قضايا

ثامر عباس: مثقفو الطوائف وفتوحات عصر الذكاء الاصطناعي!

إذا ما استبعدنا مثقفي بلدان العالم المتقدم (الغربي) عن دائرة المناقشات والمجادلات، إزاء طبيعة آرائهم ومواقفهم وتوقعاتهم حول فتوحات عصر (الذكاء الاصطناعي) وما يخبئه من نذر ومحاذير أو بشائر ومفاخر، باعتبار كونهم ينتمون الى ذات البيئة التاريخية والحضارية والمعرفية التي ساهمت بخلق الأسس العلمية والمقومات التكنولوجية، التي كان من شأنها تطور العقل الإنساني والارتقاء بمقومات وعيه الى مديات سامقة، لم يكن - قبل عقدين أو ثلاثة – حتى مجرد التفكير بها ناهيك عن تخيل أبعادها. بحيث ان كل مرحلة من مراحل التقدم العلمي والتطور المعرفي تأتي في سياقات اجتماعية وثقافية ونفسية (مهيأة) على نحو مسبق مما يتيح الانفتاح عليها واستقبال معطياتها، دون حصول تصدعات بنيوية وأزمات إنسانية تطال كيان المجتمع بعموم جمهوره من العامة والخاصة.

والحال، إذا ما أتيح لنا مقارنة ما تقدم على صعيد تعاطي مثقفي بلدان العالم المتخلف (الشرقي) مع تلك الفتوحات المتسارعة وما قد يتمخض عنها من نذر ويترتب عليها من مخاطر، فالواجب يستدعينا بداية مراعاة الخصائص النوعية للبيئة التاريخية والحضارية والمعرفية التي ينتمي إليها هؤلاء (النخبة)، قبل أن يصار الى البحث في طبيعة آرائهم ومواقفهم وتوقعاتهم حيال حصائل ونتائج ثورات (الذكاء الاصطناعي) المتسلسلة من حيث التتابع والمتناسلة من حيث الانتشار، والتي لا تني تستدعي فقط هواجس الخوف والقلق لدى شعوب البلدان (الرائدة) في هذا المجال البايوتكنولوجي فحسب، وإنما تثير الرعب والهلع لدى نظيرها شعوب البلدان (الراكدة) التي طالما كانت سرعة الانجازات العلمية وتوالي الابتكارات التقنية تباغتها وتفاجئها، إن لم تكن تحبطها وتجعلها في حالة من اليأس القنوط، على خلفية اتساع البون وبعد الشقة بينها وبين المراحل المعرفية والحضارية التي قطعتها شعوب العالم الأول. 

ومن هذا المنطلق، يمكننا تصور الكيفية التي يصوغ من خلالها (مثقفي) البلدان المتخلفة تصوراتهم ومواقفهم، ويعينوا طبيعة ردود أفعالهم وسلوكياتهم، ويرسموا حدود تطلعاتهم وتوقعاتهم، ويتاح لنا، بالتالي، الحكم على قدراتهم وإمكاناتهم في مواجهة المفاجآت والتحديات التي من المؤكد أن مخرجات (الذكاء الاصطناع) المتزايدة والمتسارعة، ستزعزع معمارهم المعرفي المتهالك، وستطيح بالكثير من ثوابت أفكارهم المبتسرة وتصوراتهم التقليدية التي ألفوها وتآلفوا معها، ليس فقط حيال الديناميات والسيرورات التي تتطور بموجبها المجتمعات المتقدمة والمتخلفة على حدّ سواء فحسب، بل وكذلك إزاء الخيارات والمسارات والمئالات التي ستتجه إليها في المستقبل.  

ولأن البنية الفكرية – المعرفية لمثقفي البلدان المتخلفة بنية رثة ومتآكلة لا تقوى على مغادرة معازلها الميثولوجية وأنساقها التصورية، فالمؤكد إن تعرض حاملي تلك البنية لصدمات عصر (الذكاء الاصطناعي) وما تحمله معها من زلازل ونوازل، من المرجح أنها ستطيح بكل ما تواضع عليه الإنسان من قيم ومبادئ ومثل على مدى أجيال متعاقبة، ستجعلهم في حالة من التيه والتخبط لا يحسدون عليها. ففي الوقت الذي لم يبرح فيه مثقفي (الطوائف) من التمترس والتخندق خلف انتماءاتهم البدائية وهوياتهم الهامشية وثقافاتهم الفرعية، ويحرصون كل الحرص على ثبات ولاءاتهم العصبية للجماعات المتشظية على أساس (القبائل / العشائر)، والمتذررة على أساس (المذاهب / الطوائف). فان فتوحات ومخرجات عصر (الذكاء الاصطناعي) وصلت الى حدّ إن كينونة الإنسان ذاته باتت محط شك وتساؤل !، لا من حيث طبيعته الاجتماعية ونزعته الحضارية التي جبل عليها فحسب، وإنما من حيث ماهيته البايولوجية كمخلوق بشري وتكوينه السايكولوجي كنوع ثقافي أيضا".

وهكذا، فالأرجح ان عصر (الذكاء الاصطناعي) التي باتت ملامحه تتكشف يوما"بعد يوم، سيكون وبالا"على مجتمعات البلدان المتخلفة والمتخلعة، ليس لأن ما يفصلها عن مسارات التطور العلمي والحضاري التي خاضت غمارها مجتمعات الغرب المتقدم سنين ضوئية، بحيث ان أي متغير يطرأ على تلك المسارات سرعان ما يجد صداها وقد انعكس بصيغ من الأزمات والتصدعات والصراعات فحسب، وإنما لكونها أدمنت حالة العبودية السياسية والعطالة الفكرية والقطيعة الحضارية. ولتدارك الوقوع في هذه المحنة – الكارثة، أو على الأقل التخفيف من شدة وطأتها والتقليل من زخم ارتداداتها، لا مناص أمام (مثقفي) هذه البلدان المتخلفة من إعادة التفكير بكل ما ألفوه من تصورات وتمثلات، وتواضعوا عليه من  علاقات وهويات، وإلاّ فان طوفان هذا العصر المرعب سيحيلهم الى كائنات ممسوخة أشبه ما تكون بالمومياءات المتحجرة لما قبل التاريخ!.  

***

ثامر عباس – باحث عراقي

 

في المثقف اليوم