغير المناخ.
وهذا يؤكّد مرة؟ أخرى بأننا بحاجةٍ إلى برنامج جديد، لأن اسلوب العمل المعمول به لن ينجح في تحقيق الأهداف المرجوة.
ليس سراً أن نقول بأن الفقر والجوع هو ناتج سياسي.
تمتلك هولندا ما يُقارب مليون و600 ألف رأس من الأبقار، جعلتها من أقوى اقتصاديات العالم. لأنها حريصة على وضعها وعلى شعبها وعلى مكانتها وسيادتها، وخالية من الفساد والسطو ومن المتسلقين، وحرية وكرامة المواطن في المقام الأول.
تمتلك السودان بمفردها حوالي 45 مليون من الأبقار، وتمتلك الدول العربية في القارة الأفريقية حوالي 80 مليون رأس من الأبقار، إضافة إلى ملايين من الأغنام والجمال والجاموس والخيول، وتمتلك السودان والصومال ومصر وسورية والأردن والجزائر 225 مليون رأس من الأبقار والأغنام.
هذه الدول العربية تمتلك عشرات أضعاف ما تملكه هولندا، ولكن بلادنا العربية، الفساد متفشي، المواطن مهمش، المال العام مسروق لصالح مراكز القوى، السلطة هي ما يفكر به كبار المسؤولين، والصراع قائم عليها من عشرات السنين، مع الأسف السلطة هي في المقام الأول، أمّا السيادة وكرامة المواطن والعمل الراقي والتعليم الجيد والرعاية الصحية اللازمة والحريات والتداول السلمي للسلطة، هي أمور هامشية مكانها تحت أقدام السلطان، السلطان المنغمس بالتبعية العمياء التي تحميه من شعبه وتؤمّن له البقاء على الكرسي، ما دام مطيعاً ومنفذاً لما يُملى عليه.
فعلى الدول التي ترغب بمعالجة واقعها، وتأمين كرامة ومعيشة المواطن لديها، عليها الاعتماد الجاد على تغيير السياسة المعمول بها، وإعطاء المواطن وضعه الطبيعي، وإطلاق الحريات، وإغلاق المعتقلات، والعمل على التداول السلمي للسلطة، وتحقيق النمو الاقتصادي، وزيادة الاستثمار، وخلق فرص عمل وتنمية رأس المال البشري، وتطوير البنية التحتية، وتحسين القدرة على مواجهة الواقع، والصمود أمام المطبات، وزيادة التمويل من أجل التنمية، ليتم التحوّل بشكلٍ سلسٍ وطبيعي إلى اقتصاد أكثر شمولاً واستدامة وقدرة على البقاء.
وبذلك تتمكن هذه الدول من بتر ظاهرة الفقر والمجاعة، والحفاظ على كرامة المواطن، ليكون مُشاركاً فاعلاً في صناعة القرار السياسي والاقتصادي في البلاد.
***
د. أنور ساطع أصفري