قضايا
بيار روبار: مقالة في العبودية المختارة لإتيان دي لابواسي
Étienne De la Boétie (1530 – 1563)
إحدى أوائل لوائح الإتهام ضد الحكم المطلق
نص: بيار روبار Pierre Ropert
ترجمة: رمضان بن رمضان
***
تعد "مقالة في العبودية المختارة " إحدى أهم النصوص في الفلسفة السياسية، إنها تطرح تساؤلا بسيطا: لماذا نختار أن نطيع؟ عودة على نشوء كتاب لا يزال موضوع الساعة بعد خمسة قرون من نشره." لماذا نطيع؟ " هذا سؤال طرحه إيتيان دو لابواسي، لتكن مصمما على أن لا تخضع أبدا وستكون حرا ". في القرن السادس عشر، هذه الكلمات بدو لابواسي تضع الأسس لسؤال ظل منذ ذلك الحين يطارد حقل الفلسفة السياسية: لماذا نطيع؟ فإذا كان عدد المحاولات les essais والمؤلفات les ouvrages التي حاولت الإجابة على هذا السؤال عديدة، فإن "مقالة في العبودية المختارة " لإتيان دي لابواسي الصادرة سنة 1576 م يعد مرجعا لا غنى عنه في الفلسفة السياسية المتصلة بهذا الموضوع. في القرن السادس عشر مثل هذا الخطاب لا يبدو واضحا وإن كان دو لابواسي قد نجا من الرقابة، فلأنه كان حريصا على عدم توجيه نقد مباشر إلى النظام الملكي ولا يحيل من خلال الأمثلة المضروبة إلا إلى الفترة القديمة la période Antique. ، " مقالة في العبودية المختارة " يشتمل على لائحة إتهام حقيقية ضد الحكم المطلق، تطرح علاقات الهيمنة: شرعية السلطة الممارسة على السكان ومدى مقبولية هذا الخضوع للسلطة. الكتاب يفاجئك بجودته بآعتبار أن صاحبه شاب ولد في الفاتح من نوفمبر سنة 1530 بسارلات Sarlat في البيريقور le Périgord وقد نشأ في عائلة من القضاة، فإتيان لا بواسي ألف كتابه الأهم وهو لم يبلغ بعد الثامنة عشرة من عمره ة قد زاول دراسة الحقوق في أورليون Orléans التي كانت معقلا للبروتستانتية الناشئة حيث تلتقي هناك النخبة المثقفة للمملكة وللولايات المجاورة.
1 – عمل مستوحى من القمع:
ما الذي يدفع شابا من البورجوازية الأورليانية orléanaise ليكتب نصا يعيد النظر في السلطة السياسية؟ " مقالة في العبودية المختارة " كتب على الأرجح حوالي سنة 1548 حسب ما قاله طالب الدكتوراه في الفلسفة السياسية، دافيد ميونيخ David Munnich في الحصة الإذاعية " ثلاثاء الكتاب " في مارس سنة 2010.إنها لحظة ثورة الضرائب la revolte des Gabelles في ألجنوب الغربي لفرنسا في غويان Guyenne والتي كانت ثورة عنيفة قام بها الفلاحون ضد سلطة مركزية كانت بصدد هيكلة نفسها. في تلك الفترة حاول الملك فرانسوا الأول توحيد الضريبة وهي أداء ملكي على الملح، إلا أن مناطق المستنقعات المالحة ومن ضمنها الغويان la Guyenne (التي تغطي الجنوب الغربي لفرنسا وعاصمتها بوردو Bordeaux ) تثور، فما يقارب العشرين ألف رجل ينضمون إلى ثورة الملح التي تم قمعها بشكل دموي سنة 1542 من قبل آن دي مونتمورنسي Anne de Montmorency . قبل هذا بقليل عرفت أوروبا فترة ثورية أخرى أشد عنفا وهي حرب الفلاحين في فرنسا وفي ألمانيا سنة 1525.يوضح دافيد ميونيخ أنه في النهاية كان القرن السادس عشر مضطربا وهو على الأرجح ما أثر في لابواسي أثناء كتابته لمؤلفه.
2- " إنه الشعب الذي يستعبد نفسه " إنقلاب في علاقات الهيمنة.
إن نص دي لا بواسي إنتشر أولا " في الخفاء سرا " في الدوائر الثقافية على إعتبار أنه تمرين أسلوبي أو " مقالا تحليليا لشاب " وهو ما جعله غير مسيء وبالتالي السماح له بالإنتشار. في القرن السادس عشر يأخذ هذا النص النقيض المطلق للتمثل الكلاسيكي للسلطة من خلال قلب مفاهيم الهيمنة والإستعباد،حيث يعتبر،تقليديا، أن الطاغية يسعى للسيطرة على الشعب وإستعباده. فحسب دي لابواسي إن المواطنين، في الواقع، هم من يتخلون عن سلطتهم ويسمحون له بأن يسيطر عليهم ويحرمون أنفسهم من حريتهم ليعطوها إلى الطغاة. " إنه الشعب الذي يستبعد نفسه والذي يقطع حنجرته ويختار أن يكون قنا أو أن يكون حرا ويتخلى عن حريته ويفضل نير الطاغية في حين أنه بإمكانه العيش في ظل قوانين جيدة وتحت حماية الدولة / الدول، لكنه يختار أن يعيش في ظل إنعدام الإنصاف القمع والظلم فقط لإرضاء الطاغية.إنه الشعب الذي يقبل هذا الشر أو بالأحرى يطلبه." "هذا المؤلف مخالف تماما لجميع الأطروحات الكلاسيكية للفلسفة السياسية " كما يؤكد ذلك دافيد مونيخ. لا بواسي هو أول من قام بهذا الإنعكاس cette inversion بطريقة قوية جدا، والذي كانت له نتائج خطيرة جدا لأن ذلك مثلا يعني ببساطة أنه في نهاية المطاف لكي تتحرر، لا حاجة لك للتمرد،يكفيك أن تمتنع عن العمل لأنك عندما تكون نشطا تحرم نفسك من حريتك،ولكي تسترجع حريتك يكفي أن تتوقف عن الرضوخ." إنكم تضعفون أنفسكم حتى يكون [السيد] هو الأقوى، ويمسككم بقسوة شديدة باللجام الأقصر.و يكيل لكم من الإهانات التي لا تتحملها الحيوانات نفسها لو شعرت بها. بإمكانكم أن تتحرروا إذا حاولتم ذلك مجرد محاولة، تكفيكم فقط الإرادة. لتصمموا فقط على عدم الخضوع وستكونون أحرارا. لا أطلب منكم أن تطيحوا به، أن تقوضوا حكمه، فقط أن تتوقفوا على دعمه. وسترون أنه [السيد] مثل عملاق عظيم تحطمت قاعدته وذابت تحت ثقله فآنكسر. " إيتيان دي لا بواسي.
3 – " لأنه كان هو، لأنه كنت أنا " لا معنى لدي لا بواسي بدون مونتانيي Montaigne (1533- 1592)
تبقى " مقالة في العبودية المختارة " الأثر الكبير لدي لابواسي ويكاد يكون ذلك هو الوحيد، لولا أنه يبدو أننا عرفنا له نصا آخر هو " مذكرات بشأن مرسوم جانفي 1562 " إضافة إلى السونوتات les sonnets التي ظلت سرية. إن قائمة مؤلفاته بقيت محدودة لأنه توفي وهو شاب سنة 1563 عن عمر ناهز الثانية والثلاثين عاما، ربما كان ضحية مرض السل. فإذا كنا نعرف الكثير اليوم عن مسيرته، فهذا بفضل صداقة متينة أقيمت مع شخصية كبيرة في تاريخ الأدب الفرنسي: مونتانيي Montaigne. لقد إلتقى الرجلان عندما كان كل منهما قاضيا حوالي عام 1557 وقد تولدت عن هذا اللقاء صداقة عميقة أشاد بها مونتانيي مطولا في في مقالاته ses Essais . يقول الكاتب جون ميشال دو لاكومت Jean- Michel Delacompte في برنامج " ثلاثاء الكاتب ": " أعتقد أنه لولا لم يتحدث مونتانيي عن ديلابواسي لن يتحدث عنه أحد اليوم." وأن مؤلفاته وخاصة أثره الرئيسي " مقالة في العبودية المختارة "،فمن المحتمل أن تظل غير معترف بها، إن لم نقل غير معروفة [...] فوفاة دي لابواسي كان الشرط نفسه لكتابة المقالات les Essais . في إحتفائه بصداقته مع دي لابواسي خصص أفضل جزء من الكتاب الأول، الفصل 28 – " عن الصداقة " والذي يقع في منتصف الكتاب وهو فصل مشهور جدا. يقول مونتانيي: " في الصداقة التي أتحدث عنها، تختلط صداقتنا وتمزج فيما بينها بمزيج كوني لدرجة أنه تختفي الخيوط التي نسجتها فلا نجد لها أثرا. فإذا ما ضغط علي لأقول لم أحببته؟ أشعر أنه لا يمكن التعبير عن هذا إلا من خلال الإجابة التالية: " لأنه كان هو، كنت أنا " المقالات les Essais . كان مونتاني يعتقد أن هذه المقالات هي في الأصل المكان المناسب للعمل الرائع لصديقه العظيم، كما كتب ذلك من كان مكلفا بآستقبال أو بتلقي تحفة chef-d'œuvre صديقه الكبير: النص ذائع الصيت " مقالة في العبودية المختارة " ولكن مونتانيي وقع في عجلة من أمره....منذ سنوات تعرض البروتستانت في فرنسا إلى مزيد من الإنتهاكات التي بلغت ذروتها عام 1572 بمذبحة سانت بارتليمي Saint- Barthélemy . إن تحدي السلطة الملكية أصبح حيويا بشكل متزايد وأساسا من قبل المنارشوماك (مجموعة مناهضة للملك وللنظام الملكي ).les monarchomaques، وهم الكتاب البروستنتانيون الذين شككوا في مفهوم الملكية المطلقة وأدانوا الطغاة.منذ سنوات 1550، مازال مؤلف دي لابواسي مسمترا في الإنتشار تحت العباءة خفية ووجد له جمهورا هنا،ففي سنة 1574 نشر لأول مرة بطريقة مبتورة ومجهولة في صحيفة كالفينية un journal calviniste ثم مكتملا تحت إسم الكونترن "....contr'un " بعد ثلاث سنوات. منذ ذلك الحين لا يمكن لمقالات مونتانيي أن تكون علبة جواهر.l'écrin التي تخيل أنه وضع فيها نص " مقالة في العبودية المختارة ". لقد أصبح من المستحيل عليه نشر نص صديقه دون المخاطرة بأن يتم إعتباره أحد المساندين للبروتستينية. إنه بلا شك من أجل ذلك، يؤكد مونتانيي أن دي لابواسي قد كتب كتابه في سن الثامنة عشرة، أو في سن السادسة عشرة، (في حين هناك عديد المؤشرات تتركنا نعتقد أن دي لابواسي كتبه بعد ذلك بسنوات ) ثم حاول التقليل من أهمية النص بالتأكيد على أنه قد عولج في طفولة لابواسي بآعتباره تمرينا فقط وموضوعا مألوفا ومربكا، حسب المؤرخ يوان فينيست كورتاز قادرا Juan Vincente Cortes- Cuadra بالنسبة إلى مونتانيي يتعلق الأمر بإخراج " المقالة " من حالة كونها رسالة نقد جدلية ضد الحكم الملكي وفصلها عن السياق الذي نشرت فيه وتم له ذلك ببعض النجاح فقد ظلت منسية ولم تذكر إلا بشكل متقطع على إمتداد عقود.
4 – في إستمرار راهنية الأثر:
علينا إنتظار مجيء الثورة الفرنسية حتى يخرج عمل دي لا بواسي من متاهة النسيان دون أن يكون ملهما للكاتب جون بول مارات Jean- Jean-Paul Marat في كتابه " سلاسل العبودية Les chaînes de l'esclavage " سنة 1774. في القرن التاسع عشر أعيد إكتشاف مقالة النقد un pamphlet لدي لا بواسي آكتسبت سريعا مكانة العمل الفلسفي بفضل إعادة نشرها سنة 1835 من قبل الكاهن والفيلسوف فيليستي دو لامني Félicité de la Mennais. منذ ذلك الحين، سيفرض مفهوم " العبودية المختارة " بآعتباره أحد التساؤلات المركزية للفلسفة السياسية التي ستلهم العديد من الفلاسفة: بيرغسون Bergson، سيمون ويل Simone weil، فليكس جاتري Félix Guattari وحتى جيل دولوز Gilles Deleuze على وجه الخصوص، إهتموا جميعهم بفكر كاتب القرن السادس عشر. ضمنيا يعد دي لا بواسي واحدا من أوائل المنظرين للإغتراب وأصبح، للمفارقة، بالنسبة إلى ممثل النظام العام، مثقفا ومبشرا بالفوضوية والعصيان المدني. بعد أكثر من أربعمائة وخمسين عاما من كتابته لمؤلفه، مازالت الأسئلة التي طرحها دي لابواسي، مستمرة، بطريقة غريبة، ومن مواضيع الساعة. يعتقد البعض أن المجتمع الرأسمالي لا يمكنه الإشتغال دون آليات الهيمنة التي تمت المحافظة عليها بفضل التواطئ النشيط للمهيمن عليهم." نص مقالة في العبودية المختارة يأخذنا إلى عدة مسارات، كلها في النهاية طرق مسدودة يؤكد ذلك دافيد مونيخ، ليقودنا إلى هذا اللغز وهو أن نقول: لماذا لا تتمرد الأغلبية؟.
***
......................
* نشر هذا النص في مجلة" فرنسا الثقافية France culture " بتاريخ 04 أفريل 2022، قسم الفلسفة.