قضايا

صائب المختار: هل أن أكثر علماء المسلمين من غير العرب؟

انتشرت في الأوساط الثقافية العربية معلومة تفيد أن أكثر علماء الحضارة الإسلامية هم من العجم، وإن العلماء العرب منهم يشكلون القلة القليلة. وغدت هذه المقولة من المسَلّمات، واعتُبرت صحيحة لا تقبل الشك ولا النقاش. وحديثاً، اخذت القنوات الفضائية ومنصات التواصل الاجتماعي تروّج لهذه الفكرة عبر النقاش مع مثقفين يؤمنون بصحة المقولة، دون التأكد من صحتها. ومما ساعد على قبول صحة المعلومة أن العالم الفذ ابن خلدون هو الذي قالها في مقدمته المشهورة، حيث كتب فيها "من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم من العجم وليس في العرب حملة علم لا في العلوم الشرعية ولا في العلوم العقلية إلّا في القليل النادر". ونقلها عنه كُتّاب كبار، مثل احمد امين وجرجي زيدان وفيليب حتّي، فترسخت في عقول الناس وثقافتهم.

اعترض كتّاب ومثقفين آخرين على توصيف ابن خلدون للعلماء العرب بالقليل النادر، وعملوا جاهدين على إثبات خطأها، أذكر منهم على سبيل المثال، الأستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري، الذي فنّد فكرة ابن خلدون التي تقول "أن جُلّ العلماء المسلمين من العجم" حيث أفرد فصلاّ كاملاّ في كتابه "أوراق في التاريخ والحضارة الجزء الأول" أوضح فيه الملابسات والتناقضات الفكرية التي كتبها ابن خلدون في مقدمته المشهورة وما يقصده بالعرب والتعريب، وأشار إلى قول ابن خلدون " وإن كان منهم العربي في نسبه فهو أعجمي في لغته ومرباه ومشيخته مع إن الملة عربية وصاحبها عربي" وأوضح ما فيها من تناقض والتباس في المعنى، ولا مجال هنا للتفصيل ويمكن مراجعة الكتاب لمن يرغب بالتوسع.

والمرجع الثاني المعتمد، هو كتاب "عروبة العلماء المنسوبين إلى البلدان الأعجمية في المشرق الإسلامي" لمؤلفه الدكتور ناجي معروف، أستاذ التاريخ بجامعة بغداد، نشر عام 1974، وهو كتاب ضخم في ثلاث مجلدات، بذل فيه المؤلف جهداّ جباراّ لإثبات خطأ مقولة ابن خلدون قيد البحث، وصحح الدكتور معروف نسبة العلماء العرب في الملة الإسلامية بأنهم الأكثرية وأن الأعاجم هم القليل النادر. والكتاب يبدأ بجدول يحوي أسماء العلماء العرب ونَسَبهم العربي والجغرافي وتخصصهم. وقد جَمع أسماء 300 عالم عربي في هذا الجدول. كما ناقش بإسهاب شديد كيف يُنسَب العلماء إلى وطنهم أو دمائهم أو لغتهم. ولِسِعة الموضوع يمكن قراءة الكتاب لمن يرغب.

من المعلوم أن البصرة والكوفة وبغداد والقيروان وقرطبة كانت منارة العلم وإشعاعه، ليس في العالم الإسلامي فحسب بل لكل مدن وشعوب العالم. ومن المعلوم أيضاً أن هذا الصرح العلمي العظيم بُني بجهود أبنائه. ونتساءل، هل من المنطق أن يُبنى هذا الصرح الكبير بسواعد غير أبنائه؟ فالتاريخ يخبرنا كيف أصبحت بغداد قِبلة العالم العلمية بجهود ابو جعفر المنصور وهارون الرشيد والمأمون، في الفترة الزمنية 755م إلى 833م، فقد بَذلوا المال الكثير والجهد الكبير لشراء الكتب وبناء المكتبات وعملوا على تشجيع ودعم العلماء في إسهامهم للعلوم والمعرفة، ووصلت بغداد إلى ما وصلت إليه. ونتساءل أيضاً، لماذا يَترك العلماء غير العرب أوطانهم إلى مدن عربية بدل أن يبرزوا في أوطانهم ليكونوا فخراً لها؟ وإذا سكنوا في بلاد العرب، ونشأوا وترعرعوا فيها، وصار لسانهم عربياً، أفلا يستعربون ويصبحون عرباً؟

أوضح الدكتور ناجي معروف، في مؤلفه الكبير (المذكور أعلاه)، الالتباس في نسب الأشخاص، هل هو إلى الوطن، أم إلى القبيلة أو اللغة؟ ويسرد مثالاً على ذلك، المتصوف الفقيه المشهور، جلال الدين الرومي، ولد في خراسان (حالياً أفغانستان)، ثم درس في بغداد، وانتقل إلى دمشق واستقر وتوفي في تركيا، ويفخر به الاتراك ويعتبرونه منهم. معظم مؤلفاته بالفارسية وبعضها بالتركية والعربية، وأصله عربي من قريش

ينتهي إلى محمد ابن أبي بكر الصديق! فما هو نسبه؟ عربي (الأصل) أم خراساني (المولد) أم تركي (اللغة)؟ يحسبه المؤيدون لمقولة ابن خلدون غير عربي، ويحسبه العرب عربي! فأين الحقيقة؟ وهنالك أمثلة أخرى مشابهة لمن يريد التأكد.

يُعتبر النبي الكريم (ص) عربي الأصل، يعود نسبه إلى قصي ابن نزار ابن عدنان ابن إسماعيل (ع)، ابن خليل الله إبراهيم (ع)، وإليهم ينتسب العرب، علماً أن إبراهيم وإسماعيل (ع) لم يكونا عرباً بل كان لسانهم آرامياً، وتعرّبوا بمخالطتهم قبيلة جُرهم العربية وأصبح لسانهم عربياً. وإذا كان هذا مسّلَماً به، فلماذا لا يعتبر غير العربي مُستعرباً إذا ما سكن في بلاد العرب وخالطهم ونطق بلسانهم؟ ونفس المنطق يصُحُ على المصريين، فهم عرب لا ريب في ذلك، لكن أصولهم لم تكن عربية بل فرعونية، ثم أصبحوا أقباطاً بعد أن احتلهم اليونانيون والرومان، ثم تعربوا بعد الفتح الإسلامي بعد أن اتخذوا العربية لغةً لهم، كونها لغة القرآن ولغة التعامل الإداري للدولة، فكيف يقاس النسب إذاً؟

عندما يروّج المؤيدون لفكرة، أن أكثر العلماء المسلمين هُم من العجم، فإنهم يعددون العلماء الاعاجم، وأشير إلى ما قاله مقدم برنامج في إحدى القنوات الفضائية،  بقوله "أن معظم العلماء المسلمين هم من العجم، فابن سينا فارسيا من أوزبكستان، وعباس بن فرناس امازيغي، وابن بطوطة امازيغي والفارابي من فاراب بتركستان، والبخاري من بخارى ومسلم من نيسابور وأبو داوود من أفغانستان والنسائي من تركمانستان والترمذي من فارسي من أوزبكستان، وابن ماجة فارسي من قزوين وسيبويه فارسي والرازي فارسي وصلاح الدين كرديا، محمد الفاتح تركيا، الخوارزمي من خوارزم، طارق ابن زياد امازيغي". وأقول، إن هؤلاء 16 عالماً أعجمياً حسب ما ذكرهم مقدم البرنامج، وهي معلومة صادقة وصحيحة، لا شك فيها ولا نقلل من شأنهم ولا نحط من قدرهم، بل على العكس نُعلي شأنهم. لكنها تطرح وجهة نظر واحدة من الحقيقة، ذلك أنه ذكر أسماء العلماء غير العرب، ونسي أو تناسى أن يذكر الطرف الثاني من المعادلة، بمعنى هل يوجد عدد من العلماء العرب يساوي العدد المذكور من غير العرب لتتساوى المجموعتان؟ الجواب نعم. وسأذكر لكم أسماء 16 عالماً عربيا من نفس الاختصاصات المذكورة لتتساوى الكفتان "الكندي، ابن الهيثم، ابن طفيل، جابر أبن حيان، ابن سبعين، خالد ابن الوليد، عمرو ابن العاص، مالك ابن أنس، الشافعي، أحمد ابن حنبل، المسعودي، ابن الاثير، ابن كثير، الخليل ابن أحمد الفراهيدي، الجاحظ" مع العلم أن هؤلاء العلماء العرب ينتمون إلى مِلة واحدة (العرب) بينما ينتمي العلماء غير العرب إلى عدة ملل (فارسية، تركية، كردية، امازيغية) وهذا يكفي لترجيح ملة العرب. وأُذكّر بأن الدكتور ناجي معروف جمع في كتابه أسماء 300 عالم عربي (من ملة العرب)، فهل يستطيع دعاة العلماء المسلمين العجم أن يجمعوا أسماء 300 عالم غير عربي من ملة واحدة؟

وختاماً فإن الغرض من هذا البحث، ليس رفع شأن قوم أو الانتقاص من قوم آخر، فكل الاقوام لها عزتها ورفعة شأنها بما لا يمكن التشكيك فيه، وإنما الغرض أساساً هو إظهار الحقيقة وتصحيح فكرة غير صحيحة من باب إعادة قراءة التاريخ، أو إعادة كتابة التاريخ. والله الموفق

***

د. صائب المختار

 

في المثقف اليوم