قضايا
عبد السلام فاروق: موت وحياة اللغات
القطاع الأكاديمى فى أوروبا شديد التعلق بلغة يعرف أنها ماتت واندثرت، لكنه حريص على إعادة إحيائها، وهى اللغة اللاتينية.. تلك التى انبثقت منها كافة اللغات الحديثة كالإيطالية والفرنسية والألمانية والإنجليزية والأسبانية.. هذا نوع من التشبث بالجذور والوفاء للأصول وإعادة إحياء للتاريخ..
وعندما استقر اليهود فى أرض فلسطين المحتلة بحثوا عن لغة مشتركة يتحدث بها كافة اليهود المهاجرين من شتى أنحاء العالم إلى فلسطين، فكان حرصهم الأكبر هو إعادة إحياء اللغة العبرية التى كادت تندثر لولا الجامعة التى بنوها كأول ما بنوا لتعليم وتعميم اللغة العبرية..
لقد انشطرت اللغات واللهجات وتعددت حتى وصل عددها اليوم إلى نحو سبعة آلاف لغة، بعضها قديم باقى وبعضها جديد.. والذى يحدث فى الحقيقة هو التطور المستمر للغات العالم والتحديث يتم فى صورة لهجات تتجدد وألفاظ تتحور خاصةً فيما يتداوله العامة من كلام يختلف شكلاً ومضموناً عن اللغة الأم الفصيحة.. يحدث هذا فى اللغة العربية والإنجليزية وكل اللغات.. فلماذا تندثر لغات بعينها؟ وكيف بقيت اللغات القديمة آلاف السنين؟ وهل نحن فى حاجة لإحياء لغات ماتت؟
المسموع يفنى.. والمكتوب يبقى
التاريخ يذكر أن الكتابة المسمارية هى أقدم اللغات المسجلة فى العالم، رغم أن لغات عديدة سبقتها منذ آدم عليه السلام.. ما يعنى أن التدوين هو الأساس لبقاء اللغة وحياتها وتطورها.. يحدث هذا حتى فى النصوص المقدسة والمخطوطات الدينية.. ففى حين توجد بعض نصوص اللغة السنسكريتية التى كتبت بها الفيدا فى العقائد الهندوسية.. فإن نصوصاً أخرى ذهبت واندثرت، مثل صحف إبراهيم وزبور داود..
على الناحية الأخرى نجد كتاباً كالإنجيل موجود فى أقدم مخطوطاته "المخطوطة السيناوية" مكتوباً باللغة اليونانية رغم أن المسيح عيسي عليه السلام تحدث شفاهةً باللغة الآرامية! فالمسموع يختلف عن المكتوب.. وفى حين بقى المكتوب، بات المسموع رهناً بمن يسجله!
إن أفضل ما فعله قدماء المصريين أنهم سجلوا تاريخهم كله باللغة المكتوبة، ولعلهم الأقوى فى هذا المضمار.. والبرديات المصرية وما تم تسجيله علىى جدران المعابد والمسلات كان كافياً لنعرف تاريخاً سجلناه اليوم فى مئات وآلاف المجلدات فيما يُعرف بعلم المصريات.. هكذا أعيد إحياء اللغة الهيروغليفية المكتوبة رغم موتها منذ آلاف السنين! بل إن بعض المحاولات أجريت لتحويل الهيروغليفية إلى لغة مقروءة ومسموعة بنفس الطريقة التى نطق بها أجدادنا المصريين!
أميرة اللغات
الإحصائيات العالمية تهتم بذكر أقدم اللغات وأوسعها انتشاراً اليوم.. وفيما جاءت اللغتان العربية والصينية فى القائمتين معاً.. فدعونا نبحث عن مزايا أخرى يجب أن تؤخذ فى عين الاعتبار..
إن من بين السبعة آلاف لغة المنطوقة على لسان 8 مليار إنسان، ثمة 40% منها مهددة بالانقراض والتحول إلى تراث شفاهى مندثر، لدرجة أن بعض تلك اللغات لا يتحدث بها إلا ألف شخص فقط!
اللغات الأكثر تداولاً بين الناس لا يزيد عددها عن 23 لغة.. لكنها أثبتت جدارتها واستمراريتها لا لأنها قديمة أو مكتوبة أو سهلة النطق، لكن لأسباب أخرى أشد عمقاً.. مثل أن تكون مرنة قابلة للتطور ومواكبة للعصر بشكل دائم، وأن تظل لغة مطلوبة جغرافياً ودراسياً وواقعياً .. وأن تظل الأجيال التالية حريصة على تعلمها والتقيد بها..
هناك لغات واسعة الانتشار اليوم لكن نطاقها الجغرافى يتقلص، والناطقون بها يقلون.. إما لأنها أصعب فى النطق أو التعلم، أو أنها لغة لم تعد تتماشى مع متطلبات العصر ، أو أن لغات أخرى كالإنجليزية حلت محلها بسبب أهميتها العالمية فى الحياة العملية والعلمية معاً ..
وإذا عدنا لعصر الجاهلية وما حظيت به اللغة العربية من اهتمام العرب، وباتت الأشعار تقال فى معارض وأسواق جامعة لأهل الجزيرة العربية كافة.. فإننا سنكتشف أن كل ما قالوه من أشعار وقصائد كان مهدداً بالاندثار لولا مجئ النبي محمد عليه الصلاة والسلام ونزول القرآن.. والتطور المذهل والسريع والشامل الذى لحق بتلك اللغة البارعة يعود مرجعه إلى القرآن الكريم.. فمن خلال أسراره وآياته ولغته المعجزة خرجت علوم بأكملها كالبلاغة والنحو والصرف والاشتقاق، وبسبب سهولة حفظه ونطقه واحتوائه على سر ربانى مكنون بات الملايين يحفظونه عن ظهر قلب وإن لم يجيدوا اللغة العربية ذاتها!
اللغة العربية لغة متكاملة عريقة قابلة للتطور باستمرار، تنصهر فيها كافة اللغات بسهولة ويسر، ويسهل على الجميع تعلم أساسياتها بسرعة.. وهى فوق هذا متنوعة فى مخارجها اللفظية حتى سموها لغة الضاد؛ إذ يوجد بحروفها كافة الحروف المنطوقة فى كل لغات العالم وأكثر.. وهناك عشرات اللهجات الحديثة المنبثقة من رحمها، ومازالت العامية العربية تتطور باستمرار دون أن يشكل هذا خطراً على اللغة الأصلية الفصيحة التى بقيت منطوقة ومكتوبة ومحفوظة فى ملايين القواميس والمصادر والمراجع فى كل أنحاء العالم.. وإذا بحثت عن لغة تحوى كافة المزايا التى تجعلها تتربع على عرش لغات العالم فإن من الإنصاف أن تكون العربية هى تلك اللغة.
اللغة كمصدر للثروة والقوة
من بين صحابة الرسول الكريم، جاء زيد بن ثابت كأحد أهم الشخصيات المؤثرة فى تاريخ الإسلام.. ومن بين أسباب ذلك أنه كان مترجماً للرسول فى دعوته لكل من حوله من بلدان تتحدث لغات مختلفة كالعبرية والسريانية والرومانية وغيرها.. معنى هذا أن تعلم اللغات موهبة يمتاز بها البعض عن الآخرين.. وكان زيد بن ثابت يتعلم اللغة ويجيدها كأهلها فى زمن لا يزيد عن أسبوعين فحسب!!
وفى مقاطع اليوتيوب المنتشرة مقطع لشاب قيل إنه يجيد التحدث بما يزيد عن عشرين لغة! وهذا أمر متاح الآن أكثر من أى وقت مضى.. وثمة مهن ووظائف عالية الأجور تعتمد على إجادة الشخص لعدد من اللغات نطقاً وكتابة.. هكذا أصبح تعلم اللغات أمراً أساسياً لا غنى عنه فى أغلب مناهج العالم.. لكن هناك سر آخر من أسرار اللغة يجعلها مصدراً للقوة والهيمنة..
هذا السر نكتشفه من آخر إحصائيات ذكرت سرعة انتشار تدريس اللغة الصينية خارج الصين، فيما بدأ تدريس اللغة الفرنسية والألمانية يقل بشكل ملفت لأسباب أكثرها سياسي.. ولعل النبأ الذى يقول إن الجزائر قد منعت تدريس اللغة الفرنسية فى مدارسها يعطينا تصوراً عن تأثير السياسة العالمية على انتشار أو اندثار أو تقلص دور إحدى اللغات الرسمية العالمية.. هذا معناه أن اللغة ذاتها قد تُستغل كمصدر للقوة أو تُستخدم لجلب المال والثروة .
اللغات الموازية
ينفى الباحثون أن تكون ثمة لغة أصلية قديمة جامعة.. ويقولون إن تعدد اللغات أمر موجود منذ البداية، كما وجد الإنسان الأصفر والأسود والأبيض والقوقازى مختلفين منذ نشأتهم الأولى! وإذا كان التطور المستمر للغات لضرورة التفاهم بين البشر انقسمت وتكاثرت حتى بلغت سبعة آلاف لغة.. فقد نشأت لغات أخرى للتفاهم النوعى الخاص بين فئات بعينها.. إنها اللغات الكودية أو الرمزية أو المطلسمة..
مثلاً عالم السحر يعج بألفاظ ورموز لا يفهمها إلا مقتحموه.. وعالم المخابرات يعتمد فى أساسه على لغة التشفير والأكواد غير القابلة للحل والفك.. وأهم لغة باتت مطلوبة عملياً اليوم هى لغة الكمبيوتر فيما يسمى بلغات البرمجة.. تلك أنواع من اللغات الموازية المستخدمة فى أوساط خاصة، لكنها تحظى بنفس الاهتمام وبنفس القدرة على التحور والتطور من أجل مزيد من الاستفادة العامة..
إن اللغة فى حقيقتها ليست إلا جسر للعبور بين العقول والأفكار المختلفة، ولاشك أن حركات الترجمة عبر التاريخ أسهمت فى تطور البشرية.. وقد قيل فى الحكمة القديمة إن من عرف لغة قومٍ أمن شرهم.. وإذا كان ثمة رسالة أخيرة لهذا المقال فهى أن نفتخر أيما فخر باللغة العربية، وأن نحرص أيما حرص على تعلم كل ما نستطيعه من لغات العالم الرسمية أو الموازية..
***
د. عبد السلام فاروق