قضايا
علي الخطيب: كيف علّمتني خديجة أن أحب كما لو كنت طفلًا.. رؤية فلسفية شخصية
المقدمة: الفلسفة ليست في الكتب وحدها
كثيرون يظنون أن الفلسفة كلام معقد لا علاقة له بالحياة، وأنها تكتب للعقول لا للقلوب، لكن الحقيقة أن الفلسفة تولد أحيانًا من أبسط لحظة إنسانية؛ من نظرة عابرة، أو ابتسامة صادقة، أو قبلة صغيرة تحمل في داخلها درسًا عميقًا في الوجود والحب والحرية. ومن بين هذه اللحظات التي غيرت فيّ الكثير، كانت لحظة صغيرة مع ابنتي خديجة ذات الثلاث سنوات والنصف، حين قالت لي بكلماتها البريئة: "حب أبوكا يا بابا."
في تلك اللحظة لم تكن خديجة تدرك أنها تقدم لي درسًا فلسفيًا لم أتعلمه في الكتب ولا في قاعات المحاضرات. فقد فتحت أمامي نافذة على معنى الحب الطبيعي والاختيار والحرية، كما لم يشرحها أفلاطون ولا كانط. عندها أدركت أن الفلسفة لا تسكن النصوص وحدها، بل تتجلى في تفاصيل الحياة اليومية، في المواقف البسيطة التي تمس القلب قبل العقل. وأننا لا نحتاج إلى مفاهيم معقدة لنتأمل الحياة، بل إلى قلب قادر على أن يرى الفلسفة في كل ما هو إنساني.
ولأن الفلسفة حين تخرج من الكتب تتحول إلى تجربة، فقد وجدت نفسي أعيشها فعلًا في أبسط مشهدٍ جمعني بخديجة. ومنذ تلك اللحظة بدأت رحلتي معها، ومع الفلسفة كما تُعاش في بساطة الحياة، لا كما تُدرّس في صفوف الدرس والنظريات.
تمهيد: الفلسفة تولد أحيانًا من لحظةٍ تمس القلب قبل العقل
أحيانًا لا تولد الفلسفة من الكتب أو قاعات الدرس، بل من لحظة بسيطة تُعيد ترتيب المشاعر قبل الأفكار، لحظة تُنصت فيها الروح إلى ما لم يقله المنطق بعد. وكانت تلك اللحظة بالنسبة لي حين قالت لي ابنتي خديجة، ذات الثلاث سنوات والنصف، بصوتها الطفولي الدافئ: حب أبوكا يا بابا. جملة قصيرة، لكنها كانت كافية لتوقظ في داخلي إنسانًا كان يقرأ الحب بعقله وينساه بقلبه.
كنت قد كتبت من قبل عن خالد حين علّمني الشجاعة والخيال، وعن سُجى حين فهمت معها الرقة وعمق الإحساس، واليوم أكتب عن خديجة، لا لأميزها، بل لأستكمل ما بدأته معهم جميعًا. فلكلٍّ منهم نافذة مختلفة أطلّ منها على معنى الوجود والحرية والحب.
وخديجة تهمس لي كثيرًا حب أبوكا يا بابا وتضمني بصدقٍ يذيب تعب الأيام، لكنها حين ترى أمها تكرر نفس الجملة بنفس الدفء والحماس، وكأنها لم تقلها من قبل. وفي كل مرة نسألها نحن الاثنان: تحبي تروحي مع بابا ولا ماما؟ تجيب فورًا: ماما.
وكانت خديجة حين تقول لي حب أبوكا يا بابا لا تقصد الإخبار، بل كانت تحاول أن تقول بطريقتها الطفولية أنا أحبك يا أبي، وتؤكد حبها بعبارةٍ تكررها كما لو أنها تطمئن نفسها والعالم معًا. ومع ذلك، كلما خيّرتها بين الجلوس معي أو مع أمها، تختار أمها دون تردد، وكأنها تُعلّمني دون أن تدري أن الحب لا يُقاس بالاختيار، بل بالإحساس الذي يسكن القلب حتى وإن ذهب الجسد إلى مكانٍ آخر.
في البداية تسللت إلى قلبي غيرة أبوية خفيفة، لكن سرعان ما تبددت حين أدركت أن خلف هذا الموقف البسيط فلسفة كاملة في الحب والاختيار. وخديجة لا تختار ضدّي، بل تختار وفقًا لما يمنحها الأمان في اللحظة. فهي تحب بلا ترتيب، وتختار بلا خوف، وتعيش الحرية كما هي قبل أن تتلوث بالمجاملات أو الواجب.
ومن هنا فهمت أن الأطفال لا يعيشون الفلسفة نظريًا، بل يجسدونها في سلوكهم اليومي دون وعي. فهم لا يفكرون في معنى الحب، بل يعيشونه. ولا يبحثون عن الحرية، بل يمارسونها بالفطرة. إن الطفولة في جوهرها هي الحالة الأولى للحب الصافي والحرية الصادقة قبل أن يتدخل العقل ليقيس ويوازن ويقارن.
المحور الأول: الحب قبل المفاضلة
ومن هذه التجربة الصغيرة بدأت أرى أن ما تفعله خديجة لم يكن مجرد تصرف عابر، بل انعكاس لحكمة الطفولة في الحب. فالأطفال لا يعرفون المفاضلة في المشاعر، فهم يحبون لأن الحب بالنسبة لهم هو الأصل لا النتيجة. ولا يقيسون من أعطاهم أكثر، ولا من بادر أولًا، بل ينجذبون ببساطة إلى من يشعرون معه بالأمان والدفء في اللحظة نفسها.
وخديجة تحبني كما تحب أمها، لأن قلبها ما زال يقيم في منطقة النقاء الأولى، حيث لا توجد مقارنة ولا ترتيب، وحيث الحب لا يحتاج إلى مبررات ولا مقابل. أما نحن الكبار، فقد فقدنا هذه الفطرة حين بدأنا نحب بعقلٍ يحسب ويوازن ويقيس، حتى صار الحب عندنا معادلة تبحث عن نتيجة، بينما هو في جوهره إحساس لا يُبرر ولا يُثبت، يكفي أن يُعاش كما يعيشه الأطفال: عفويًا، صافيًا، ومن غير شرط.
المحور الثاني: حرية الاختيار الفطرية
وكما أن حب الأطفال فطري وبريء، فإن اختياراتهم كذلك تنبع من الصدق ذاته. فحين تختار خديجة أن تذهب مع أمها، فهي في الحقيقة تمارس أولى تجارب الحرية الإنسانية الصادقة. فالحرية عند الطفل لا تأتي في صورة تحدٍ أو رفض، بل تظهر كأقصى درجات الصدق مع الذات. وتختار خديجة ما تريده في اللحظة التي تعيشها، دون خوف من أن تغضب أحدًا أو تُرضي آخر، لأنها ما زالت متصالحة مع نفسها ومع مشاعرها.
وهنا تكمن المفارقة التي نعيشها نحن الكبار؛ إذ نقضي أعمارنا نحاول استعادة تلك الحرية التي فقدناها وسط زحام التوقعات الاجتماعية والخوف من نظرات الآخرين. وخديجة لا تعرف فلسفة كانط عن الإرادة الحرة، لكنها تعيشها بفطرتها النقية، وتختار لأنها تريد، لا لأنها مطالبة بأن تختار "الاختيار الصحيح"، وكأنها تقول لي دون وعي: إن الحرية الحقيقية ليست في أن نختار ما يرضي الآخرين، بل في أن نختار ما يُشبهنا.
المحور الثالث: الأبوة بين الامتلاك والمشاركة
وحين تأملت اختياراتها المتكررة، اكتشفت أن الحرية التي تعيشها ليست درسًا لها وحدها، بل لي أنا أيضًا، لأفهم نفسي كأبٍ في مرآة طفلته. فكنت أظن أن الأبوة تعني أن أكون الأول دائمًا، وأن أُختار قبل الجميع في كل موقف، لكن خديجة علّمتني أن الأبوة الحقيقية ليست منافسة على القلب، بل مشاركة في بنائه وتكوينه.
وأدركت أن الأبوة لا تعني أن تُختار في كل مرة، بل أن تظل حاضرًا في حياة أبنائك حتى حين لا تكون بجوارهم، وأن تمنحهم شعور الأمان في غيابك كما في وجودك، لأن الأب الحقيقي هو من يبقى أثره مطمئنًا حتى حين يغيب صوته. ومع الوقت فهمت أن الحب لا يُثبت بالاحتواء ولا يُقاس بالقرب، بل بالثقة التي تزرعها في قلب من تحب، وأن الطفل لا يحتاج إلى أبٍ كامل لا يخطئ، بل إلى أبٍ صادق يظل صوته الداخلي يقول له: أنا هنا دائمًا، حتى حين تختار غيري.
المحور الرابع: ما لم يقله الفلاسفة وقالته الطفولة
وهكذا، من خلال هذه التجربة الصغيرة، وجدت أن ما عشته مع خديجة يعيدني إلى جوهر ما تحدّث عنه الفلاسفة عبر العصور. فرأيت في طفلة صغيرة لا تعرف القراءة ما حاول الفلاسفة شرحه قرونًا طويلة. ورأيت فيها فكرة روسو عن الطبيعة الأولى التي يولد فيها الإنسان نقيًا، وملامح ما قصده الوجوديون حين قالوا إن الوعي يبدأ بالدهشة قبل أن يعرف الخوف.
وكانت خديجة تجسد أمامي تلك البراءة الأولى، البراءة التي تسبق المعرفة، حيث لا يحتاج الحب إلى منطق يبرره ولا الحرية إلى تعريف يضبطها، بل يكفي صدق اللحظة لتمنح للحياة معناها الأبسط والأجمل. كما رأيت في ملامحها الفلسفة وقد تخلت عن لغتها المعقدة لتتكلم بلغة القلب.
الفلسفة حين تتحول إلى حياة
وبعد كل ما تأملته، فهمت أن الفلسفة ليست مجرد أفكار تُقال، بل حياة تُعاش مع من نحب. فكل ما تعلمته من الكتب والمحاضرات بدا صغيرًا أمام ما تعلّمته من لحظة صادقة أو نظرة طفلة ترى العالم بعين الدهشة. ومن هنا وجدت نفسي أكتب هذه السطور، لا كفيلسوف يفسر الحياة، بل كأبٍ يحاول أن يفهمها من خلال أطفاله. وإلى خديجة حين تكبرين، قد تبتسمين وأنت تقرئين هذه الكلمات وتظنين أني كتبت عنك كما كتبت عن خالد وسجى، لكن الحقيقة أنكم جميعًا جزء مني، وكل واحد منكم علّمني شيئًا مختلفًا عن الآخر. فخالد علّمني الشجاعة والخيال، وسجى منحتني رقة الإحساس ودفء الحنان، أما أنت يا خديجة فقد جعلتِني أرى الحب في صورته الأولى: بسيطًا، صادقًا، وحرًّا.
لقد فهمت منكم جميعًا أن الحب الحقيقي لا يُقاس بالردود ولا يُحكم بالعقل، بل يُعاش كما هو: نقيًا، صادقًا، لا يطلب شيئًا في المقابل. وأن علينا أن نترك لمن نحبهم مساحة يختاروننا فيها أو يبتعدون، لأن الحب الذي يُفرض يتحول إلى عبء، أما الحب الذي يُترك ليختار طريقه فيكبر بحرية. ففي تلك المسافة بين القرب والاختيار تنمو إنسانيتنا وتزدهر حريتنا.
أما أنتم يا صغاري، فاحفظوا قدرتكم على الحب العفوي، ولا تسمحوا لأحد أن يجعل من قلوبكم موازين للردود، فالقلب لا يُقاس بما يأخذ، بل بما يعطي. واختاروا كما تختار خديجة، بصدق اللحظة لا بخوف النتيجة، لأن صدق اللحظة هو ما يمنح للحياة معناها الأجمل.
ولنا نحن الكبار أن نتعلم من الأطفال أن الحب لا يحتاج إلى تفسير، وأن الحرية لا تُستعاد إلا حين نرجع إلى تلك الفطرة الأولى التي لا تعرف الزيف. فلعلنا حين ننظر إلى العالم بعين طفل، نكتشف أن الفلسفة لم تكن يومًا علمًا بعيدًا عن الحياة، بل طريقة أصدق لفهمها، وربما طريقة أجمل لنحبها.
وأخيرًا أقول: لعلنا حين ننظر إلى العالم بعين طفل، ندرك أن الفلسفة لم تكن يومًا علمًا بعيدًا عن الحياة، بل طريقة أصدق لفهمها، وربما طريقة أجمل لنحبها... فربما لا نحتاج إلى عمرٍ طويل لنفهم الحياة، بل إلى قلبٍ صغير يعلّمنا أن نحب كما لو كنا أطفالًا من جديد .
***
أ. د. علي محمد عليان الخطيب
أستاذ ورئيس مجلس قسم الفلسفة- كلية الآداب- جامعة المنيا- مصر






