قضايا

محمد حبش: المستعربون.. رصيد حيوي للأمة العربية في العالم

تعاني اللغة العربية في الدول الناهضة من غربة قاتلة، خاصة في دول الخليج العربي التي حققت انفتاحاً غير مسبوق على الاقتصاد والثقافة العالمية، وقد تحققت بالفعل خطوات غير مسبوقة في التنمية والاقتصاد، ولكن كانت العربية هي الخاسر الأكبر، حيث باتت اللغة الإنكليزية هي لغة الاقتصاد والسياحة والتعليم، وعلى الرغم من أن عدد الناطقين بالعربية يقارب نصف مليار إنسان، إضافة إلى مليار مسلم آخر يعرفون سوراً من القرآن بالعربية، ولكن لا زالت العربية تتراجع في حصونها، مع حضور طاغ للغات الأجنبية.

ولكن هذا الواقع المؤلم لغياب اللغة العربية في المساهمة الحضارية يقابله جانب آخر يدعو للتفاؤل، وهو ما قصدت هذه الدراسة إلى نشـره والتعريف به، وهو جهود أولئك الباحثين والمحققين من مختلف الجنسيات الذين تعلموا العربية وأتقنوها وآمنوا بها لغة للعلم والمعرفة، ونشـروا أبحاثهم باللغة العربية، وفيهم أكاديميون أوربيون وأمريكيون وصينيون وآسيويون وافارقة، وذلك في ظلال الجامعات المهتمة بالدراسات الإنسانية والتاريخية واللغوية، وقد استطاعوا أن ينصبوا جسوراً مهمة من التواصل الحضاري بين العرب والعالم.

وقد اخترنا إطلاق اسم المستعربين عليهم لأنهم يختلفون عن ظاهرة الاستشراق التي ظهرت في القرون السابقة بهدف استكشاف الشرق وكانت تهتم بالعربية والفارسية والهندية وغيرها من اللغات، وكانوا معنيين من جانب آخر بالحوار الإسلامي الغربي، فيما تمثل ظاهرة المستعربين جانباً آخر من الحوار الحضاري يركز على اللغة العربية تحديداً ولا يرتبط بأي مشـروعات سياسية أو دينية ولا يمثل الإرادة السياسية للدول الغربية بقدر ما يمثل إرادات المؤسسات العلمية والأكاديمية فيها.

وسنقدم في هذه الدراسة طرفاً من أهم هؤلاء الباحثين وذلك في سياق ما نقوم به في فريق حماية اللغة العربية لرصد عطاءاتهم وجهودهم واستثمار جسور التواصل التي نصبوها لجَسْـر ما بين الحضارة العربية والحضارات العالمية.

وعلينا الاعتراف أولاً بأن الروح المتوثبة التي دفعت أعلام الاستشـراق الأول للمغامرة والاكتشاف وبالتالي لتعلم العربية وإتقانها لم تعد متوفرة، فقد كان الاستشـراق هدفاً سياسياً وعسكرياً في بعض الأحيان إلى جانب كونه هدفاً ثقافياً، ويمكن القول إن تطور القانون الدولي ونظم الأمم المتحدة قد أفرغ الاستشـراق السياسي من مضمونه، وباتت السفارات تقوم بهذا الدور بشكل أكثر منهجية وقانونية، وانحسر الاستشـراق إلى رتبة النشاط الثقافي والمعرفي، وبذلك فإن موارده التي كانت تتوفر له في الماضي انكفأت إلى حد بعيد، وبات الاستشـراق يتحمل أعباء نفسه ويستفيد من المبالغ المرصودة للنشاط العلمي والبحثي وهي دون شك أقل بكثير مما ترصده الدول عادة لنشاطها السياسي والاستخباراتي والعسكري.

ومع ذلك فأرجو ان لا يفهم من هذا الكلام أنني أفهم الاستشـراق على أنه محض مؤامرة على شعوب الشـرق، بل هو في الواقع نشاط علمي ومعرفي، ولكن من الطبيعي أن تستخدمه الدول ليقوم بما تقوم به السفارات اليوم، وليس ذلك بالضـرورة عدواناً على الشعوب أو مكراً بها ، بقدر ما هو عملية تخادم بين البعثات العلمية أو التبشيرية وبين الحاجات الوطنية للدول التي ترسلهم.

ولكن النقطة التي أود التركيز عليها هي أن الاستشـراق اليوم أو الاستعراب كما يسميه المستشـرقون الإسبان   هو عمل نبيل وهو أكثر صلة بالمعرفة والعلم وأقل تهمة وريبة من الاستشراق القديم.

ومن المناسب أن نشير هنا إلى عدد من المجلات الأكاديمية والبحثية التي تنشـر بالعربية لمؤلفين غير عرب، وتوفر لهم فرصة إظهار إبداعهم وثقافتهم باللغة العربية. وكثير من هذه الهيئات تعمل في إطار المعاهد الدبلوماسية للبلاد العربية أو الجامعات التي تضم كليات متخصصة بالاستشـراق وحضارات الشرق.

ومن أفضل المنصات المتاحة لتدوين أبحاث المستعربين مجلة الاستعراب الآسيوي التي يصدرها مركز البحوث والتواصل المعرفي في المملكة العربية السعودية ، وهي مجلة نصف سنوية محكمة يرأس تحريرها يحيى جنيد فيما يرأس الهيئة الاستشارية للمجلة الدكتور تشو ويه لي، وتهتم بنشر البحوث الخاصة عن الاستعراب لباحثين آسيويين، وقد بدات بالصدور عام 2018م.

كما يصدر المركز أيضاً مجلة مكاشفات وهي مجلة تعنى بالعلاقات الدولية وتنشر باستمرار بحوثاً علمية لكتاب من الصين واليابان وكوريا وغيرها باللغة العربية، وهي تصدر بشكل فصلي باستمرار منذ 2019

ومن أبرز المحررين فيها أنج سنج هو مدير معهد الشرق الأوسط في جامعة سنغافوره الوطنية وآندي هاديانتو من أندنوسيا وقد نشر له مركز الملك عبد الله لخدمة اللغة العربية في السعودية كتاب دليل مؤسسات اللغة العربية في إندونيسيا، وتشي مينغ  وليو شين لو  وكذلك تشين جي من الصين أيضاً ونامي تسوجي غامي من اليابان، وكاكاجان جان بيكوف من تركمانستان.

ونشير أيضاً إلى مجلة محكمة يصدرها المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية في العراق بعنوان دراسات استشـراقية وهي تتناول بالبحث والتحليل دراسة أعمال المستشرقين والمستعربين، ويحرر فيها نخبة من المتخصصين بانتشار العربية في العالم.

وفي الإمارات قام فريق حماية اللغة العربية بإطلاق مجموعة خاصة على وسائل التواصل الاحتماعي للتواصل مع المستعربين ورصد نشاطاتهم، وتضم نحو خمسين كاتباً غير عربي نشـروا أبحاثهم بالعربية، كما خصصت العربي الجديد محوراً خاصاً بعنوان أصدقاء لغتنا باتت ترصد فيه أبرز النساء والرجال الذين اتقنوا اللغة العربية وكتبوا بها.

وفيما يلي أعرض نماذج من أعلام العربية في بلاد غير عربية، وهي محاولة للتعرف إلى جهود مهمة في النشر العربي خارج حدود البلاد العربية.

جورج غريغوري  George Grigore

ترأس جورج غريغوري معهد الدراسات العربية في جامعة بخارست، ثم عمل فيه كعضو أساسي، وهو معروف على نطاق واسع في أوروبا كواحد من أبرز الأكاديميين الذين أتقنوا العربية إتقاناً تاماً وعكفوا على ترجمة الأعمال العربية إلى الرومانية والأعمال الرومانية إلى العربية، ومن أعماله:

  • ترجمة القرآن الكريم إلى الرومانية Coranul (بوخارست - 2000)
  • الغزالي، مشكاة الأنوار، ترجمة إلى اللغة الرومانية (بوخارست – 2001)
  • ابن طفيل، حي بن يقظان ترجمة إلى الرومانية (بوخارست – 2001)
  • ترجمة كتاب ابن رشد، فصل المقال إلى الرومانية، (بوخارست – 2001)
  • بديع الزمان النورسي، كلمات (Cuvinte)، ترجمة إلى اللغة الرومانية: استانبول 2002
  • ترجمة كتاب ابن عربي، إنشاء الدوائر(Geneza cercurilor)، ترجمة إلى اللغة الرومانية: جورج غريغوري (بوخارست - 2003)
  • ترجمة كتاب نهج البلاغة 2008

هارتموت فاندريتش     Hartmut Fähndrich

1944) هو عالم ومترجم ألماني، متخصص في ترجمة الأدب العربي إلى اللغة الألمانية.

تم تعيينه محرراً لسلسلة الأدب العربي عن دار نشر LENOS ومقرها بازل، سويسرا،  وقد ترجم أكثر من 70 عنوانًا من الأدب العربي المعاصر إلى الألمانية. حصل 1972 على دكتوراه في الدراسات الإسلامية (UCLA) [في اختصاص الأدب العربي الكلاسيكي

وقد قدم فاندرتش للمكتبة الألمانية عدداً كبيراً من روائع الأدب العربي، وترجمات متميزة لأعمال نجيب محفوظ وزكريا تامر وإبراهيم الكوني وغسان كنفاني وإميل حبيبي وعلاء الأسواني.

وقد تم تكريم هارتموت عبر عدد من الهيئات العربية الكبرى، ومنها الجائزة الأدبية من جامعة الدول العربية لترجمة الأدب العربي، ووسام التكريم من الملك عبد الله بن عبد العزيز  للترجمة، وكذلك على جائزة حمد بن خليف للترجمة في قطر.

المستشرقة الألمانية آنا ماري (Annemarie Schimmel)

أشهر الباحثين الألمان اختصاصاً وشغفاً باللغة العربية، وقد حصلت على الدكتوراه مرتين في اختصاصات تصل بالأدب العربي وتاريخه، والشوق الصوفي، وقد ترجمت مقدمة ابن خلدون للألمانية كما ترجمت أعمالاً كثيرة، وقد ترجمت آنا ماري شميل عدداً من الأعمال العربية إلى اللغة الألمانية، وعملت أستاذة للعلوم العربية ف يكلية الإلهيات في أنقرة، ثم انتقلت في 1967 إلى جامعة هارفارد في أمريكا لشغل منصب كرسي الدراسات الهندو إسلامية، وقد حصلت على عدد من الجوائز الدولية، وقد توفيت آن ماري شميل عام 2003

د. جونتر أورت (Dr. Günther Orth)

قام جونتر بترجمة كثير من الآداب العربية المعاصرة إلى الألمانية كأعمال محمود درويش، وأدونيس، وعباس بيضون، وغيرهم. كما شارك كباحث في مشروع موسوعة حول الشعر الفلسطيني في جامعة برلين .

ساندرا هتزل (Sandra Hetzel)

وهي مترجمة أدبية وباحثة تتمركز على الأدب العربي المعاصر. فقامت بترجمة الرواية العربية والقصة القصيرة ونقلت أيضا الشعر العربي لرشا عباس ، كاظم خنجر، عارف حمزة، عبود سعيد. وهي ترجمت أكثر من عشرين مسرحية إلى الألمانية، ثم نشرت ترجمات متتالية لأدباء سوريين من الذين شردتهم الحرب ولجؤوا إلى أوروبا.

تشو ويه لي

إمام العربية في الصين، إيمانه عظيم بقوة اللغة العربية وقدرتها على حمل المعرفة والإبداع فيها، تلامذته باتوا بالمئات في الجامعات الصينية، رئيس هيئة التحرير في مجلة الاستعراب الآسيوي التي تصدر من السعودية، وهو عضو في مركز دراسات الشرق الأوسط التاربع لجامعة شنغهاي بالصين

ومن أعماله بالعربية: الحضارة الإسلامية والعالم وقد نشـرتها مجلة الاستعراب الآسيوي، وهي دراسة تتناول بالتفصيل الواقع الحضاري للعالم الإسلامي وقوة الحضارة العربية والإسلامية في التاريخ، وتركز بشكل خاص على نجاح الحضارة الإسلامية في مواجهة الغزو المغولي الباطش وتحويله إلى شريك في الحضارة الإسلامية في الهند وآسيا الوسطى.

لاريسا بندر  (Larissa Bender)

أتقنت الصحفية الألمانية لاريسا بندر اللغة العربية وقامت بتدريسها في عدة معاهد بألمانيا، وهي تهتم بالقضايا السورية بشكل خاص، وقد نجحت في نقل عدد من أهم الروايات العربية إلى الألمانية ومنها رواية "عزازيل" للروائي المصري الشهير يوسف زيدان، وسلسلة "مدن الملح" للروائي عبد الرحمن منيف، وترجمت رواية "يوميات الثورة السورية" لسمر يزبك من سوريا، و"مطر حزيران" لجبور الدويهي من لبنان.

أندي هاديانتو  Hadianto, Andy

الأستاذ في جامعة جاكرتا الحكومية، وهو عضو الهيئة الاستشارية في مجلة الاستعراب الآسيوي، وقد أصدر عداً من الأعمال باللغة العربية منها دليل مؤسسات اللغة العربية في أندنوسيا

ماهاما صاري يورو

وهو مفكر تايلاندي، مشغول بنشر العربية في فطاني وهي المملكة الإسلامية التاريخية في تايلاند، وله عدد من الدراسات بالعربية منها: أهمية اللغة العربية في نشر الإسلام في فطاني جنوب تايلاند.

هالا شي يويه

وهي أستاذة في كلية اللغة العربية في جامعة الدراسات الدولية بشنغهاي، وقد أصدرت عدداً من ألأبحاث بالعربية، منها: صورة العرب في الفيلم الهوليوودي، وفيه ركز ت على واقع الإعلام الهوليودي في استهداف العرب وتشويههم حتى قبل أحداث 11 من أيلول السوداء، كما نشرت بالعربية أيضاً دراسة علمية بعنوان: الإدارة العاطفية أثناء الوباء

شي يويه ون

عمل شي يويه ون مستشاراً في السفارة الصينية بمصر لمدة 27 عاماً، وقد أتقن العربية إتقاناً تاماً، وبات يكتب في الصحف المصرية وينظم الشعر بالعربية، وأسهم في جهود كثيرة لإحياء ثقافة طريق الحرير كرابط حضاري وثقافي بين العرب والصين، وأسهم في إنشاء متحف الثقافة الصينية في القرية الفرعونية بالقاهرة.

ياكو هامين أنتيلا Jaakko Hameen Anttila

يعتبر البروفسور ياكو هامنين تلا أحد أهم الشخصيات العلمية في فنلدندا التي تخثثت في الدراسات العربية، وقد عمل أستاذاً في جامعة هلسنكي كما تولى رئاسة معد الشرق الأوسط في الجامعة، وقد نجح في إصدار ترجمة كاملة للقرآن الكريم من العربية إلى الفنلندية.

ومن كتبه المطبوعة بالعربية: الشرق مهد الغرب، بحرنا المشترك، وبالفنلندية دليل الإسلام الجديد، Uusi islamin käsikirja

زار هامين كثيراً من العواصم العربية وألقى محاضرات في جامعات سورية ومصرية، وقد توفي مطلع 2024 عن واحد وستين عاماً

ريسا توكوناغا

الدكتورة ريسا باحثة من اليابان مفعمة بحب العربية، وقد اختارت لنفسها اسم بلقيس، وعكفت في حياتها على دراسة الرقم والفنون العربية القديمة، وأصدرت عدداً من الكتب بالعربية تتحدث فيها عن الجسر الحضاري بين اليابان والعالم العربي، كما كتبت بعمق حول الأديان قبل الإسلام وعلاقة الإسلام بالديانات الأخرى.

خوسيه ميغل بويرتا

وهو باحث إسباني متخصص بالتراث العربي من مواليد غرناطة وقد حصل على الدكتوراه باللغة العربية بعنوان: مفاهيم الجمال والفن والإدراك البصري في الفكر الأندلسي.

ومن أهم كتبه التي نشـرها باللغة العربية: "البنية الطوباوية لقصور الحمراء" وتاريخ الفن الجمالي عند العرب-الأندلس والجمالية الكلاسيكية العربية" ومغامرة القلم- تاريخ الخط العربي وفنانيه وأساليبه" (عام 2007)، رواية "فقير في بلاط الحمراء".

وقد تعمدنا أن تكون الأمثلة من الدول غير الإسلامية، حيث يكون تعلم العربية وإتقانها تكليفاً قاسياً وجهداً مميزاً، ولو أردنا أن نسوق الأمثلة من العالم الإسلامي على إتقان العربية فنحن أمام ألوف الباحثين والأدباء والكتاب في الهند وباكستان وأندنوسيا وماليزيا وتركيا وإيران ونيجيريا، حيث يعيش ثلاثة أرباع المسلمين خارج الوطن العربي، ويكون تعلم العربية عبادة وطاعة وصلاة يؤديها كل مسلم.

أرجو أن يكون هذا المقال حافزاً للدول العربية لتنظيم رابطة عالمية للناطقين بالعربية على غرار كومنولث عربي على مستوى الدول الصديقة للعربية وعلى مستوى الأفراد الناطقين بالعربية، ولا أشك أن تعزيز حضور الناطقين بالعربية كجسور ثقافة ومعرفة يعتبر من أكثر وسائل القوى الناعمة تأثيراً وفعالية، وسيشكل بكل تأكيد خطوة متقدمة في إحياء الدور العربي في الثقافة العالمية وتعزيز الإخاء الإنساني.

***

د. محمد حبش

في المثقف اليوم