قضايا

عدي عدنان البلداوي: ثقافة العقل الديني في عصر التقنية الرقمية

لا يكاد يخلو عصر من العصور من جهودٍ لعلماء وباحثين في شؤون العلم والدين . ففي وقت لم يكن فيه العلم متمكناً من تقديم اجابات مقنعة، كان الدين حاضراً في تصورات الناس واعتقاداتهم . ثم جاء وقت انحسرت فيه قدرة البحث الديني عن تقديم اجوبة مقنعة أمام ما يحرزه العلم من انجازات جذبت الأذهان والنفوس اليها، ففي نهاية القرن التاسع عشر مثلاً كانت الآراء لصالح غلبة العلم في قدرته على اعطاء وصف مقنع للحياة واجابات كافية لأسئلة اثارتها طبيعة الاحداث . في هذا الصدد يذكر الكاتب المصري عباس محمود العقاد في كتابه (آراء المفكرين في القرن العشرين) ان جيمس فنز جيمس ستيفن كتب في سنة 1884م يقول: (اذا كانت الحياة الانسانية في نشأتها قد استوفى العلم وصفها فلست أرى بعد ذلك مادة باقية للدين، إذ ماهي فائدته وما هي الحاجة اليه ؟ إننا نستطيع ان نسلك سبيلنا بغيره، وان تكن وجهة النظر التي يفتحها العلم لا تعطينا ما نعبده فهي كفيلة ان تعطينا كثيراً مما نستمتع به ونتملاه) (1). وعن القرن العشرين يقول عباس محمود العقاد (نحسب اننا نجمل سمة القرن العشرين اصدق إجمال حين نقول: انها هي سمة الشك في الإنكار) .. ويقول العقاد (فليس من صحة الحكم ولا من صدق النظر ان يقال ان سمة الإيمان غالبة على القرن العشرين أو بينة الأثر فيه، ولكنه صحيح ولا ريب ان يقال ان المنكر في القرن العشرين لا يستطيع ان يستند الى اسباب من العلم يسلمها المفكرون كما كانوا يسلمون اسباب الإنكار في القرن السابع عشر، او القرن الذي يليه الى اوائل هذا القرن الذي نحن فيه) (2).

كان الأثر الذي خلفه اكتشاف كوبرنيكوس حول الأرض صادماً للمتلقين الذين يسيطر العقل الديني على تفكريهم لأن الارض في اعتقادهم مركز الكون، بينما هي كوكب صغير في مجموعة شمسية ضمن سلسلة كبيرة من المجموعات قد يصل عددها الى الآلاف في اعتقاد كوبرنيكوس .

ترى كيف هو تصور انسان اليوم في القرن الحادي والعشرين حيث التطور التقني المتسارع وثورة المعلومات والتدفق الهائل للبيانات، وهو يسمع تحليلات وتوقعات علمية تتحدث عن تهديد يتوعد الحياة على هذا الكوكب الصغير؟.

بالأمس كان لمذهب النشوء والارتقاء لـ (دارون) اثره السلبي في النفوس عندما عرف الانسان بالحيوان الناطق، وان نشوءه وتطوره لا يختلف عن الكائنات الحية الأخرى .

اليوم وفي مجال الذكاء الاصطناعي هناك مشاريع تعمل على انتاج روبوت يعيش مع الانسان، ومشاريع اخرى تعمل على تقنية متطورة لدمج الانسان بالآلة . فكيف سيكون تصور الانسان للدين في القرن الواحد والعشرين وعن حاجته اليه، اذا دخلت الروبوتات الصغيرة الدقيقة الذكية الى جسمه وراحت تنظم مستوى السكر في دمه وتنظم ضربات القلب وضغط الدم ولزوجته، الخ.. . يضاف الى كل ذلك ما تتناقله وسائل الإعلام ومراكز الابحاث من معلومات حول برامج ومشاريع عالمية تهدف الى تعميم ثقافة واحدة يفرضها الأقوى والأقدر اقتصادياً وعسكرياً وتقنياً، فأي تصور عن الدين سيكون عندئذ في ظروف لا يتوافر للناس فيها غير الإذعان لواقع الحال والقبول بالتبعية للأقوى ضماناً للبقاء .

لعلي لا أقلل من شأن الجهود المبذولة في دراسة تقارب الحضارات وحوار الحضارات اذا قلت انها مشاريع لا ترمي الى وحدة النوع الانساني بقدر ما ترمي الى جمع المتشابهات واعادة بثها من خلال مركز القوة الأكبر عالمياً بهدف إلغاء وتذويب الخصوصيات التي تتسم بها كل ثقافة، لكي يصبح الجميع تبعاً لحضارة جديدة واحدة على وفق تلك المشتركات، اذا اخذنا في نظر الاعتبار ان كثيراً من الجامعات العالمية الرصينة لا تقوم بأبحاث كبيرة مثل حوار الحضارات ووحدة الأديان وغيرها إلا بتمويل وإيعاز أو بطلب من جهات عالمية متنفذة، لها مآربها التي تريد ان تحققها من خلال النتائج التي يتوصل اليها العلماء .

واذا كانت ثنائية الخير والشر قد هيمنت على اجواء القرن العشرين بسبب تذمر الناس من الحروب العالمية بما نتج عنها، فإنني اعتقد ان ثنائية الوهم والحقيقة هي التي تهيمن اليوم على اجواء القرن الواحد والعشرين، فقد قدّمت التقنية المتطورة تعريفات جديدة لمفاهيم الحرية والكرامة والشخصية، وصارت هذه المفاهيم تتحرك وتعرف في مجال المال والاعمال ومشاريع الاقتصاد السياسي العالمي .

ارتبط ايمان عامة الناس بالدين من خلال حب الحياة المرتكز على ثنائية الرزق والعافية، فكانت حياتهم بسيطة حتى القرن العشرين تقريباً، إذ كان للقناعة فعلها المؤثر، وللقول (رزق قليل دائم خير من كثير منقطع) ما يعزز تلك القناعة، فكان الناس في العالم العربي الإسلامي يقبلون بالقليل ويقنعون باليسير، وكانت الطبيعة أكثر رفقاً بصحة الانسان منها اليوم إذ لم تسجل الارتفاع في عدد الامراض والاوبئة الذي تسجله اليوم . خدم ذلك حضور البعد الروحي للدين في تفاصيل حياة الناس، فكانت الاخلاق والالتزام الديني سمة بارزة في الهوية الشخصية للفرد العربي . فماذا عن الدين في تصورات الناس في القرن الواحد والعشرين وهم يقرأون ويسمعون عن اجندات ومشاريع عالمية تمول ابحاثاً علمية لانتاج اوبئة وفيروسات الكترونية وبيولوجية لحمل الناس على شراء اللقاحات والعلاجات التي تحميهم من الإصابات المحتملة بتلك الاوبئة المفتعلة ؟ لا شك انه امر مقلق .

ان قدرة الناس على التعامل مع التطورات المرحلية التي يترتب عليها المساس بالدين ، أو محاولة تغييره كانت كبيرة في الماضي بحكم الظروف المرحلية للبيئة المحلية والاقليمية والعالمية، كلها اجمالاً كانت الى جانب الحضور الفعال للبعد الروحي للدين في مفاصل الحياة . أما اليوم فقد أخذت طاقة تحمل الناس تتراجع عما كانت عليه بالامس، فالصبر لم يعد سلاحاً مؤثراً كما في السابق لأن ادوات العصر الجديد اختلفت عن السابق، هي اليوم اكثر تطوراُ وفاعلية وجاذبية . فعصر التقنية المتطورة قد لا يدعم تغييب الدين في حياة الناس لكنه بكل تأكيد يدعم وبقوة فاعلية حضور العلم المادي ويبشر بقدرته على حل جميع مشاكل الناس، فبرامج الذكاء الاصطناعي تعمل على توفير حلول مقبولة تناسب ظروف كل مرحلة، وان كانت تلك الحلول لا تتوافق مع المنطق الاخلاقي والديني والانساني  المسلّم به، وهذا بحد ذاته كاف لكثير من الناس الذين لم يعودوا يسألون ان كان مهماً تحقيق هذا التوافق ام لا، فالوضع العام اقتصادياً وثقافياً لم يعد يتقبل مفاهيم الدين والقيم والاخلاق والمثل العليا الا في الحدود التي لا يتقاطع تفعيلها مع المصلحة الخاصة . والذين لا يزالون يعتقدون بالدين والقيم والمثل العليا والاخلاق ويدافعون عنها بدأوا يشعرون بالغربة داخل مجتمعاتهم واوطانهم ولعلهم يعيشونها فعلاً، إذ لم يبق لهم في عصر السرعة وازدياد متطلبات الحياة سوى المجاملات الاجتماعية والثقافية وسيلة للتعامل مع الآخرين .

في إطار معطيات العصر الجديدة لم يعد الواقع قادراً على توفير أرضية خصبة للتفكير الموضوعي، كما ان البحوث الدينية لم تقدم ما يثير الفرد والمجتمع ويدعوهم الى التثبت والتشبث كما تفعل البحوث العلمية ومخرجات عصر التقنية الرقمية متسارعة التطور.

كان الذوق العام يشكل قوة كبيرة مانعة لحركة السلوكيات الشاذة والمنحرفة والغريبة، وكان الذين يعلنون عن مواقفهم وعواطفهم الغريبة او الشاذة يجازفون بحياتهم كونهم يعرضون النسيج الإجتماعي والبناء الإجتماعي الى الأذى والضرر . اما في عصر التقنية فبعد ان اخذ مفهوم الحرية مساحة فهم مرنة جداً عبر وسائل التواصل الإجتماعي فقد تجرأ كثير من الناس على استخدام تلك التقنية للتعريف بهواهم وميولهم وافكارهم وعواطفهم ومواقفهم دون اعتبار لما يمكن ان يلحقه ذلك من ضرر بالذوق العام للمجتمع، فانتشرت المحتويات الهابطة على مواقع التواصل الإجتماعي، منها ما يعرّض كرامة وسمعة وشرف صانع المحتوى الى الانتقاص بدافع نشر الغريب والمثير من أجل كسب اكبر عدد من المعجبين والمتابعين وهو ما يضمن كسباً مالياً اكثر بحكم سياسة عمل شركات الإنتاج الالكتروني المصنعة لتلك التطبيقات الالكترونية، ومضى الحال ببعض المحتويات الهابطة افتعالها الأكاذيب ونسبتها الى أشخاص والى مصادر معتبرة من الكتب والكتاب والمفكرين، مستغلين ضعف الإرتباط بين مجتمع اليوم وبين حقيقة ثقافته من جهة، والإعتماد الكلي لكثيرين على شبكة الإنترنت في استحصال المعلومات كمصدر وحيد بالنسبة لهم . وبرزت هنا مشكلة ثقافية خطيرة تتمثل في اقتحام بعضهم منصات التواصل والتطبيقات الرقمية لبث افكار مغلوطة أو مموهة أو منقوصة، واحياناً لتقديم افكار غريبة ذات صلة باعتقادات متأصلة في ثقافة العقل العربي عبر طروحات معتبرة يعاد صياغتها لعرضها على المتلقي على انها طروحات علمية وفكرية وثقافية واجتماعية، وهنا قد تدخل الخطورة على خط البث المباشر عندما تكون هناك اجندات تحركها شركات عابرة للانسانية تريد اعادة هيكلة الوجود البشري في اطار رقمي تقني يرتكز على ثنائية الانتاج والاستهلاك فقط دون اعتبار أو اهمية لمشروع انسنة الوجود البشري في العالم الرقمي .

في عصر التقنية المتطورة لا مجال لتعريض إيمان الآخرين الى التشكيك ما داموا لا يرون انفسهم خارج دائرة فكرة الإيمان وان اظهروا سلوكيات أو افكار قد تضعهم موضع الشك، لذا نحن بحاجة اليوم في واقعنا الثقافي الديني والعلمي الى نقد يتجاوز فكرة الإيمان ليصل الى نقد فكرة التعبير عن ذلك الإيمان .

يقول السير آرثر إدنتجون في كتابه (فلسفة العلم الطبيعي) (نحن حتى في العلم ندرك ان المعرفة ليست بالأمر الوحيد الذي نعتد به، ونسمح لأنفسنا ان نتحدث عن روح العلم .. وان اعمق من كل قضية من قضايا النكران لهي العقيدة التي هي قوة خالقة اهم مما نخلقه .. وفي عصر العقل تظل العقيدة راجحة لأن العقل بعض مادة العقيدة) .

عندما يتحرك العقل المعاصر بدافع القوة المادية للتقنية المتطورة في مناقشة أفكار وآراء وإعتقادات يدخل فيها البعد الروحي فإنه يعرض نفسه الى الخطر حين يسأل عن كيفية إثبات حقيقة الوحي تحت المجهر العلمي ولمّا تعذّر عليه ذلك انحرف عن حالة التوازن باتجاه حالة القلق الباعثة على الشك، وراح يترجم اضطرابه على شكل استفهامات عن حقيقة اتصال الأنبياء بالله عن طريق الوحي الذي لم يثبت له وجود في مختبرات العلم المتطور في عصر التقنية . لقد حصل هذا بالفعل وهو وان كان على نطاق محدود لكن لا يوجد في فضاء العالم الرقمي ما يمنع اتساعه . لذا يدعونا حسّنا الثقافي الى تحمل مسؤولية ما سيخيم على مناخ مستقبل ابنائنا من اعتقاد وتفكير خصوصاً وان انسان اليوم لم يعد يكترث للصورة التي كان عليها في الماضي بقدر انشغاله بالصورة التي سيكون عليها غداً في ظل مشاريع الذكاء الاصطناعي المثيرة والجذابة التي تعده بقدرتها على منحه العمر الذي يريده في حياته، وتشتغل بفاعلية كبيرة من اجل ان توفر علاجات لتقدم العمر .

يحتاج الواقع الثقافي الديني والواقع الثقافي العلمي الى علم موضوعي جديد يتناسب مع المتغيرات العالمية في كل المجالات، فعندما يتفق العلماء على ان حياة الانسان لم تخل في اي مرحلة من مراحلها من وجود دين فيها . كما يتفق العلماء على ضرورة العلم في تطور حياة الانسان، فإنني أرى ان هذا الاتفاق والتوافق لا يمكن ان يحدث في حدود العمر الزمني للانسان فقط دون عمره النفسي، كما ان الشخصية بشكل عام لا يمكن ان يحددها المظهر الذاتي للشخص دون المحتوى الموضوعي له . فعندما لم يصل العلم حتى اليوم الى طريقة صحيحة ودقيقة لتشخيص درجة ومقدار نضج الشخص فقد استحوذت التفاهة والاستغفال على مساحات نظيفة في حياة الناس، الأمر الذي ترك آثاره السلبية على نظرة الجمال التي يفترض ان يرى بها الناس وجودهم في الواقع او في الأذهان فقد ساءت الظروف حتى غاب الجمالي الحقيقي وحل محله المظهر المبرقّع بعمليات التجميل والشد والجذب والإضاءة والإعلام والتزييف الثقافي للحقائق . لقد تمكنت لغة الخداع والترقيع  من ثقافة المجتمع بعد إدخال تفعيلات رقمية عليها فصارت المشاريع الثقافية مشاريع استثمار تهدف إما الى مزيد من الكسب المالي أو الى مزيد من ترقيع ثقافة واقع مجتمعات اليوم فهي مشاريع توظيف لأجندات معينة اكثر منها مشاريع تثقيف يرتجى منها تمكين المجتمع ثقافياً، ففي انشطة ثقافة السلطة هناك قصور للثقافة في كل محافظات البلاد في العراق وهناك مكتبات مركزية يتم اعادة تأهيلها على وفق التطور التقني والعمراني وهناك دورات فنية ومسابقات أدبية وجوائز نقدية، ومعارض فنية ومعارض كتب . وهناك غياب واضح ومخيف للوعي الموضوعي كحالة اجتماعية عامة وكحالة خاصة في حياة كثير من الناس . فقد نجد أشخاصاً بمؤهلات اكاديمية يوظفون القضايا الكبيرة في اعتقادات الناس مثل رفض الاحتلال ورفض التطبيع ورفض الاستعمار عبر كتابات ولقاءات ومقاطع فديو يخضع انتاج نصوصها وموادها الى قوة واحدة غالبة على مشهد الحياة العامة في العالم وهي قوة العلم في مساره التقني والاصطناعي فيسوّقون للناس افكارهم المادية الأحادية الاتجاه على انها هي المنقذة والرامية الى تطور العقل الثقافي العربي من خلال إضعاف وتغييب فكرة ان قوة الدين لا يزال بمقدورها اقامة حضارة عربية جديدة في عصر التقنية، فيثيرون بدلاً عنها فكرة ان الدين انتهى كقوة امام قوة العلم التي باتت قادرة على اعطاء اجوبة وتفسيرات لكثير من القضايا التي هيمنت عليها ثقافة العقل الديني لسنوات طوال دون ان تتمكن من تقديم ما يقنع العقل المعاصر في ظروف العالم الجديدة . لذا فإننا اليوم بحاجة الى البحث في انثروبولوجيا الواقع من حيث التسليم بثنائية حضور الدين والعلم في منح الوجود صفة الحيوية الواعية التي يتميز بها الانسان عن غيره من الكائنات الحية . والتسليم باهمية حضور ثنائية الوعي التلقائي والوعي الموضوعي، واهمية حضور ثنائية العمر الزمني والعمر النفسي للانسان، واهمية حضور لغة الوعي الانساني أمام لغة التقنية الرقمية،  واهمية تفعيل مشاريع صناعة الوعي الإنساني أمام مشاريع صناعة الذكاء الآلي، لنصل الى حالة التوازن التي دعا اليها نبي الأمة الخاتم حين قال: (اطلبوا العلم طلباً لا يضر بالعبادة واطلبوا العبادة طلباً لا يضر بالعلم) .

***

د. عدي عدنان البلداوي

....................

1- كتاب أراء المفكرين في القرن العشرين - عباس محمود العقاد الصادر سنة 1984م عن دار المعارف في بيروت - ص23

2- كتاب أراء المفكرين في القرن العشرين - عباس محمود العقاد الصادر سنة 1984م عن دار المعارف في بيروت - ص27

في المثقف اليوم