قضايا

جواد غلوم: كيف يحتسب الزمن عند النوم؟

مقالتي هنا عن جزء مهم من العالم الداخلي للإنسان طالما ان العالم الخارجي اليقظ الان مليء بالشرور والضغينة والحروب والمطامع بين الإنسان وأخيه الانسان سواء تعددت الاجناس او التأمت في جنس واحد وكأن الله كان يقولجعلناكم شعوبا وقبائل لتتخاصموا وتتنازعوا طمعا وشراهةً واستحواذا لا لتتعارفوا.

ولنعد الى موضوعنا البايالوجي حول النوم السريري:

حينما ينام الانسان ويدركه النعاس يتحول إلى شجرة، وهذا الحال يشترك فيه بقية البشر بلا اية استثناءات، فهناك زرّ كهربائي في المخ ينطفئ في لحظة النوم فيسود الظلام وتسود الغيبوبة وتمر الشخصية بحالة غرق ويتحول الإنسان إلى شجرة، إلى نبات بدائي ؛ إلى شيء تستمر فيه الحياة على شكل وظائف جسدية ليس الاّ كالتنفّس وضخ الدم وكذا الحال بقية الوظائف البايلوجية .

لكن دورة الدم تجري والنفَس يتردد والخلايا تفرز والأمعاء تهضم.. كل هذا يتم بطريقة تلقائية والجسد ممدد بلا حراك تماماً مثل نبات مغروس في الأرض تجري فيه العصارة وتنمو الخلايا وتتنفس من أوكسجين الجو.

إنها لحظة غريبة يسقط فيها الجسد في هوة التعب والعجز.

و يستحيل عليه التعبير عن روحه ومعنوياته الراقية فيأخذ إجازة بعيدا عن الوعيّ ويعود ملايين السنين إلى الوراء. انه يعيش بطريقة بدائية كما كان يعيش النبات ،انها حياة مريحة لا تكلف جهداً.

إن سر الموت يكمن في لغز النوم لأن النوم هو نصف الطريق إلى الموت , نصف الإنسان الراقي يموت أثناء النوم شخصيته تموت وعقله يموت ويتحول إلى كائن منحط مثل الإسفنج والطحلب.

يتنفس وينمو بلا وعي وكأنه فقدَ الروح .

إنه يقطع نصف الطريق إلى التراب ويعود مليون سنة إلى الخلف.

يعود عقله الواعي إلى ينبوعه الباطن. وتعود شخصيته الواعية إلى ينبوعها الطبيعي الذي يعمل في غيبوبة

كما تعمل العصارة في لحاء الشجر. ويلتقي الإنسان بخاماته الطبيعية ؛ بجسده وترابه ومادته والجزء اللاوعي من وجوده.

 فالشعراء يقولون أن لحظات النهار سطحية لأن ألوان النهار البراقة تخطف الانتباه ولحظات الليل عميقة لأن الليل يهتك هذا الستار البراق ويفك أغلال الانتباه فيغوص في أعماق الأشياء.

وأن لحظة النعاس هي أعمق اللحظات لأنها تهتك ستاراً آخر وهو ستار الألفة .

النعاس يمحو الألفة بين البشر وبين الأشياء فتبدو غريبة مدهشة مما يدعوننا أحياناً إلى التساؤل ونحن ننظر

حولنا في غرفة نومنا بين النوم واليقظة ونهمس: أين نحن؟

فالسياق الزمني في النوم غريب؛ إنه زمن آخر غير زمن الساعة؛ فالحلم قد يحتوي على أحداث سنة كاملة بتفاصيلها من حب إلى زواج إلى طلاق إلى جريمة ومع هذا لا يستغرق بحساب الساعة أكثر من ثانية .

و العكس يحدث أحياناً فتمر على النائم عشر ساعات وفي ظنه أن عقرب الساعة لم يتحرك إلا دقائق او ربما هنيهات معدودة.

وهكذا فإن الزمن يتخلص من قيود الساعة أثناء النوم ويخضع لتقدير آخر هو تقدير المخيلة التي توسع وتضيق فيه وفق ازدحامها بالحوادث والرغبات ؛ إنه من صناعة النائم وخلقه فهو ذاتي صرف.

النائم كالفنان الذي يؤلف قصة.. يخلق زمن القصة كما يريد.. ويعيش في قمقم خرافي من أوهامه.. يتمطى فيه ويصرخ بالرغبة التي يحبها في حرية مطلقة تصل إلى حد العبث.

ومعظم أحلامنا هي عبث في عبث وأمنيات مستحيلة ولكننا نعيشها كما نريدها ونحن نائمون.

والنوم أرخص أنواع الحياة من حيث الكلفة.. فمقدار السكّر والأوكسجين الذي يحتاجه النائم ليستمر في الحياة أقل بكثير من المقدار الذي يحتاجه في اليقظة.

و الإنسان الذي يعيش مئة سنة بين نوم ويقظة يستطيع أن يعيش ثلاثمائة سنة إذا عمل وفق حسابه أن ينامها كلها.

ومادة النوم رخيصة لأن الإنسان يقترب فيه من التراب ويعود إلى الآلية الكيميائية المتأصلة في خلاياه من بداية الحياة

هكذا هو النوم بايالوجيا، على العكس مما قاله الشاعر العراقي معروف الرصافي للشعب النائم المستكين على الإذلال وغفوة النوم رغم صحوته وهو حيّ يرزق :

ناموا ولا تستيقظوا ---- ما فاز الاّ النوّمُ

من شاء منكم ان يعيش اليوم وهو مكرّم

فليمسِ لا سمــعٌ ولا بصرٌ لديـه ولا فــمُ

يبدو اننا نتصف بالحالتين معاً عند النوم الحقيقي بايلوجيا وعند اليقظة من سباته فننام على الذلّ والاستكانة وارتضاء الظلم والخنوع والخوف والترهيب، والمأساة الكبرى ان نومنا قد أضحى نوما كهفيا سائدا دون وخزة ضوء أو ركلة تحفزنا على اليقظة والصحو.

***

جواد غلوم

 

في المثقف اليوم