قضايا
أياد الزهيري: توظيف النبوءات والحكايات في السياسة الأموية
لقد عُرّفَت السياسة بأنها فن الممكن، ومن هذا التعريف أستنبط المشتغلون بالسياسة مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، يعني كل شيء متاح ويمكن أستخدامه، فهو مرخص لهم أستخدامة لتحقيق الغاية المراد بلوغها من قِبلهم، وأستناداً على هذا المبدأ سمحوا لأنفسهم أدخال الكثير من الممارسات الغير أخلاقية، والغير أنسانية في عملهم السياسي، بل وأعتبروه فناً سياسياً، يعبر عن حذاقة وذكاء ذلك السياسي الممارس لهذا العمل الموسوم باللاأخلاقي واللاأنساني مادام يصب في تحقيق أهداف رسمتها السياسة العامة لبلده. لاشك أن هكذا لون من السياسة، هي سياسة متجردة من الأخلاق والأنسانية، وقد شهدت الأنسانية جراء هذا اللون من السياسة الويلات تلو الويلات من جرائم الحروب، وأستعمار للشعوب، وهضم للحقوق.
السياسة كعلم ونظريات وممارسات توظف لأدارة الدول والشعوب، والتحكم في أيقاع ونوع العلاقة بين مكونات الشعب الواحد، ولكن للأسف جُيرت السياسة عند البعض من الحكام من أجل تعزيز سلطتهم، والتحكم بمقدرات شعوبهم، ومن هذا النوع من السياسة، هي السياسة التي رسمها الأمويون بقيادة معاوية بن أبي سفيان، وهو من سبق السياسي والمفكرالأيطالي نيكولا مكيافيلي، بل يمكن أعتبار معاوية هو المؤسس الحقيقي للمكيافيلية السياسية، فقد صنع نموذجاً سياسياً يوظف فيه كل الممكنات المتاحة، من أجل بناء مملكته وتوطيد حكمه، فقد كان نموذج للدهاء السياسي الموسوم بالشيطنة في بناء أمبراطوريته الأموية، والتي كانت نموذج خارج للمألوف في فلسفتها وممارستها للحكم، فقد حدد هدفه بوضوح، الا وهو السيطرة والحكم الفردي، وبناء أمبراطورية عائلية، وقد لخصها في كلمة له (ماقاتلتكم لتصوموا ولا لتحجوا ولالتزكوا. قد عرفت أنكم تفعلون ذلك وإنما لأتأمر عليكم...). فقد سمح لنفسه من أجل تحقيق ما يصبو إليه من هدف شخصي، كل الممكنات سواء كانت مادية كالحروب، وقد فعلها، وكانت أشهرها حرب صفين التي قاتل فيها خليفة المسلمين الشرعي علي بن أبي طالب، وما تعرض إليه معارضوه من قتل وأضطهاد ونفي وسجون. أو سياسياً فقد مارس سياسة الأحتواء، وهي أستراتيجية تتضمن التحيد والتهميش والأستلطاف والترغيب للمعارضين، وهي سياسة عُرفت، بسياسة شعرة معاوية، وقد لخصتها كلمة له يقول فيها (لو كان بيني وبين الناس شعرة لما إنقطعت، فإن مسوها تركتها، وأن أرخوها جذبتها). من خلال ما عرضناه من منهج معاوية بشكل مختصر، سنوضح الممارسة السياسية الغير أخلاقية في توظيف النبوءات والحكايات لأجل توطيد سلطانه، وهي ممارسة تنطبق عليها الشعار الذي رفعه زميله من بعده مكيافيلي، وهو (الغاية تبرر الوسيلة) وتحت هذا الشعار أستخدم معاوية ممارسة لم تكن معهودة في السابق،وهو أستخدام الدين لا لخدمة الفضيلة وأنما لخدمة السلطة، وخدمته شخصياً، وهذا النوع من الممارسة لا تتطلب من الشخص أن يكون شريفاُ، وأنما فقط محب لنفسه فقط، وقد قالها الرجل كما ذكرنا أعلاه.
نستعرض هنا بعض الممارسات التي سجلها لنا التاريخ في كيفية توظيف الأموين للنبوءات والحكايات، وهنا نأخذ أمثلة نوضح به ممارساتهم في توظيف هذه النبوءات والحكايات كطريقة يهيمنوا بهما على الجمهور، ويضمنوا ولاءهم وطاعتهم لهم، ونذكر هنا أمثلة : عندما أراد هشام بن عبد الملك أزاحة أبن أخيه الوليد بن يزيد بن عبد الملك من ولاية العهد، ساعياً الى تبديله بنجله مسلمة كولي للعهد فأستعان بمستشاريه، فأشاروا عليه بفكرة الأسلوب الدعائي المتمثل بأختلاق الروايات والحكايات الموضوعة متوخياً تسقيطه أجتماعياً كطريق لأقصاءه بعيداً عن الصراع المادي، فقد أستعان هشام بتنفيذ هذه المهمة بالفقهاء والمحدثين لتحصيل هذه النبوءات، وقد ساهم الزهري بعدد غير قليل من هذه النبوءات والأحاديث، ومنها عن الزهري حديث نبوي تظهر فيه شخصية الوليد المراد تسقيطها (وُلد لأخي أُم سلمة وَلد، فسموه الوليد، فقال النبي : سميتموه بأسماء فراعنتكم، ليكوننَّ في هذه الأمة رجل يُقال له الوليد، لهو أَشد لهذه الأمة من فرعون لقومه)، وفي حديث آخر : سيكون في الأمة فرعون، يُقال له الوليد)(معمار الفكر المعتزلي ص56)، وأما النوع الثاني من الدعاية المضادة، هي الحكايات التي قِلت بعد مقتل الوليد، تصور أنحرافه المزعوم عن أخلاق الأسلام، بل وخروجه عن الإنسانية وشيطنته، بل وزندقته بأعين المجتمع، فقد جاء في أحد الحكايات بأن الوليد كان يخفي تمثال لماني يتعبد إليه، وكأنه لا يؤمن بالأسلام) (الأصفهاني: الأغاني7/56)، وهناك حكاية أُخرى حُكيت عليه بأنه كان يسكر فوق سطح الكعبة انتهاكاً لحرمتها) (تاريخ الطبري6/180، البداية والنهاية 7/62 ) وفي حكاية أخرى تتقول (بأن الوليد كان يريد يجمع بين أختين) (معمار الفكر المعتزلي ص57). هذا الأسلوب لم يتوقف على خليفة أموي واحد بل هو خط عام لسياسي هذه الدولة، فقد لعبت هذه السياسة دور حاسم في أقناع الجمهور بأن تولية الحاكم هو أمر سماوي لا راد لقضاءه، وليس على الناس الا السمع والطاعة، وهنا نأخذ دور النبوءات في تثبيت وأستباب الأمر لعمر ابن العاص بولايته على مصر وأنه أمر حتمي بأعتباره قضاء وقدر ألهي، فقد ذكر ابن يوسف الكندي المتوفي في القرن الرابع الهجري في كتابه الولاة والقضاة في حديثه عن والي مصر عمر بن العاص كالآتي (كان عمر بن العاص تاجراً في الجاهلية فأتى الأسكندرية فوافق عيداً لهم يجتمعون فيه ويلعبون.. أجتمع أبناء الملوك وأحضروا كرة لهم مما عملها لهم حكماءهم فتراموا بها بينهم وكان من شأنها المتعارف عندهم من وقعت في حجره مَلك الأسكندرية،أو قالوا ملك مصر فجعلوا يترامون بها وعمر في النظارة فسقطت الكرة في حجره فتعجبوا لذلك، وقالوا ما كذبتنا هذه الكرة قط إلا هذه المرة وأنى لهذا الأعرابي يملك الأسكندرية، هذا والله لايكون) (محمد يسري: كيف لعبت النبوءة دوراً حاسماً في أنتقال السلطة)، ومن النبوءات التي قيلت لصالح تولية معاوية وتبرير سلطانه على رقاب المسلمين، هو ماذكره ابن كثير في كتاب البداية والنهاية المتوفي عام 700 هجرية وهناك من يقول 774 هجرية والذي يذكر في كتابه هذا أن هند بنت عتبة كانت قد تزوجت من الفاكه بن المغيرة المخزومي، وأنه في يوم ما شاهد الفاكه رجلاً يخرج من داره فشك في زوجته وأتهمها بالفسق والزنا، وتحاكم الطرفان الى أحد كهنة اليمن، فقام هذا الكاهن بتبرئة هند، وقال لها (أنهضي غير زانية، ولتلدن ملكاً يُقال له معاوية) وهنا أعتذر الفاكه لها ولكنها تركته وقالت له لأحرصن أن يكون هذا الملك من غيرك فتزوجت من أبي سفيان بن حرب وكان لهما معاوية. من المعروف أن أبن كثير من الموالين لبني أميه لأنه من تلاميذ ابن تيمية، لذلك يكون حريص على أظهار مناقب بني أمية، وهناك نبوءة أخرى نذكرها كمثال لا للحصر أخرجها البغوي عن طريق محمد بن سلام الجمحي عن أبان بن عثمان بن عفان قال فيها كان معاوية بمنى وهو غلام مع أمه إذ عثر، فقالت له قم لا رفعك الله، قال لها أعرابي لمَ تقولين هذا؟ والله إني أراه سيسود قومه، وأختم هذه النبوءات التي وظفت في الدجل السياسي، والتي أبدع فيها الأمويين أيما أبداع، والذي من خلاله عززوا سلطتهم في الحكم خلال 90 عام حكموا خلالها المسلمون بطريقة يتصاغر أمامها مكيافيلي بكل أساليبه الشيطانية، فقد ذكر الواقدي أن معاوية خاطب أهل الشام أثناء رجوعه بعد تنازل الحسن فقال (أيها الناس إن رسول الله قال: إنك ستلي الخلافة من بعدي، فأختر الأرض المقدسة، وقد أخترتكم فألعنوا أبا تراب فلعنوه. أن هذا اللون من التفكير يستند الى آيديولوجية أبتدعها الأمويون للأنقضاض على السلطة، وقد سًميت بعقيدة الجبر أو القدرية تعززها أمثال هذه النبوءات والحكايات المختلقة والملفقة، والمحبوكة بشكل فني لا يخلو واضعيها من خيال واسع.
***
أياد الزهيري