قضايا

مجدي ابراهيم: وللفلسفة دورٌ وريادة

لم يعد للفلسفة دورٌ في حياتنا المعاصرة!.. هكذا يتخيّل كل ذي بصيرة مطموسة، وكل ذي عقل مفقود.

أضعف حُجة للرد على تلك الترهات هو القول: إنه إذا ثبت أن للفلسفة دوراً في القديم والوسيط والحديث، فلا أقل من أن يكون لها نفس الدور وأعظم في الحياة المعاصرة؛ لأن وجودها الفاعل في الأزمنة القديمة والوسيطة والحديثة يثبت دورها الحضاري.

ولا يعقل أن يكون لها الفاعلية الحضارية قديماً ووسيطاً وحديثاً عبر الأزمنة والعصور، ثم نسلبها عنوة عن العصر الحاضر حيث لا حضارة ولا فلسفة، ومن ثم فلا حياة سوى تفاهات قائمة !!

من أسف، لم تعد طاقة العقلية العربية تستوعب عناء الفلسفة وجهودها الشاقة، كل بلاد العالم فيها فلاسفة، وفيها تقدير لقيمة الفلسفة إلا بلادنا العربية: عناء الفلسفة في ممارسة التفكير، وجهودها الشاقة في سن أسس النقد لفروض الإصلاح.

لا ندري لم هذا العداء الغريب بين العقل العربي والتفلسف، ربما أكون مبالغاً إذا قلت هذا .. بل ومتناقضاً أيضاًً لأننا إذا وصفنا الإنسان بالعقل فقد وصفناه بالتفلسف شئنا أم أبينا.

حقاً هو عداء فعلاً لكنه عداء ليس بين العربي وعقله ولا بين العربي وذوقه، ولا بين العربي ومداركه، بل عداء مفروض عليه سياسياً: أقتل في العربي كل قيمة، تفكيره وادراكه، وشعوره ووجدانه، وتدينه، ومعارفه وروابطه.. وجرده عن هويته، فلا يعرف لها تاريخاً ولا جغرافيا ..

أطمس ذاكرته الباقية طمساً ليسهل محو أثره من هذا الوجود، لا تدع له تراثاً يدرسه ولا وطنية يقدرها، ولا بلاداً يحترمها ..

جرّده من كل شيء ليكون لقمة سائغة في أيدي المبتزين والمستعمرين وطلاب الدون من الخونة والمأجورين.

أمحو هويته بالغفلة والاستنامة، وزعزع أصوله وانزع ثوابتها لتراه آخر الأمر بلا قيمة ولا كرامة ولا حياة!

اجعل للتعليم لديه مكان الحقارة والدناوة، وأجعله يحتقر العلم والعلماء، ويحتقر الدراسة والتحصيل، ويقيس كل شيء بالمقاييس المادية .. غيّر نظرته للأشياء وارْبطها برباط المنفعة القريبة العاجلة .. لا تجعل له ثوابت من دين ولا من قيم ولا من وطنية يرتكز عليها .. شككه في هذه الثوابت وأوصله بالتفاهات السائرة أمام نظرة صباح مساء حتى تستعبده،

اجعله عبداً لغرائزه الدنيا ولشهواته القريبة ليكون أسيراً لها على الدوام بغير إنقطاع .. لا تعلمه فريضة التفكير ولا الأدب ولا التاريخ ولا الفلسفة ولا تبصره بوجوده الروحي ولا العقلي بل دعه باستمرار لا يتجاوز المحسوس فيما يفكر وفيما ينظر من مطالب الحياة وشئون الواقع المحدود بحدود نظره ولمسه وحسّه.

قلل فيه قناعة العمل الموصول بمطالب الخلود، بل أجعله يعمل كأجير السوء، لا يعمل لأن العمل الصالح موصول غير مقطوع.

هذه سياسية إجرامية لا يطبقها على شعوبنا العربية إلا أبناء صهيون، ومن والاهم من الخونة والمأجورين، ومن يهمهم تحقيق الأمل اليهودي القديم بالقضاء على الشعوب العربية بدايةً من القضاء على اللغة والهويّة والحضارة والفلسفة والثقافة والتعليم.

وانتهاءً بالإبادة الجماعية وسلب إرادة الشعوب تحقيقاً مع غرس اليأس من الإصلاح.

لكن دراسة الفلسفة تقف لهذا كله بالمرصاد، تقف للخوار والانهزامية والتخلف .. فتحقق دوراً قائماً بالعقل وريادة باقية بالمعرفة. وكرامة الإنسان بين عقله ومعارفه. ولا كرامة له على التحقيق وهو معطل للعقل فاقد للمعرفة حتى لو أمتلك الدنيا بحذافيرها واستطال فيها على طولها وعرضها.

والفلاسفة الحقيقون مجاهدون في هذا الميدان جهاد الأبطال، لأن الفلسفة تكشف الباطل من أول وهلة، وتسخر العقل في طلب الحقيقة الظاهرة والباطنة، وتحترم الأصول الباقية في الدين والعلم والأخلاق، وتدفع عن القيمة غواشي الإنحراف، وتعزز في الفردية قيم المبدأ وقيم المصير، وتجاهد الفلسفة جهادها الأبيّ في سبيل إعلاء الجانب النقدي لتزيل الأقنعة الزائفة وتفضح الأوهام المتسلطة.

الفلسفة منهج في التفكير:

 كان نيتشه يقول: (الفلسفة ليست تأسيساً لديانة ولا تبشيراً بحقيقة، ولا وعداً بالحرية والسعادة، بل هى نبش في الأسس، وتعرية للأصول، وازالة الأقنعة، وفضح الأوهام).

***

د. مجدي ابراهيم – أستاذ فلسفة

 

في المثقف اليوم