قضايا
علي جاسب عبد الله: علم السؤال والاحتمال
لا ينجو أيُّ كلام من متاهات الاحتمال مهما حاول صاحبُه أن يُتقنه أو يُحكم صنعَه حتى النص القرآني الذي استبعده الإمام علي بن أبي طالب (ع) من دائرة الاحتجاج معتذراً بأنَّه حمَّال أوجه على الرغم من أنَّ طرفي المخاصمة قريبو عهد بنزوله إلا أنَّ قدرة الاحتمال على زعزعة اليقين الانسانيّ وخلخلة الاطمئنان القلبي دفعته للاستدلال بغير القرآن.
والاحتمال آفة الاستدلال، لذلك قالو " اذا دخل الاحتمالُ بطُل الاستدلالُ، إذ تتصاغر أمام الاحتمال قوةُ الإنسان العقليةُ وتضعف قدرتُه الذهنية ويقصُر إدراكُه وكأنَّ الاحتمال خُلِقَ ليُظهر للانسان عدمَ استطاعتِه وحدودَ إمكانه؛ ليتجلى مقدارُعجزه له بأوضح صوره .
فلا يمكن لأي إنسان أن يسد منافذ الاحتمال عن كلامه ويوصد أبوابه عنه مهما أُوتي من العلم والإمكان في ساعة نطقه وأوان قوله، أمّا إذا روتْه الألسن وتناقلته الكتب، فلا ريب في دخوله تحت سلطة الاحتمالات وإمكانات التأويل بلا حد ولا نهاية .
والاحتمال يتجلى بالسؤال ويظهر بالاستفهام . وهذا يعني أنَّه هو الذي يغذي علم السؤال (الجدل) ويزيد في قدرته ويعظم في سلطته وسطوته، فالسائل الجدليّ يبحث عن الاحتمالات الناقضة لأي فكر أو نص ليتخذ منها منفذا للطعن ومدخلا للإشكال وعذرا لعدم التصديق والاطمئنان، ومن هنا تبدو العلاقة بين الاحتمال والسؤال علاقة وثقى .فالسؤال يوّلده الاحتمالُ، والاحتمالُ يظهر متخفياً بالسؤال.
واللغة في ذلك كله وسيلة الاحتمال ومادته فهي التي تخرجه من العدم الى الوجود؛لأنَّها تفتح له المنافذ وتشق له المسالك وتمهد له الطريق وتنير دربه وفي الوقت نفسه هي التي تمنحه أداوت التساؤل وكيفياته وأنماطه وأساليبه، أي أنها تصنع للاحتمال مظاهره وأشكال ظهوره؛ لأنَّ اللغة ملك عام كالمصارف العامة يدّخر فيها كل متكلميّها ما يمتلكون من معان ودلالات .فالكلمات خزائن معاني أهل اللغة، فاذا ما استعمل الفرد مجموعة من الالفاظ، فهو يستعمل ما يشترك معه فيه غيرُه، وهذا هو الزند الذي تقدح به اللغةُ نارَ الاحتمال في أيّ نصٍ مهما كانت بلاغة صاحبه، وقدرته اللغوية حتى يبدو النص مفازةً في ليلة ظلماء يتيه فيها القارئ.
***
أ. د. علي جاسب عبد الله