قضايا

أيمن عيسى: نشأة القراءة والكتابة العربية

القراءة والكتابة متلازمتان فى النشوء، فالإنسان منذ القدم فى أى لغة، كان يمارسها صوتيًا دون تدوين. ولمَّا ظهرت الحاجة إلى التدوين وأراد الإنسان أن يدون على النقوش والجدران متجاوزًا طور الرسم، ظهرت هنا فكرة اصطلاح وابتكار شكل لكل حرف صوتى ينطق به الفرد داخل جماعته اللغوية. فكل لغة ابتكرت لنفسها أشكالا لحروفها وتعارفوها بينهم، بحيث يدل شكل معين على حرف صوتى مخصوص. ولكل لغة عدد حروفها طبقـًا للأصوات التى تستعملها فى نطقها، هذا منذ عهد اللغة السريانية التى هى أقدم اللغات مرورًا بكل اللغات التى عرفها اللسان البشرى حتى يومنا هذا.

ولم تكن عملية ابتكار أشكال الحروف عملا فرديًا فى كل جماعة لغوية، بل هو نشاط مجموع أفراد وجماعات اصطلحوا فيما بينهم على هذه الأشكال. فلم يأت واحد وابتكر هذه الحروف ثم فرضها أو نقلها إلى بقية أفراد جماعته اللغوية، بل هى عملية جماعية كما أشرنا.

وفى البداية لم تحظ عملية القراءة والكتابة بالانتشار الواسع والإقبال فى أى جماعة أو لغة، فلم يكن يعنى بها إلا أفراد قليلون ممن كانت لديهم الرغبة فى التدوين والتسجيل أو التعبير بالكتابة عن شىء ما. ثم أخذ الأمر يتسع شيئـًا فشيئـًا حتى زادت نسبيًا أعداد القرَّاء والكتـَّاب فى لغات عدة، ومنها العربية.

وتدوين العربية متأخر بطبيعة الحال عن نشأة العربية، وكذا فى كل لغات العالم، فإن تدوين أى لغة هو متأخر عن نشأتها، فاللغة تنشأ أولا، وبعدها عندما تظهر ضرورة التدوين الملحة تأتى حينئذ فكرة التدوين والكتابة. وقد اختلف الباحثون فى بداية تدوين العربية وظهور الخط العربى، إلا أن معظم الباحثين كما أشار الدكتور كريم حسام الدين فى كتابه " العربية تطور وتاريخ"، أنه ظهر فى أوائل القرن الخامس الميلادى بناء على تاريخ الآثار التى تم اكتشافها فى بلاد الحجاز ومكتوب عليها بالخط العربى. وهنا يعنى أن بداية القراءة والكتابة العربية كانت منذ حوالى ألف وست مئة سنة ميلادية.

وآراء أخرى لم تبعد بعيدًا عن تلك الفترة ومنهم الدكتور ناصر الدين الأسد فى كتابه " مصادر الشعر الجاهلى ". إلا أنه اتخذ وجهة أخرى، فالسابقون اتخذوا التقويم الميلادى، أما النفر الآخر اتخذوا التقويم الهجرى، وقد أفضى بهما الأمر إلى الاجتماع فى نفس المحيط الزمنى. فذهب الدكتور ناصر الدين الأسد إلى أن (كان العرب يكتبون فى جاهليتهم ثلاثة قرون على أقل تقدير بهذا الخط الذى عرفه بعد المسلمون). ومعنى ذلك أن تضيف ثلاث مئة سنة لقرننا الهجرى فتكون النشأة منذ ألف وسبع مئة سنة. إذن اجتمعا فى نفس المحيط الزمنى. وعلى ذلك يكون العرب قد عرفوا التدوين منذ حوالى ألف وست مئة سنة أو ألف وسبع مئة سنة. ومعنى معرفتهم التدوين أى الكتابة والقراءة على حد سواء فهما متلازمتان فى النشأة.

هل كانت الكتابة بنفس شكل الحروف التى نعرفها اليوم ؟

من المؤكد حدوث تطورات وتنميقات على الشكل الأوَّلِى الذى كانت عليه الحروف العربية، إلا أنها تكاد تكون هى نفسها، والدليل على ذلك هو أنه كيف عرف الدارسون الحروف المدونة بالعربية على بعض الآثار التى اكتشفوها فى الحجاز، فلو لم تكن حروفها هى نفس حروفنا اليوم لمَا عرفوا أنها عربية، إلا أنها بطبيعة الحال خضعت لشىء من التطورات والتنميقات. والسمة الأبرز أيضـًا فى هذه الحروف أنها فى صورتها الأولى كانت بلا نقط، فالقاف مثل الفاء، والباء مثل التاء والثاء، لا توجد نقط وإنما رسمة الحرف وشكله هى التى تحدد الفرق، فالقاف والفاء مثلا بلا نقط، إلا أن القاف فى شكلها عميقة لأسفل تشبه الحوض، أما الفاء فهى سطحية.

العرب الذين يجيدون القراءة والكتابة قبل الإسلام

يرى الدكتور كريم حسام الدين أن أمر القراءة والكتابة فى العصر الجاهلى وفجر الإسلام أيضًا، كان على قدر ضئيل من الانتشار فى مكة، وعلى درجة أقل فى غيرها من المدن، كما أن الكتابة كانت وقفـًا على أشخاص قليلين [العربية تطور وتاريخ – ص 70]. وهذا ما يتفق عليه الجميع وما يتفق معه الدرس اللغوى. ويشير أيضًا إلى أن عددًا من المصادر القديمة ذكرت أن قـُصَى بن كلاَّب جد عبد المطلب كان يعرف القراءة والكتابة، وكذا عبد المطلب جد الرسول ﷺ كان يجيد القراءة والكتابة، وكذا بعض أولاده كانوا يحسنون القراءة والكتابة أيضًا.

ويذكر البلاذرى فى كتابه " فتوح البلدان " (أنه ظهر الإسلام وفى قريش سبعة عشر رجلا كلهم يكتب، وهم: عمر بن الخطاب، على بن أبى طالب، عثمان بن عفان، أبو عبيدة بن الجراح، طلحة، يزيد بن أبى سفيان، معاوية بن أبى سفيان، سفيان بن حرب، أبو حذيفة بن عُتبة بن ربيعة، حاطب بن عمرو العامرى، أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومى، أبان بن سعيد بن العاص، خالد بن سعيد وأخوه، عبد الله بن أبى السرح العامرى، حويطب بن عبد العزى العامرى، جهيم بن الصلت.

ومن النساء : شفاء بنت العدوية، حفصة بنت عمر بن الخطاب وقد تعلمت من شفاء العدوية، أم كلثوم بنت عتبة، فروة بنت عائشة بنت سعد، كريمة بنت المقداد. أما السيدة عائشة رضى الله عنها فكانت تقرأ ولا تكتب وكذلك السيدة أم سلمة رضى الله عنها) [فتوح البلدان – ص 477، 478].

وهذا فى قريش فقط وليس فى كل العرب، إلا أن فى البقية كان أقل مما فى قريش. ونتعرف مما ذكره البلاذرى أيضًا أن أمر القراءة والكتابة لم يكن مقتصرًا على الرجال فقط، بل تعلمت عدد من النساء القراءة والكتابة. ولكن الأمر الذى نود أن نناقشه هو كيف بالسيدة عائشة رضى الله عنها والسيدة أم سلمة رضى الله عنها، تقرأ كل منهما وتجيد القراءة ولكنهما لا تكتبان؟ ذلك لا يعنى أنهما لا تجيد كل منهما الكتابة، فما دامت كل منهما تقرأ فهى على شىء من القدرة على الكتابة. إلا أنهما تبدوان أن كلا منهما لم تكن لديها ضرورة للكتابة.

وختامًا فإنا نرجو أن نكون قد حققنا قدرًا من الإفادة والمتعة فى تلك المسألة الأصولية، وختامًا نقول أيضًا إن دراسة الأصول متعة خاصة وذائقة تختلف عن أى ذائقة أخرى، وليست دراسة الأصول جمود ومتاهات كما يتصور كثيرون أو كما يصدرون تلك الفكرة الخاطئة للمتلقى.

***

د. أيمن عيسى - مصر

في المثقف اليوم