قضايا

محمد الزموري: دروس السعادة من معلم الكآبة

في قلب هذا العالم الكئيب كما وصفه شوبنهاور، تتأرجح النفس الإنسانية في دوامة لا تنتهي بين آلام عميقة وملل قاتل، تتخللها لحظات خادعة من المتعة والفرح، تذكرنا بأن السعادة ليست إلا سرابًا يختبئ خلف أستار الرغبات المجهضة. إن هذا التشاؤم العميق متجذر في ميتافيزيقا الحياة ذاتها، حيث يبرز الجوهر الإنساني كتداخل لا ينفصم بين الجسد والعقل، يتجلى في شغف الحياة وإرادة الوجود.

إن الإنسان، في نظر شوبنهاور، ليس مجرد كائن يتنفس، بل هو روح واعية تستشعر واقعها من خلال حواسها، حيث تكتشف عمقها عبر تفاعلها مع العالم. تتجلى هنا هوية الإنسان في جلبابه الجسدي، لتصبح إحساساته وسيلة للمعرفة والفهم. بيد أن هذه العلاقة مع العالم لا تتوقف عند حدود المعرفة السطحية، بل تأخذ شكلًا من التفاعل العميق، حيث تنسج كل تجربة من تجارب الحياة خيوط الوجود ذاته.

ومع ذلك، يدعونا شوبنهاور إلى فهم حقيقة مؤلمة، وهي أن الإنسان محكوم بكونه غير سعيد بطبعه. إن هذه الحاجة الماسّة للقلق تبرز جوهر الوعي الإنساني، الذي يتقلب في حالة من عدم الرضا المستمر. فدوافع الإرادة المدفونة في أعماق النفس تواصل دفع الإنسان نحو ما قد يُشبع احتياجاته، لكن تلك الاحتياجات تظل دائمًا خارج متناول اليد، مما يخلق حالة من التوتر الوجودي.

وفي خضم هذه الديناميكية، يكمن شعور دائم بعدم الاكتمال، كأن الحياة تُخفي عنا جوهر السعادة في كومة من الرغبات غير المشبعة. هنا يظهر الأمل الوهمي، الذي يُغذي روح الإنسان بتوقٍ للعثور على السعادة في تلبية احتياجات جديدة، في حين أن الحقيقة المؤلمة تبقى ثابتة: السعادة هي حلم بعيد المنال، تُعاني الإنسانية في سعيها إليه، وهذا ما يخلق تلك الحالة البائسة التي تجثم على صدر الوجود.

بعد استعراض صارم لجوهر القوانين التي تسود الكون، يؤكد شوبنهاور أن الوجود ليس سوى ألم متجذر، يظهر بوضوح في ملامح الشقاء الإنساني. وفي خضم هذه الرؤية القاتمة، يقدم لنا علاجا للنفس: تحويل الإرادة إلى عدم الإرادة. من خلال إدراك هذه العملية العميقة، حيث تتجه الإرادة نحو النفي التدريجي لذاتها، يتمكن الإنسان من انتزاع شغفه بالحياة والاستمتاع من أعماق وعيه، مستعيدًا تلك الحرية الأصيلة التي لا تظهر إلا في غياب الحتمية التي تفرضها الإرادة.

في هذه اللحظة الفريدة، تُمحى جميع الظواهر، بل حتى أبعاد الزمن والمكان، ومعها تُزال الثنائية المتجذرة بين الذات والموضوع. فحينما يتلاشى مفهوم الإرادة، يتلاشى أيضًا كل تمثيل لها، وبهذا لا يتبقى أمام الإنسان سوى العدم، كما لو كان على حافة الهاوية، حيث كل ما كان يُعتبر حقيقيًا يتلاشى.

في موازاة ذلك، يبرز شوبنهاور جانبًا آخر، حيث يسعى إلى وضع المعايير السلوكية التي قد تخفف من عبء الوجود، مُظهرًا الإنسان كقطعة شطرنج محاصرة في وادٍ من الدموع. لذا، يصبح العقل الأداة الفعّالة لتحقيق سعادة نسبية، سعادة يمكن أن تتجلى في غياب الألم. حيث شكل شوبنهاور بعض الأفكار التي عُرفت لاحقًا باسم "علم السعادة"، عندما اعتبر أن السعادة الحقيقية تكمن في "السعادة السلبية" التي تنبع من غياب الشقاء.

إن الحقيقة العميقة التي يسعى شوبنهاور لإيصالها تتمثل في تأمل غوته: "الشخصية المجردة هي أعلى سعادة". إذ أن السعادة لا تعتمد على ما نملكه أو ما نمثله، بل على ما نحن عليه في جوهرنا. إن التعلق بالممتلكات يُعتبر بمثابة حب مفرط، يدفع الإنسان للبحث عن كل وسيلة لتجنب فقدان ما لديه.

إن مستوى السعادة يتغير مع مرور الزمن، فيُعزى سبب المعاناة إلى ظروف معينة، لكن شوبنهاور يُوضح أن قياس رفاهيتنا أو ألمنا يُحدد بشكل ذاتي. إن سبب المعاناة الخارجية هو مجرد فقاعة تتجمع فيها جميع المزاجات السيئة، التي كانت ستتوزع بخلاف ذلك. وبالتالي، تعتمد السعادة علينا ولا تتعلق بما يقدم إلينا، فحتى لو تحسنت الظروف الخارجية، "الأحمق يبقى دائمًا أحمق".

إن النقطة المحورية للحكمة تكمن في القدرة على توزيع اهتمامنا بين الحاضر والمستقبل. فالأشخاص الذين لا يدركون، يعيشون في الحاضر بشكل مفرط، بينما يُعاني القلقون من التفكير المبالغ فيه في المستقبل. ليس كل حدث عظيم يستحق القلق، لأن تغير الأشياء يمكن أن يغير مجراها جذريًا في أي لحظة. لذا، فإن تذوق كل لحظة حالية واستغلالها بكل امتلاء هو الحكمة الحقيقية للعيش.

***

محمد إبراهيم الزموري

في المثقف اليوم