قضايا
عبد الله الفيفي: من قُطب إلى أركون!.. قراءة في بِنية العقليَّة الاتِّباعيَّة
حدَّثنا (ذو القُروح) قال: إنَّ الآية «فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الحُرُمُ، فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ، وَخُذُوهُمْ، وَاحْصُرُوهُمْ، وَاقْعُدُوا لَـهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ، فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» ليست بأمرٍ بالقتل، هكذا ضربةَ لازب، وبلا مناسبة، وبلا سبب، كما يفهم من لا يفهم الخِطاب، أو لا يُحبُّ أن يفهم، فيجتزئ ما يريد لما يريد، وإنَّما هي لبيان أنَّ ذلك مأذونٌ به، إذا انتهت الأشهر الحرم. غير أنه بشروطه، لا عُدوانًا ولا همجيَّةً، وأوَّل تلك الشروط أن يقع العُدوان. بَيْدَ أنَّ ذوي الأغراض، أو حتى ذوي الجهالات القرائيَّة، يفهمون النصَّ على أنَّه أمرٌ بإطلاق اليَد بالقتل بمجرد انسلاخ الأشهر الحرم. قلتُ:
- وهذا ما لم يقله النَّص، حين يُقرأ في سياقه. ومعلوم أنه لم يستجب لمثل هذا الفهم أحدٌ من المسلمين أصلًا، ولم يحدث تاريخيًّا، على الإطلاق، أن شُنَّت حملات تطهيريَّة تحرق الأخضر واليابس! أ فنقول: إنَّ الرسول وصحابته ومن تبعهم بإحسان لم يفهموا ما يفهمه مَن يستشهدون بـ«القرآن» على عنف الإسلام؟!
- أو ما يفهمه في المقابل المتطرِّفون من المسلمين. وما يفهمه المنظِّرون لجهاد الطَّلب، بمعنى: طلب الحاكميَّة الإسلاميَّة طوعًا أو كرهًا. فهذا (سيِّد قطب)(1)، مثلًا، يستشهد بالآيات من (سُورة النساء): «فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ. وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ، فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا . وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا، وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنكَ وَلِيًّا، وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنكَ نَصِيرًا. الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ؛ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ، إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا.» يستشهد بها، وغيرها من الآيات، على أنَّ المَدَّ الإسلاميَّ هو، بنَصِّ «القرآن»، مَدٌّ قتاليٌّ، لا دفاعيًّا، وأنَّ فترات الكُمون، كما حدث في (مَكَّة) قبل الهجرة، أو مع اليهود في بداية استيطان (يثرب)، ما كان إلَّا على سبيل الإجراءات التكتيكيَّة المرحليَّة، وأنَّ القائلين بضِدِّ هذا، والزاعمين أن الدِّفاع هو قاعدة الحركة الإسلاميَّة، هم المهزومون أمام الواقع. إنَّه لا يرى أنَّ مَن أباح للبَشر حُريَّة الاختيار بين الكفر به أو الإيمان، أي بين سُلطة الله وسُلطة غيره، قد أباح لهم حُريَّة الاختيار بين سُلطة الحُكم الإسلامي وسُلطة غيره! فللإنسان- بحسب قوله- أن يؤمن أو يكفر، أمَّا مسألة الإيمان أو الكفر بسُلطان الدولة الإسلاميَّة، فلا!
- أي لا بأس أن يكفر الإنسان بالله، لكن عليه أن يُسلِّم لخَلق الله من الحُكَّام!
- وبذا صار الرضوخ لحاكميَّة الدولة الإسلاميَّة هو الأساس، وهو أهمُّ من الرضوخ لحاكميَّة الله، في المعتقد والسلوك والضمير. وكأنَّ فلسفة الإسلام إقامة دولة «فاشيَّة»، شموليَّة عالميَّة، حاكمها مسلم، ونظامها إسلامي، وإنْ كان شعبها كافرين بالله أو برسوله!
- ذلك لا يهم، ما داموا يدفعون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون!
- أيُّ تصوُّرٍ غريبٍ للدِّين، على أنَّه نظريَّة سياسيَّة لتأسيس دولة- قمعيَّة بالضرورة ما دامت تلك مبادئها ومنطلقاتها- وليست نظريَّة هدايةٍ للبشر ورحمةٍ بخلق الله؟!
- وهو الخطاب نفسه الذي يُنسب من خلاله الإسلام إلى العنف، بل يوصف بالدمويَّة والبربريَّة.
- نعم. كأنَّ صاحبك لا يقرأ الآيات، وإنَّما يقف نظره على مادة «قتل»، طَرِبًا بها، حيثما جاءت. كأنَّه لا يقرأ في الآيات مبرِّرات ذلك القتال: «وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا». ولا يسأل نفسه عن تلك القرية الظالم أهلها، ولا ما فعلوه بالمسلمين من قبل الهجرة ومن بعدها، ليرى أنَّ ذلك هو المبرِّر الأخلاقي والحقوقي للدِّفاع عنهم، وتحريرهم من ربقة استعبادهم. ومن أولئك المستضعفين الأهل والولد والأقارب.
- إذن، الأمر كلُّه مقرون بأسبابه في قتال المشركين، وقتال اليهود، وليس لإرغامهم على أن يكونوا مسلمين، أو لحُكمهم، والتسلُّط عليهم، والهيمنة على حياتهم؛ وذلكم فصل الخِطاب.
- وهو سببٌ بَدَهيٌّ أن يدافع الناس عن أنفسهم، وقد فُرضت عليهم المواجهة فرضًا، لا مفرَّ منه. لكنَّ هؤلاء القراء يحتالون حتى على البدهيَّات حينما لا يجدون حُجَّة معقولة يحتجُّون بها. مع جهلٍ أساس أحيانًا باللغة، والأساليب، والتاريخ، أو تجاهلٍ مقصود.
- يفعل هذا من يسعى إلى رمي الإسلام بالعُنف، ومَن يسعى إلى توظيف الإسلام للعُنف.
- صدقت. فإنْ أعياهم التماس شواهدهم من نصوص الكتاب، التمسوها في مرويَّات التاريخ، أو عن سلوكيَّات المسلمين.
- وكأنَّ أصحاب تلك السلوكيَّات لا يصدرون إلَّا عن أمر الله، أو عن أمر رسوله، فلهم الحُجيَّة نفسها التي لنصوص الكتاب!
- وشتان! وبين الفريق الأوَّل (المشوِّهة) والفريق الثاني (المتطرِّفة) فريقٌ ثالث، لعلَّه يمثِّله (محمَّد أركون)(2) في محاولته استقراء الخطاب في (سُورة التوبة). فأركون يراه خِطابًا يشرعن العُنف بالجهاد في سبيل المعتقَد، وفي سبيل الحقِّ المطلَق، بحسب اعتقاد أهله، وهذا عُنفٌ مشروع، وحربٌ عادلة باسم الله ورسوله، وَفق الأنثروبولوجيا الثقافيَّة، لدَى العَرَب وغير العَرَب، هدفها سحق المعارضين وانتصار الإسلام.
- هذا تبريرٌ أكثر إدانة للخِطاب القرآني من غيره، وكأنَّما هو محض تعبيرٍ عن أعراف سياسيَّة تاريخيَّة، لها ما يبرِّرها في زمانها القديم، ولا يصحُّ إسقاطها على زمنٍ آخَر.
- ومن ثَمَّ كأنَّ الخِطاب القرآني خِطابٌ تاريخي، محكومٌ بحقبةٍ زمنيَّةٍ محدَّدة، ظرفيًّا وقيميًّا! وفي هذا- بعيدًا عن ماهيَّة المعتقَد أو التصوُّرات عن «القرآن»- تغافلٌ غريبٌ كذلك عن السياقات النصوصيَّة، أوَّلًا، والسياقات الموضوعيَّة الواقعيَّة، ثانيًا، لمجيء تلك الآيات. والسبب دائمًا في تلك القراءات أنَّ الآيات تُعلَّق هكذا معزولة عن السياقَين، كما لو كانت أُحجيات، علينا أن نَفُكَّ طلاسمها في حدود كلماتها، بعيدًا عن معطيات الأسباب الواقعيَّة للتفسير، بل حتى بعيدًا عن العلاقات النصيَّة للآية. ولست أدري أيُّ قراءةٍ تحترم الأصول القرائيَّة يمكن أن تُبيح لنفسها مثل هذا السلوك القرائي، بل تُقدِّمه على أنه «أسلوبٌ جديدٌ في القراءة والنظر». وما هو في حقيقته إلَّا أسلوبٌ قديمٌ بليدٌ في القراءة والنظر. ولا جَرَمَ أنها بذلك إنما تُقدِّم بدَورها (قراءةً سياسيَّةً منحازة)، من أجل (طرح خطابٍ فكريٍّ يعنيها)، وهو غايتها الأساس، التي إنما تتذرَّع بدعوَى القراءات الجديدة من أجلها.
- ولمَّا كان ذلك كذلك، فإن النصَّ نفسه، ومن السُورة نفسها، (سُورة التوبة)، أتى بعد الآية السابقة ليقول: «أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ، وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ، وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ؟! أَتَخْشَوْنَهُمْ؟! فاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ، إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ.»
- صحيح. كما جاء من السُورة التي أُذِن فيها بالقتال، (سُورة الحج)- وهي سُورة «مَدنيَّة»، في بعض الأقوال، لا «مكِّيَّة»، ومكِّيَّتها تُفرِح هؤلاء المطفِّفين في الأحكام، كما رأينا من قبل- ليقول: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، وَالَّذِينَ هَادُوا، وَالصَّابِئِينَ، وَالنَّصَارَى، وَالمَجُوسَ، وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا؛ إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.» فواضحٌ الأمر، إذن، واضحٌ السبب في القتال، واضحةٌ قيوده.
- وبذا فليس من شأن الرسول أن يَفْصِل، فضلًا عن أن يُدخِل الناس في دِينه، لكنَّه شأن الله وحده، يوم القيامة.
- ولقد أُدخِل «الذين آمنوا»، برسالة محمَّد، ضمن هذه الطوائف الدِّينيَّة المختلفة، كما أُدخِل «الذين أشركوا». هذا هو منطق «القرآن»، الإنساني العادل، لا منطق المتنطِّعين والمتشدِّدين والإرهابيِّين، ولا منطق الطاعنين في المقابل، لأهواء خاصة، وأيديولوجيَّات ضاغطة، وتشوُّهات فكريَّة استقرائيَّة شتَّى. ولأجل هذا ظلَّ «القرآن» يُسائل محمَّدًا، مساءلة استنكار: «إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ. فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا! إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ، لَـمَّا آمَنُوا، كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ. وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا؛ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؟! وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ، وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ. قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ؟ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ.» [سُورة يونس]. وفي (سُورة الكهف): «فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفًا؟!» ومثل هذا في مستهلِّ (سُورة الشعراء). ولم يبق إلَّا أن نسرد آيات «القرآن» كلَّها لتبيان تواتر هذا فيه، وأنَّ الدخول في الإسلام ليس كرهًا، ولا يُقاتَل الناس حتى يدخلوه. وهو ما توشك بعض القراءات المعاصرة- على تباين توجُّهاتها- أن تضاهئ فيه قوم (موسى) في ما فعلوه بكتابهم؛ إذ كانوا يجعلونه قَراطيس يُبدونها ويخفون كثيرًا!
***
أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي
......................
(1) (1979)، معالم في الطريق، (بيروت: دار الشروق)، 71- 00.
(2) يُنظَر: (2005)، القرآن: من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدِّيني، ترجمة وتعليق: هاشم صالح، (بيروت: دار الطليعة)، 57- 00.